عمان صدر حديثًا عن دار الخليج للنشر والتوزيع رواية «أفكار أبي» للكاتب والأكاديمي الدكتور قاسم محمد كوفحي. وتقع الرواية في 310 صفحات من القطع المتوسط، وقد جاءت بأسلوبٍ سردي دافئ ينتمي إلى أدب البيوت والذاكرة، حيث تنمو الشخصيات في حضن التفاصيل اليومية، وتتجلى دراما الحياة في أبسط الحركات وأكثرها عذوبة. الرواية، في ظاهرها، تأريخ لأحداث بسيطة داخل بيتٍ عاديّ، لكنها في جوهرها محرابٌ روحيٌّ وعاطفيّ تتعبد فيه الأسرة في صمت، وتؤدي فيه طقوسها الصغيرة التي تُبقيها حيّة رغم تبدلات الزمن. لا شيء فيها صاخب، لكنها مشبعة بالضوء، بالحنين، وبالأسئلة الوجودية التي تطرحها بلغة هادئة لا تستعرض، بل تنصت وتُشرك القارئ في حوار طويل مع ذاته. في قلب العمل، يحتل صالون بيت أبي صقر مساحةً رمزية وروحية، فهو ليس مجرد غرفة، بل كائنٌ حيٌّ ينبض بالماضي والحاضر، بالألفة والغياب، بالأمومة والأبوة، وبالحب الذي لا يحتاج إلى التصريح. يتحول الصالون إلى بطلٍ سرديّ، إلى مكانٍ تُخزّن فيه الذاكرة العائلية، وتُروى فيه الحكايات التي لا تُقال. يُقدِّم الدكتور قاسم شخصياته بحسّ إنساني عالٍ. فـ»أبو صقر» ليس أبًا تقليديًا فحسب، بل حارس القيم الصامت، الذي تنطق عيناه بما لا تقوله الكلمات. وأم صقر، هي الكائن الذي يجمع الشتات، تحضر بالفعل والحنان، لا بالصوت وحده. أما الأبناء الثلاثة، صقر، وناصر، وفهد، فهم أصوات الأجيال المتقابلة، بين الحنين إلى الجذور، والتوق إلى التغيير، وبينهما مساحة من التأمل والحوار. لكن الرواية تُفاجئ القارئ بشخصية أبي عماد، الأخ الأصغر الذي يعاني من إعاقة ذهنية، لكنه يصبح أيقونة الحضور الصافي في النص، وناطقًا بلغة خاصة من خلال كلمته الشهيرة «طقعت»، التي تبدأ كدعابة وتتحول إلى شيفرة وجدانية تلخص فلسفة الرواية. إنها الكلمة التي تفكك التوتر وتوحد المشهد وتعيد للحياة سذاجتها النقية. «طقعت» ليست مجرد تكرار لغوي، بل لحظة إنقاذ، ضوء في العتمة، بساطة تُعادل حكمة، فتتحول من تعبير عفوي إلى مفتاح سيميائي لفهم الروح العائلية بكاملها، وتصبح مفتاحاً للحكمة والضحك والمفاجأة. تمثل الرواية مرآة حقيقية لتحوّلات العائلة العربية، دون صراخ أو خطاب مباشر. ترصد بهدوء تغير طبيعة العلاقات، وبروز المسافة بين الأجيال، لكنها في المقابل تقدّم نموذجًا إنسانيًا راقيًا للمحبة والوفاء والتضحية، وللتماسك العائلي الذي لا يزال ممكنًا وسط زحام العصر. «أفكار أبي» ليست رواية تُقرأ، بل طقس من التأمل. إنها عودة إلى الداخل، إلى الحب الصامت، إلى الجذر الذي لا يصدأ. رواية تمشي مع قارئها على مهل، تصطحبه في دروب البيت والذاكرة، وتمنحه أخيرًا فنجان قهوة، ونظرة أم حنون.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-07-2025 11:18 مساء
الزوار: 31 التعليقات: 0