أجدُ صعوبة في بدأ الكتابة عن الشّاعرة ماماس أمرير، صعوبة في التّنفس بمعزل عن لغة عاتية قد توصلني إلى تسلق جدار غرفتها الموحشة  وصُعوبة في انتقاء السّطر الذي لن يؤدي بي إلى الهاوية،، والى عزلة المعنى حيث تُقيم بحذافير الحزن وحيث كل شيء يجري عكس ما يرام ،،وأنا لم ابتدأ بعد في خوض غمار شعرها وفي ديوانها «رأسي غرفة موحشة» الصّادر عن دار ابن بطوطة للنشر بعمان يتملكني ذهول غريب، كيف لكاتبة تُتقن البياض أن تلبس سواد الفراشة وتحلق في عتمة هذا الواقع بإرادة النّسر الذي يرفض تماما أن يكون جيفة سائغة ويفضل تلك البطولة في الانتحار تماما كما يرمي بك نصها من أعلى شرفات المجاز ثم تنحدر بأسطرها من أعلى قمة في المستحيل إلى كرامات السّفح حيث نبوءة ما تمنع تلك الرؤى الصّائبة من التّحلل..
ماماس أمرير تلك الشاعرة الآتية من الأقاصي لتبدد البلادة بمقدار من الجد والعنفوان وتبحث عن عقار يشفي العقل من الجفاف والرّوح من الغموض, ماماس أمرير رِتل المشاعر والدّهشة ويد ثالثة تخرج من مُزن لغتها لتسدد ضربة قاضية لهذه الحياة بأقصى ما يمكن من عبارة.
تقول ماماس:
تحتَ وسادَةِ الروحِ يختبئ إلهٌ مرعبٌ
يَلتَهمُني كقِطعَةِ حَلوى 
ثم يُقدّمُني قرباناً
لهَذيانهْ
إنه المقدس الذي لم يعد يشفي والأحجية التي تلتصق دائما بالغيب والموت المُعلن بشهامة البدايات ،للوسادة هنا راحة من التّعب والهوان، والمخلّص من الترّاكمات والرداءة التي تشوب الذائقة وحيث تتأجج الأفكار في رأس بتول وحيث الصّحو الذي ذهب مع الأموات بلون الغرق..
سَأحتَسي كلّ مَساءٍ وبهدوءٍ تامْ 
نَخبَ جِراحي
وعَثَراتي وأبتسمْ
أمدّدُ ساقي المكسورَةَ عَلى حافةِ الحزنْ
وأقْرأ نَشيدي الأخيرْ
لم ألتق يوما ماماس أمرير ولكني أتتبع دائما ظل حروفها هنا وهناك وكأي إنسان رسمت لها صورة في ذهني كنت أظن أن صوتها قوي وذات حزم وجلد وإذ أفاجئ في تسجيل لها أن صوتها أخف من الريشة وأنقى من دمعة على خذ أم، إنه هدوء مأهول بعاصفة ما تقلب عقب الأماكن وتعيد ترتيب الأزمة بالإرادة التي في قلبها لقد منحتني الدوار وأنا أقرأ لها ما يدور في غرفتها المؤثثة بالصّمت وحذاقة الكلمات..
لا يَغُرّنَكم هَذا الهُدوء عَلى وَجهي
وهَذِهِ الغُرفُ المرتّبَةْ
فَهُناكَ فَوْضى تَجْتاحُ المَكانَ في صَمْتٍ داخِلي
عندما يصبح للضّباب حبال يتعلق بها الشّاعر فإن النّجاة مُصيبة أخرى وعندما يتعلق الأمر بامرأة شاعرة فإن الثّبات يكون صعبا لمواجهة الواقع بقلب ميتافيزيقي وعقل يطلب الحرية ،لتصبح القصيدة غضبا وردّ الخوف بالقهقهة...هكذا ماماس توزع خبزا مهموما ونشيد الصّباح المرّ المتدفق من فناجين مكلومة..
فما أنا سِوى امرأةٍ توزع أملاً سحيقاً
وَتَزأرُ كحُطامٍ في مَهَبِّ الريحْ
**
يَقتَرِفُني
كجُرعَةٍ مُحرّمَةْ
ويَضَعُ اسْمي عَلى قارعَةِ الغِيابْ
الموت ليس المجهول والغياب والشّعر وقُود الحبّ للشاعر، وقد يكون ما قاله «إميل سيوران» عندما نموت نصير سادة العالم...هو الأرجح لسدّ فجوة ذلك السّؤال المنمّق بالهلع الذي يتردد على شفاه المحمومة بالخيال ...خيال شاعرة تنزّ خاصرتها بالطعنات..
