بقلم د.رضا الابيض
يخوض عز الدين جلاوجي، بالإضافة إلى مهنة التدريس في الجامعة، تجربة نقدية وإبداعية راكم خلالها مدونة ثريّة في مجال الدراسة النقدية والكتابة الروائية وأدب الأطفال مسرحا وقصة..
ومن الأجناس التي خاض فيها جلاوجي كتابة ونقدًا “المسرديات”. وهي كما ينبئُ اسمها المركبُّ نصوصٌ تجمع بين المسرح والسرد تكسر ما بينهما من حواجز تقليدية، وتغامرُ بتشكيلِ نصّ جديد يجمع بين الجنسين..
في هذا الضربِ من الكتابة الهجينة hybride صدر لجلاوجي “النخلة وسلطان المدينة” و”رحلة فداء” و”البحث عن الشمس” و”الأقنعة المثقوبة” ونصوص أخرى كثيرة..
وصدر له في 2017 عن دار المنتهى كتابٌ متوسط الحجم ( 107 ص) اختار له من العناوين ” مسرحُ اللحظة مسردياتٌ قصيرة جدا” تضمّن مقدمة نظريّة ونصوصًا مسرديّة.
أما المقدمة النظرية فهي قصيرةٌ موجزة لم تتجاز خمس صفحات، بيدَ أنها كانت ثرية مكتنزة قلب فيها جلاوجي المعادلة التقليدية والتي تتمثل في القول الشائعِ ” المسرح أبو الفنون ” رأسًا على عقب، فصار عنده المسرحُ ” ابن الفنون”. ومعنى البنوّة ناشئٌ بسبب كون الأخير” نتاج تلاقح عدد كبير من الفنون نشأت قبله ” كما يقول.
وعليه فإنّ المسرحَ في تخلّقه وتكوينه يعتمد فنونا مثل الرقص والنحت والموسيقى والسرد، ويستثمرها ويعيدُ عجنها وتشكيلها. ولما كانت هذه الفنونُ ابنة الإنسان والحياة، فإنّها، وقدْ صارت عناصرَ مكوّنة للنصّ المسرحيّ، تمنحه ما به يكونُ ” النموذج الأرقى للحياة”، بل إن الحياة التي نشاهد ونحيا ما هي إلاّ مسرحية كبرى، كلُّ لحظةٍ منها هي فعلٌ مسرحيّ.
من هذا المنطلق كان عنوانُ الكتاب الرئيسيُّ ” مسرح اللحظة ” دلالة على أنّ الحياة، التي هي لحظاتٌ تتتالى، إنما هي فعلٌ مسرحي مستمرّ لا ينقطعُ.
وأمّا العنوان الفرعي ” مسرديات قصيرة جدا ” فهو ، كما يقول الكاتبُ، يُنزّل النصوصَ ضمن فعلِ القراءة وهو ما به ينصرف عن العرض وعن الركح إلى القراءة. يقول: ” .. فكانت المسردية مصطلحا قائما بذاته يجمع بين السّرد والمسرح ويهيء النصّ للقراءة ابتداءً من المستوى البصريّ إلى استحضار تقنيات السرد مع مراعاة خصوصية المسرح، وبهذا يكسب المسرحُ أيضا قراءه وقد خسرهم لقرون من الزمن في ظلّ دكتاتورية مارستها الخشبة على النصّ ومارسها المخرجون على الأدباء”(صص 8-9) .
على هذا النحو يصبحُ الباعث على تشكيل مثلِ هذه النصوص الهجينة ردُّ الاعتبار إلى النصّ وإلى القارئ أيْ إلى شعريّة الأدب، ليس رفضًا للمسرح ركحا وتمثيلا، ولكن حدّا من هيمنة الخشبة وسطوتها على النصّ.
وليس يخفى أنّ للمسرح نصّا. فلا عرضَ ولا تمثيلَ دون نصّ، بل إنّ الحركة على الرّكح ومقاطع الصّمت عُدّت، في الدراسات الحديثة، نصوصًا، وأنّ النصّ في المسرح إمّا أنْ يكون قد كُتب منذ البدءِ لغاية التمثيل، أو ان يكون نصّا أدبيّا في الأصل ثمّ طوّع لمقتضيات الركح والتمثيلِ.
