|
منال العبادي رواية «معزوفة اليوم السابع» لجلال برجس تأخذنا في رحلةٍ استعاريّةٍ غريبةٍ عبر مدينةٍ تسقط فيها الحواس واحدةً تلو الأخرى، بدءًا بفقدان أهلها انعكاساتهم في المرايا، ثمّ فقدانهم لحواسهم وكأنّهم يُجَرَّدون من إنسانيتهم بالتدريج. هذه الفكرة التصاعدية تُذكّرنا بأسئلة الوجود والهويّة: ماذا يتبقّى من الإنسان إذا انمحت صورته، ثمّ حواسّه؟ وكيف يُعاد تشكيل وعي الجماعة عندما تنقطع صِلاتها بالعالم الملموس؟ في قلب هذه الفوضى، يظهر الغجريّ بوصفه «الآخَر» المُتّهم تقليديّاً، لكنّه هنا يحمل مخطوط الجدّ الأول، ليكون جسراً بين الماضي الضائع والمستقبل المُمكن. المخطوط - بوصفه نصّاً موازياً داخل النصّ - يطرح إرثاً غامضاً يربط الخلاص بالناي، وكأنّ الموسيقى وحدها قادرةٌ على استعادة ما فقدته المدينة من معنى. الرواية تنسج عالماً ينتمي إلى الواقعيّة السحريّة، حيثُ تتحوّل المرايا من أدوات عاكسة إلى رموزٍ للهويّة المهدورة، بينما تتحوّل الموسيقى إلى لغةٍ بديلةٍ عن الحواسّ المُتعطّلة. لكنّ السؤال النقدي الأبرز هنا: هل تُقدّم الرواية حلولاً لانهيار الحواسّ، أم تكتفي بتصوير المأساة من خلال استعارةٍ مفتوحة؟ تتخذ رواية «معزوفة اليوم السابع» من اسمها مُفارقةً تثير التساؤل منذ العتبة الأولى: أي جمال هذا الذي تتحدث عنه؟ وأي قبح قد يُختبئ وراءه؟ تُقدّم لنا الرواية عالماً تتداخل فيه العالم الشخصي بالتاريخي، حيث تُحاك حكاية البطل(باختو) بخيوط من الواقع المرير والخيال المُحرّر. من خلال لغة سردية تتراوح بين السردي والواقعي، يجبرنا الكاتب على مواجهة تناقضات الذاكرة، والهروب من الماضي الذي لا يُغادر الحاضر إلى التنبؤ بالمستقبل المجهول، وكيفية تشكّل الهوية وسط عواصف الظروف الاجتماعية والسياسية والإنسانية. وفي إطار القراءة النقدية السيميائية، تُعد رواية «معزوفة اليوم السابع» للكاتب جلال برجس نموذجًا ثريًّا للتحليل الثقافي الذي يتجاوز البنى السطحية للنص إلى الأنساق المضمرة التي تشكّل وعيه الجمعي والرمزي. فالنص الروائي هنا ليس مجرد حكاية تُروى، بل هو نسيج من العلامات الثقافية التي تُنتج دلالات متعددة، تنفتح على تأويلات تُضيء ما وراء السرد، وفق رؤية نقدية تتعالق مع مرحلة ما بعد الحداثة، حيث لم يعد النص منغلقًا على ذاته، بل أصبح حقلًا لتقاطع الخطابات الاجتماعية، والسياسية، والأنثروبولوجية، والأسطورية. تتجلّى الأنساق المضمرة في الرواية من خلال بنيتها الثقافية العميقة، التي تعكس صراعات الوجود الإنساني في مواجهة الاستلاب والطبقية وتشويه الهوية وهذا النسق يُذكّرنا بـ»رواية العمى» لجوزيه ساراماغو، حيث يفقد البشر بصرهم الجسدي ليكتشفوا عماهم الأخلاقي. في كلتا الروايتين، يصبح فقدان الحواس مدخلًا لكشف الانهيار الأخلاقي. وذلك عبر آليات التحليل الثقافي مثل التورية الثقافية والمجاز الكلي والدلالة النسقية. فالنص ــ بحسب مفهوم المؤلف