تقول ماماس  :
أتساءلُ دائما:
 كَيفَ يَموتُ الشُعراءْ... «الهادِئونَ الرقيقونْ» 
أصْحابُ العِباراتِ المَلساءْ؟
العباراتُ التي تَنزَلقُ مِنْ ثُقبِ مُخيّلتِنا دونَ ضجيجْ
هي الغرفة الموحشة الفارغة والغثّة بروائح الكلمات، والعامرة بذخيرة تفتت حجر الزاوية ،الحجرة الفارغة القاتلة برمزيتها ودلالتها في إماطة الاستهلاك والعفن اليومي من قلب أنثى تصارع لبقاء الوردة وتعلن تمردا نفيسا قلّما تزأر به تاء تأنيث ترفض السّكون والبلادة والتهميش..
اسمَحوا لي بِقليلٍ مِنَ الكُفرْ 
سَأضَعَ عَلى الطاولةِ 
كلّ هَذِهِ الفوضى العارمَة في رَأسي
وأتدارسُ مع روحي جَدواها 
جدوى الرّوح المكلومة، الاستمرار بطعنة من السّعادة  وأمومة ينبعث منها صراخ لتعاطيها جرعة كبيرة من خريف الأحاسيس.
حرّضتني عَلى قَتْلِ كينونَتي
ومازِلتُ أنْجِبُ أحْزاني وأقَدمُها قُربانا للعالمْ  
الغرفة في ديوان ماماس موحشة بالفعل وقد تكون غرفة تعذيب  مسلُوخة عن جلد الأنا حيث الدّم و اللّارجاء، امرأة تكتب عن رحم مُباد بفكرة الموت والحياة.. وبالفوضى وبعقار يوقف شيخوخة الأسى..  
أمّا لونُ الدّماءِ فَقَدْ
سَكبَ مِنها رَحمي الكَثيرْ
ومازالَ يُبَعْثِرني في فَلسَفَةِ المَوْتِ والحياة
الوقت أزرار الآلة الصّدئة ،،مرايا الخسران ،، علّة الحبّ في ابتكاره المؤجل، ماماس أمرير شاعرة يخشاها السّهل المُبتل تخشاها اللّغة والتاريخ المرصوص بعطر الأمهات التي لبست بياض قصائدها وغشيتها الرّحمة حينا وشابتها الحرائق التي تقوّض ما تريد لبكائية باذخة بالصّور الوعرة التي تعطي للقارئ تلك اليقظة وذلك الوعي المصاب ...
حينَ يُخطِئُ قلبي طريقهُ إلى الحبْ، سأعَلّمُهُ كيفَ يَقطَعَ شَرايينَ المطَرْ! 
وكيف يُرَتّقُ ثُقوبَ السَماءْ
وكيفَ يَمشي عَلى شُعاعِ شَمسٍ حارقَةٍ
دونَ أنْ يَبكي!
الوطن، الحب الطفولة...، الحرب والعهر مكان ما في دوامة العقل يشكو جَلد الظلمة الفاجرة  وعجز الثّقة..أسباب متشابكة تبقي على تلك العروة في طرف ثوب نسيته الحرب مغموسا في اللاّوعي .. بعض هذا الخراب نجده مبثوثا هنا وهناك في الأبجدية التي تُعيل الحواس وترشد القارئ لسقف مبتور من الجهات الأربع في نص شاهق بالأسئلة،، إنّه الفقد في أعلى درجاته..
كُلّما زَرَعْتُني
نَخْلَةْ
تَبْتَلعُني الصّحراءْ
يمْتّدُّ صَخَبُ السرابْ
وَيَنْكَمِشُ العُمرْ
للشّعر عند ماماس فراديسه المستحيلة محاولة لتصفية الشّعر عن رفّ الجرح اليومي وإعطاء للكتابة طقساً وتجريدا قاسيا للون الأسود دون سواه ،محاولة أيضا لذبح اللّغة في صحراء المخيلة الوفية للقلق...أثقال الفقد بادية في نصوص الشاعرة ،جسارة قلّما يُؤجر عليها المعنى وتتسلق الغنائية الحزينة مساحة مربعة تدور فيها العواصف وتسقط فيها أمطار موسمية خرافية ...
أنا امْرأةٌ عَتيقَةٌ تَتجاهلُ القدرْ
وتتساءَلُ بِاستمرارْ: كَيفَ يَجرحُ العالمُ أنوثَتها؟
كيفَ يُحرضُ العَدمُ قَريحَتهْ؟
العدَمُ الذي يَتَجشأ..! 
وَيُصدرُ كوارثَ لا تَنتَهي
وريثما تتحول الغرفة الموحشة إلى إنعاش الحقيقة تَبقى حمى الشّعرية عند ماماس أمرير امتنان للانهاية بلغة استقصائية تفتت حيلة الوجود حجرا حجرا، وترثيه طيفا طيفا،، تلك العذابات المجنحة..بقلب أم.. تكتب طقس الموت والحياة..والألم.