ويبدو أنّ جلاوجي قد شعُر بما يُلحقه هذا التطويعُ من ضيمٍ على أدبية النصّ خاصة في التجارب المسرحية الحديثة التي أولت الجانب التقنيَّ ( الأضواء، الديكور، المؤثرات ..) أهمية على حساب النصّ أو الخطاب اللفظي.
إنّ هذا التعارضَ بين أدبية النصّ من جهةٍ ومقتضياتِ التمثيل المسرحيّ من جهة ثانية جعلَ العلاقة بين الكاتب المبدعِ والمخرج علاقة متوترةً لم تشجع كتاب النص المسرحي على الكتابة، ودفعت كثيرا من المخرجين إلى الاستغناء عن الكتاب والتعويلِ على أنفسهم فجمعوا بين الكتابة والإخراج، وهو ما سبّب خسارة كبرى للكتابة المسرحية إذ فقدت جمهورها من القراءِ واكتفت بجمهور من المشاهدين في تناقصٍ متزايد.
من هذا المنطلق، يختار جلاوجي مغامرة طريفة، بل يمكن القولُ إنها نضالية غايتها تحريرُ النصّ من “دكتاتورية الخشبة”، ويكتبُ نصوصا مسردية يوجهها إلى القارئ، علّه بذلك يحقق أمرين اثنين هما أولا: مواصلة كتابة النص المسرحي على أصوله الكلاسيكية بعد أن احتكرها لفترة طويلة المخرجون، وثانيا: إعادة استدعاء القراء وكسبهم للمسرح بعد أن خسرهم بسبب تهميشه النصّ.
إنّ بقاء المسرح محتكرا من قبل المخرج والممثلين والتقنين أمر يهدّده، في رأي جلاوجي، بالانقراض، خاصة في زمن التكنولوجيات الحديثة والانفجار الإلكتروني والتطور التقنيّ. وليس من حلّ لإعادة الاعتبار للمسرح إلاّ بإعطاء النصّ المسرحيّ المكانة التي تليق به.
من هنا كانت فكرة “المسردية “، هذا الجنس الهجين الذي يقتنصُ فيه الكاتبُ اللحظة ويكتبها نصّا أدبيا جميلا قابلا للقراءة وقادرًا على تحقيق متعتِها دون أنْ يخلوَ من مؤشرات وإرشاداتٍ ركحية قد يستفيدُ منها المخرجُ والممثل، ولكن الذي يستفيدُ منها قبلهما هو القارئُ إذ تساعده على أن يتخيّل النص، أثناء القراءة ، كأنه مسرحية.
على هذا النحو نكون أمام مغامرة في الكتابة غايتها إذا مسْرحةُ النصّ أي اقدار المتلقي على أنْ يقرأ النصّ على أنه مسرحية، فيراه في الذهن، قبل الركح، مسرحية هي في الحقيقة قطعة فنية رمزيةٌ تمثل لحظة من لحظات المسرحية الأكبر أي الحياة اليومية .
في الواقع، لا يستفيضُ جلاوجي في مقدمته النظرية تأسيسا لهذا الجنسِ وبيانا لفرضياته ورهاناته. ولذلك سريعا ما يختم هذه المقدمة القصيرة بدعوة النقاد والباحثين إلى نقد فكرته ومناقشتها واثرائها، لينتقل في القسمِ الأكبر من الكتاب إلى استكمال ما بدأه تنظيرا بنصوص إبداعية هي لا شك محاولة لاستثمار تلك المنطلقات النظرية.
تضمن القسمُ الثاني خمسة عشر نصّا منها الطريق، وعاشقان، وتكريم والأداور ومزاج والزيف .. إلخ كلها نصوصٌ قصيرة لم تتجاوز خمس صفحات، عمادُها الحوارُ، ومقدمة استهلالية سردية يمكن قراءتها أيضا على أنها ” إشارة ركحية ” تنهض بوظائف شتى كرسم الإطار الزماني والمكانيّ أو وصفِ الشخصية ووصف حركتها، وبناء ديكور الحدث…
ومن الإشارات، في نصوص جلاوجي، أيضا ما يتخلل النصّ، وما يكون في خاتمته.