المزدوج ــ يحمل صوتين: صوت المؤلف الفعلي، وصوت الثقافة المضمرة التي تُعيد إنتاج نفسها عبر شخوص الرواية وأحداثها. من خلال قراءة الرواية، يمكن الكشف عن أنساق مضمرة متعددة، مثل: نسق امتهان الإنسان وتجليات والاستلاب والطبقية الاجتماعية والاقتصادية، ممثلةً في تعامل سكان الأحياء السبعة مع الغجر كـ»آخر» منبوذ. كما أظهر لنا الكاتب نسق الصراع الأبدي بين الخير والشر، الذي يتجسد في صراع جماعتي الطائر الأبيض والطائر الأسود، وفق جدلية ديالكتيكية تقوم على التناقض. وتجلى بكل وضوح لنا نسق الخضوع والتبعية للمصير الإنساني المشترك، حيث تحول البشر إلى ضحايا لقوى غامضة تفقدهم إنسانيتهم، من خلال خلق شخصيات شبحية تدفع نحو الموت، كتعبير عن أزمة الوجود واليأس والعمل على توظيف نسق تشويه الهوية وتحوّل المرايا من أدوات عاكسة إلى رموزٍ لفقدان الذات. حين يُحرم أهل المدينة من انعكاساتهم، يُصبحون أشباحًا بلا هوية، وهي فكرة تتقاطع مع مفهوم «موت الإنسان» في الفلسفة ما بعد الحداثية (كما عند فوكو)، حيث تُمسي الهوية مُجرَّد بناءٍ ثقافي قابلٍ للتفكيك. تم التركيز وبشكل واضح على النسق الأنثروبولوجي من خلال الكشف عن عادات الغجر وثقافتهم المهمَّشة. أما بالنسبة للنسق الأسطوري المتمثل في أسطورة الطائر والناي، الذي يربط الحاضر بالموروث الثقافي يُحاكي برجس أسطورة «ناي بان» في الميثولوجيا، حيث تُعاد كتابتها كأداةٍ لاستعادة الذاكرة المفقودة. ومن خلاله فأن هذه الأنساق لا تنفصل عن رؤية الكاتب النقدية للمجتمع الذي فقد إنسانيته، وصار يعيد إنتاج العنف والاستبداد بأشكال جديدة. فـالرواية ليست مجرد رواية، بل خطاب ثقافي مقاوم يكشف ما يُخفيه من الأيديولوجيات المهيمنة، مما جعلها نصًّا مفتوحًا على تأويلات تتجاوز الزمن الروائي إلى واقعنا المعاصر. ومن خلال التمعن في البنية الرمزيّة للرواية (المرايا، الغجري، المخطوط، الناي، الطائر) تبدو غنيّةً، لكن هل كانت تحتاج إلى تطويرٍ عضويّ يمنعها من التحوّل إلى مجرّد استعاراتٍ منفصلة؟! . كما أنّ تقسيم المدينة إلى سبعة أحياء يُثير فضول القارئ: هل ثمّة إحالةٌ إلى الرمزية الدينيّة أو الأسطورية للرقم سبعة، أم أنّها مساحةٌ سرديّةٌ فارغةٌ من الدلالة؟ وفي النهاية، تبقى الرواية محاولةً طموحةً لربط الفنّ (الموسيقى) بالخلاص الجماعيّ، لكنّها تقف على حافّة الغموض الذي قد يُثري النصّ أو يُغرقه في التعقيد. خلقت رواية جلال برجس خطابًا مقاومًا عبر تفجير الأنساق المضمرة في عالمنا، من خلال توظيف الرمز والميثولوجيا والسؤال الوجودي. رغم غموض بعض الحلول، إلا أنها نجحت في تحويل الرواية إلى مرآةٍ نقديةٍ لواقعٍ يفقد إنسانيته، تمامًا كما فعل ساراماغو في «العمى»، لكن بلسانٍ شرقيٍّ يُعيد إنتاج المأساة عبر ثقافته الخاصة موجهة للعالم بأكمله. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 17-05-2025 08:57 مساء
الزوار: 35 التعليقات: 0
|