تضعنا رواية (زند الحجر) مرة أخرى في مواجهة واحدة من اخطر إشكاليات الفنون السردية، تلك هي العلاقة بين الرواية والتاريخ. فالرواية ترد التطورات التي طرأت على المجتمع الطرابلسي في الربع الأخير من القرن الماضي عبر عائلة عبد الغفور وشبكة علاقاتها.

صدرت الروائية روايتها بملاحظة تبدو كما لو أنها تحاول تبرئة الرواية من شبهة التاريخ:

«هذه الرواية عمل خيالي. إن الشخصيات والأماكن والوقائع الواردة فيها هي من مخيلة الكاتبة أو جرى استخدامها في النص بشكل خيالي...».

لا شك ان أي قارئ رواية يعلم أنها من خيال كاتبها ليمرر عبرها رؤيته الكونية، فلماذا اختارت الكاتبة تصدير روايتها بهذه الملاحظة التي جرت المادة ان يضعها مخرجو الأعمال السياسية التلفزيونية أو السينمائية لتكون ذريعة قانونية تحميهم في حال مقاضاتهم؟ والواضح ان هذه العتبة وضعت للفت القارئ الى التشابه الكبير بين ما في الرواية من صور اجتماعية، وما يعرفه الطرابلسيون في الحقيقة، وهكذا تكون وظيفتها بعكس دلالتها الظاهرة.

يسجل التاريخ سير الملوك والعظماء، بينما تصور الرواية حياة الناس العاديين البسطاء الذين لا يهتم التاريخ بهم، وعندما يهتم التاريخ بالحوادث الكبرى، تدون الرواية التفاصيل الحياتية الضئيلة وهموم الناس الصغيرة، وهذا تماماً ما تفعله (زند الحجر)، فهي معنية بالمقام الأول برسم تفاصيل حياة الفقراء وهمومهم، فرسمت صورة غاية في الدقة والتفصيل لشؤون الشماليين في لبنان. حتى أننا قد لا نبالغ اذا قلنا ان الرواية عبارة عن دراسة اجتماعية صيغت بشكل رواية.

يتبع زند الحجر تقنية التبئير، فالاحداث لا تصلنا من بطلها مباشرة، ولا من شاهد شارك فيها، بل تصلنا على لسان «هدى» التي تخبرنا بقصة أبيها وجدها عبد الغفور كما سمعتها من رؤوف ، وكما شهدت بعضها. وهكذا فالرواية تتطلب قارئاً يستطيع . محاكمة النص لأن هدى لا تروي الأحداث كما اخبرها بها والدها نصاً، بل ترويها بلغتها هي، لغة الأنثى التي كثيراً ما تجنح نحو الشعر والرومانسية.

ليس من المعقول أن نتصور أن رؤوف قد وقف على تفاصيل مثل:

«... جلست على كرسي القش الصغير بين كومة من الثياب المكدسة عشوائيا وهي تبرطم بكلمات غير مفهومة بشفتين غليظتين كأنهما زهرة فم السمكة التي تزرعها فاطمة في علب من التنك...»

تصوغ هدى الحكاية بلغتها هي وتزينها بتصوراتها وتشبيهاتها، وهكذا ومن غير أن تعلم تقدم عرضا نقديا لحكاية أبيها. نحن نرى الكون بعيون عبد الغفور، ولكن كما فهمته هدى منه، ومن هنا تصبح الرؤية حكما، فجيل هدى يحاول تقييم تجربة الجيل السابق عبر استرجاع ذكرياته بلغة ناقدة.

حين يكون الراوي في القصة القصيرة أو الرواية بلغة المتكلم نتعامل معه كما لو كان إنسانا حقيقيا من لحم ودم، وجمال هذا الأسلوب يكمن في هذا الاعتبار، فالراوي المتكلم ليس موثوقا بروايته، فهو يمكن أن يكذب أو يختلق الحوادث كي يستميل القارئ لمناصرة رؤيته. وكانت هدى من هذا النوع من الرواة، فقد كانت متحيزة من خلال اختيارها للمواقف التي ترويها والصفات التي تصف بها الأشخاص والأماكن. هدى كانت تحاول على امتداد الرواية منحازة لرؤيتها ولأحكامها كالموقف من عائشة.

زند الحجر تطور كبير في مسيرة ضحى عبد الرؤوف المل، فقد أجادت تخطيط شخصياتها ورسم البيئات التي يعيشون فيها، وملأت الفضاء الروائي بالتفاصيل الغنية والتصوير الدقيق، وأصبحت شخصياتها أكثر حرية ووعيا بواقعها.

( د. ثائر العذارى )