نكتفي تمثيلا على ما ذكرنا بالإشارة إلى مقدمة نصّ ” متاهة” . يقول:
” على أريكة قطنية كان يتمدّد في تكاسلٍ واضح، يغيّر قنواتِ التلفزيون حينا، وينشغلُ بنشّ ذبابة عنيدة حينا آخر، تلجُ زوجته فجأة عليه بفنجان قهوة، يحملق في التلفاز والمذيعة تعلن إلى الشعب خطاب رئيس الدولة…”
في هذه المقدمة – الإشارة الركحيةِ يصف الراوي حركة الشّخصية ( يتمدّد ، يغيّ، ينشغل بـ، يحملق ) ويصف ديكور الفضاء و يعلن عن دخول شخصية أخرى.. ويهيء إلى حوارٍ غير مباشر بين الزوج و والرئيس، وإلى حوار بين الزوج وزوجته..
يتطور الحدث بفعل الحوار، وبفعل المقاطع السّردية التي تخللته ( غضب الزوجة، وصول الجار ودعوته الزوج وزوجته حضور حفل العرس ..) لينتهي المشهدُ بجملة سردية أو إشارة ركحية خاتمة هي : ” يجري وراءها بعصاه حتى يختفيا في غرفة مجاورة “.
وبغض النظر عن القضايا المثارة ومواقف الأطراف وسخرية العبارة والموقف، فإنّ الجملة الأخيرة التي كانت خاتمة النصّ لعبت فعلاً دورَ الإشارة الركحية حين أشارت إلى اختفاء الزوجين في غرفة مجاورة. فهذا الاختفاءُ هو إعلانٌ عن نهاية فعل المشاهدة، التي سمحت للراوي بفعل الرواية، وبالتالي أسدلت الستارة على الركح والممثلين.
كذلك يبدأ نصّ “الأدوار” بمقدمة أو إشارة طويلة نسبيا هي: ” في المقهى الفارغة يقف صاحبها خلف المحسب تائها يضع رأسه بين يديه كالنائم يجلس أحدهما في طاولة شملا ويجلس الثاني يمينا تظهر على الأول علامات الثراء الفاحش يرتب لباسه الثمين في كل لحظة يعبث بمفاتيح السيارة أحيانا وعلى الثاني تظهر علامات الفقر يقلب جريدة بين يديه يبتسم حينا ويقهقه أحيانا أخرى. يزداد قلق الغني وتزداد حركته حتى تكاد تكون لا إرادية “(ص82)
بالإضافة إلى انتماء لفظ ” أدوار ” إلى معجم المسرح، فإن هذه الفقرة السردية الاستهلالية كانت إشارة ركحية وصفَ فيها الراوي الإطار المكاني وسلط منظاره على هيئات الشخصيات وحركاتها الجسمانية ووصف مشاعرها فرسمَ لوحة متكاملة غنية لوفرة ” العلامات ” القابلة لأن تتجسّد مشهدا مسرحيا على الركح.
ويختم الراوي الحوار بجملة خاتمة تشبه تلك التي أنهى بها نصّ ” المتاهة ” إذ وصف إلى فعل الخروج وفي ذلك إشارة إلى نهاية القصة – المسرحية.
يقتنص الراوي، ومن خلفه الكاتب جلاوجي، في كل نصّ لحظة من لحظات الحياة اليومية، ويرويها في اختصار وتكثيف شديدين على مستوى الفضاء والشخصيات والحدث
والخطاب.. موظفا في ذلك مقوماتِ المسرح حوارًا وإشاراتٍ، ليكون النص في النهاية قابلا للقراءة وقابلا للتمثيل في آنٍ.
ولما كان النصُّ قصيرا فإنَّه إذا ما تسنى له وتحوّل إلى الركح فإنه سيكون تمثيلا سريعًا مقتضبا ليس من نوع المسرحيات الطويلة وإنما هو أقربُ إلى “الاسكاتش”، الذي يُعرّف في معاجم المسرح بكونه قطعة مسرحية قصيرة، بغض النظر سواء كان طابعُه هزليا أو دراميا. بيد إنّه إذا كان الاسكاتش عادة ” مرتجلا ” من تأليف المخرجين ووحي الممثلين، فإنه في نصوصِ جلاوجي كان خطابا أدبيا ناضجا فنيّا.
هكذا تكون هذه المسردياتُ التي تضمنها كتاب جلاوجي “مسرح اللحظة ” نصوصًا مسرحية جمعت بين الأدبية والقابلية للمسرحة، هدفها القارئ بدرجة أولى رغبة في إنقاذ المسرح. فإذا شقّت طريقها إلى الركح حافظت على أدبيتها ولم تسمح بأن تستبدّ بها الخشبةعلى نحو ما نشاهد في المسارح اليوم.