ديوان «غِيضَ الكَلام» لخضير.. شعرٌ مطمئنٌّ ومعافىً
عرار:
حتى لا تفقد الوقائع هالة قيمتها، ينبغي أن تذهب الكلمات إلى الأمام في هذه القراءة الأولى لتجربة الشاعر محمد خضير.
لن أذهب في استطرادات وشواهدة كثيرة، ولن أضع على بساط البرهان وثائق نصّية، تنفي أو تثبت. فحسب؛ سأومئ إلى أفكار وتساؤلات ترشح بها التجربة، تؤشِّر على مفاتيح قرائية تسمح بخلق حالة من التأملات الشاردة التي يمكن أن تغشى القارئ في أثناء سياحته في هذه التجربة. لقد سمحت ظروف الحالة الثقافية عندنا بانتشار مظاهر متعددة من الكيبوتسات الشعرية الزائفة، التي تَخدَّر مرتادوها بأفيون الأنوية والنرجسية. والمؤسف أنَّ هذه النماذج والمظاهر الشعرية الفيسبوكيّة تجد مّن يعقد معها زواجاً كاثوليكياً، فيرعى لها حفل توقيع ديوان شعريّ فجّ، قصائده عرجاء نحواً وعروضاً ولغةً، يطفح ناظمها بالفقر المعرفيّ. أقول هذا- وما تعلمونه أكثر- في سياق تأكيد مظلومية تجربة محمد خضير الشعرية المشحونة بخميرة شعرٍ حقيقيّ مطمئنٍّ ومعافىً، تجمع بين التخييل والذاكرة والصورة، على نحو يتدامج فيه الشعر بالفن التشكيليّ. لقد استطاع محمد خضير أن يموضع تجربته في مكانها وهو ينقلها من طفولة الفن الفطريّة إلى رشد الشعر المشغول عبر المزاوجة بين الطبع والصنعة. وهذه النَّقلة في ما أرى وليدة مكابدة ومعاناة على صعيد الانفعال الوجدانيّ، ومثابرة على صعيد النسج والتحكيك، القائم على تأسيس بنية معرفيّة تستلهم وتستدخل التجارب، حتى خرجت أخيراً بصورتها التي آلت إليها في ديوانه الأخير هذا «غِيض الكلام». والمَلحَظ الأوَّل الذي يسترعي الانتباه في هذا الديوان، هو مجيء عنوانه في صيغة المبني للمجهول(غِيضَ). والعنونة بهذه الصيغة النحوية نادرة في عناوين الشعر العربيّ. وفي هذه العنونة على هذا النحو، ما يسمح للقارئ بإعادة تنشيط تأملاته في الحدث الذي يعبِّر عن فعل الغيض، الدّال على نقصان الماء وذهابه في الأرض، وكذلك في الفاعل الذي أحدث هذا الغيض وسبب غياب الفاعل الحقيقيّ ليحلَّ محلَّه نائب الفاعل في فعل الفعل. ومع أن (الغيض) مرتبط بالماء والرَّحم، إلا أنَّ محمد خضير نجح في تحقيق الإزاحة الدلالية حين أسند الغيض إلى الكلام. فالخاصيّة المشتركة بين الماء والكلام هي أنَّ كلاً منهما يتحقّق فيه فِعلُ الجريان، فبين مجرى الماء ومجرى الكلام علاقة تلازمية، فالماء يجري في عناصر الطبيعة، والكلام يجري في النفس والضمير، وكلاهما يذهب ويغور، فالماء يغيض ذاهباً في منسرَبات الأرض، والكلام يغيض في مطاوي النفس وثنايا الوجدان حين تكتم النفس أحاسيسها رَغَباً أو رهبا. ولا يخفى أنَّ الشاعر قد استعار مفردة (غِيض) من المعجم القرآنيّ؛ إذ يُصدِّر القصيدة المعنونة بـ « النُّكران» أو ما قاله البحر، بالآية الرابعة والأربعين من سورة هود: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) فارتبط التناص بهذه القصيدة المائيّة ولم يرتبط بالقصيدة التي حملت عنوان الديوان. فما دلالة استخدام صيغة المبني للمجهول عنواناً مركزياً مسنداً إلى الكلام؟ المبنيُّ للمجهول في بعض وظائفه يفيد التعظيم، ولكنه هنا يفيد التعدُّد، أعنى تعدُّد وجوه الكلام. ومظاهر تعدُّد وجوه الكلام في هذا الديوان متعددة: - فثمة تعدُّد الموضوعات التي يمكن تسكينها في حقول: * الأسماء والأعلام، سواء أسماء الأشخاص، ومنهم الشاعر والسياسي والنبيّ والشهيد والعربيّ والعجميّ. وقد تواتر ورودها في الديوان تسع عشرة مرَّة. أو أسماء البلدان؛ إذ ورد في الديوان ذكرٌ لسبعة عشر موطناً. وقد حقَّق ورود الأعلام في هذا الحقل علاقات حوارية وتواصليّة بين النَّص والقارئ لذاكرة الجمعيَّة. حقل الغواية: وفيه تتبدّى العلاقة المتوازنة والملتبسة مع المرأة. حقل الحزن والألم والموت: وفيه تتبدّى العلاقة الصراعية مع الحياة ونُظُمها وقيمها. وهذا الحقول الرئيسة الثلاث تُفصح عن العلاقات الضّدية التي تربط النسق النّصيّ تركيباً وصورة مع بُنى الكلمات القائم الثنائيّة المتعاكسة. - وثمّة تعدُّدٌ كذلك في الأشكال التعبيريّة في القصيدة، فتحضر قصيدة التفعيلة المنضبطة إلى جوار القصيدة العمودية. وكذلك القصيدة الوافية إلى جانب المقطعات الشعرية القصيرة. ثمَّ إن عنوان الديوان اشتمل على بُعد إيحائيّ، من خلال المزاوجة بين البعد الدلالي للملفوظ الكلامي، والمكوّن البصري من خلال صورة القارب المخطوط تشكيلياً بحروف عربية. والقارب وسيلة نقل بحريّة يكون عُرضة للغرق، أو لأنْ يغيض في الماء. وهذا ما يقودنا إلى أنَّ ثيمة الماء تُعدُّ مفتاحاً رئيساً من مفاتيح قراءة الديوان. فالماء بدلالاته وصوره المتعددة الواردة يمنح الحلم الشعري لدى الشاعر نَشَوات الأنوثة، بما هي غواية يسعى الشاعر إلى تملُّكها وعيشها. إنَّ اللاشعور في الشاعر يعمل على نحو كتيم صامت نحو مشكلة حياته كلِّها، فيطفو الكلام على سطح الجذور الحقيقية لقدره الذي يتصارع معه. وحتى تتّضح الصورة لكم أكثرَ، نعود إلى الفعل (غيض) الذي استعاره الشاعر من المعجم القرآنيّ، الذي تتوافر فيه هذه اللفظة بصيغة المبني للمعلوم في الآية الثامنة من سورة الرعد، ونصُّها: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) أي ما نقص عن أن يتمّ حتى يموت. وقد سبق أن قلنا إن حقلَ الموت أحدُ الحقول المركزية التي ينطوي عليها هذا الديوان. فالعلاقة الملتبسة مع المرأة في حقل الغواية تتمثّل في حياة الحبّ وموته. وهو ما يفسِّر لنا أثر العلاقة الرَّحميّة في تشكيل هذه التجربة الشعرية التي تمضي إلى الأمام ، ومن أجلها جاء هذا الاحتفاء بها وبصاحبها.