نايف النوايسة

نالت المرأة حصة وافرة من الاهتمام في القصة القصيرة في الأردن، ولمست هذا الاهتمام في القصص التي تكتبها الأديبات الأردنيات، واتضح لي مما قرأت دقة الوصف والتشخيص والقدرة على التغلغل داخل النفوس وسبر أغوار الشخصيات، وأعزو ذلك إلى طبيعة المرأة التي تمتلك أدوات وحيلاً لتدرك من أسرار المرأة ما لا يملكه الأديب.
كل ذلك وجدته في قصص مجموعة (الأدرد) للأديبة مجدولين أبو الرب، وكانت تلاحق (نسوتها) في قصصها بدأب لا يفتر وملاحظة لا تضعف حتى تصل إلى ما تريد بما ينسجم مع سياق كل قصة، وتمكنت من رصد نسائها سواء أكانت شخصيات رئيسة أو ثانوية بعين فاحصة ولغة واضحة ومنطقية في البناء الفني بأدوات سابرة تمتلك القدرة على الإحاطة بتشكل الأحداث ونمو الشخصيات وحركتها داخل كل قصة.
الدخول من عتبات قصص أبو الرب سلس وسهل ولا يلمس المتفحص مواربة في الزوايا ولا تضليل في إدراك المغازي، ولم تكن النصوص ممردة لأحسبها لجّة فتثير في الخوف أو الملل.
كانت القاصة على وعي فاهم بما تريد، فلم تضل قدمها الطريق في إحراز الفكرة والبناء عليها، فكلماتها واضحة في دلالاتها، وأساليبها في نسج القصة غير عسيرة على الالتقاط وحققت من خلالها جلاء الوهم عن مراميها، وبحرفية النسّاج الماهر شبّكت في العلاقات داخل كل قصة؛ وكان تيار الوعي أحد أساليبها الذي له دور وافر في استحضار ما تريد من شخصيات وخفايا وتفاصيل، واستخدمت الحلم لقطع وتيرة السرد الأمر الذي يتطلب قدرة فنية على الدخول بالحلم والخروج منه،
إن الذي يقرأ قصص هذه المجموعة سيقف على المستوى الفني العالي الذي تجلّى في تكثيف النص دون اختلالات من الإقلال ولا جنوح إلى الهذر وفضول الكلام والتطويل بلا فائدة، لقد راعت التوازن في نسيج قصصها فلم تترك خيطاً زائداً يحتار المتلقي أين يضعه، ولم ينقص من قصصها خيط واحد تُعاب به.

دخلت باحة (الأدرد) باحثاً عن المرأة وعلاقتها في صنع حيوات القاصة في مجموعتها وكيف عكستها وتمكنت من إظهارها بصورة فنية ووظيفة كل امرأة داخل هذا الكون القصصي (الأدرد).
وقفت على صورة المرأة في قصة (امرأة تسيء الفهم)؛ فالمرأة هنا سطحية وساذجة وغير متبصرة فهي طوال جلستها في القطار بجوار والدها لم تتأنَّ في اصدار احكامها، وحين تتابع تفاصيل القصة سترى كيف تمكنت القاصة ابو الرب من ادارة محور القص على نحو متقن؛ فالبطلة في القصة ساورتها الشكوك من نظرات الرجل الذي يجلس على المقعد المقابل لها في القطار، فذهب بها الظن إلى أنه يعاكسها ويوغل نظراته في خفايا جسمها، فقلقت من تصرفه، واسترحعت من الذاكرة ممانعة أبيها من تزويجها لأن الناس في نظره يطمعون بماله.. وتبين لها أن الرجل أعمى حين لاحظت دليله قد أمسك به وقاده، فخجلت من نفسها.
وفي قصتها( عزف غير منفرد)، نرى سيدتين لم تلتقيا أبداً في الواقع، ولكنهما تركتا أثرا ملموساً في بناء القصة لتنتهي بعد ذلك الى نهايتها المنطقية..
السيدة الأولى مرفهة وكانت قد أصلحت سيارتها عند الميكانيكي الشاب، وبدر منها جانب انساني حين دعت الشاب الى حفل موسيقي لها علاقة به وأعطته بطاقة دعوة.. ولبى الشاب دعوتها.
اما السيدة الثانية فهي أم زميله في المدرسة/ الولد ذو الوجه الأبيض المنمّش؛ هذه السيدة مسكينة ومكافحة وهي التي وقّعت على التعهد أمام مدير المدرسة حين قام ابنها وزميله الميكانيكي باقتحام الغرفة الغامضة مدفوعين بحب الفضول الى ذلك.
ويبدو أن ابن السيدة المسكينة صار ذا شأن في المجتمع، وكان مدعواً إلى الحفل الموسيقي وقد لحظه الميكانيكي فعرفه وبدا عليه حالٌ اليسر من لباسه الأنيق.
وكأن القاصة أرادت أن تبين كيف تأخذ الحياة الناس في ما قدر لهم؛ فالسيدة المرفهة تعكس طابع الطبقة الارستقراطية والحياة الرغيدة، واما المرأة المسكينة فهي من قاع المجتمع وتمكنت من أن تصنع من ابنها شخصية مذكورة حتى يحضر الحفل الراقي.. ولم تظهر أم الميكانيكي، وعدم ظهوره لا يفيد شيئاً في سياق النص.
والقاصة ابو الرب هي بنت هذا الواقع ورقيبة عليه وتحس بنبضه وتكتب بصدق عن أوجاعه.. هذا الأمر ظهر جلياً في قصتها( ساحة خلفية) التي صورتْ فيها أزمة البنت المنبوذة من أمها والمكروهة من أخوتها.. وهي ابنة الخمس عشرة سنة التي استيقظت في مراهقتها على هذه الكراهية من أسرتها، ولماذا؟ ألأنها وُلدت سمراء وحواجبها كثيفة؟! فإذا كانت الأم تمثل قنديل المحبة في البيت ومبعث الدفء في أرجائه، فإن أي تصرف ينمّ عن عكس هذا فهو كارثي، وهذا ما أحسّت به ابنتها المسكينة، إذ أن الأم كانت تقول: (هذه البنت هي آخر من أنجبت واعتبرها زيادة)، فهل نتوقع من الابنة أن تضحك وتفرح!؟
لقد أدركت المسكينة مدى كره أسرتها لها، لا بل كان أخوتها يوُسعونها ضرباً لأقل هفوة تهفوها، فقررت الهرب من البيت لتتخلص من هذا العذاب من جهة، ولترى مقدار حبهم لها إذا فقدوها من جهة أخرى، وحينما شرعت في تنفيذ خطتها من الساحة الخلفية لعمارتهم، أحست بالخوف من البشر والأشياء والهوام، فعادت أدراجها مسرعة إلى البيت لكنها فوجئت بالباب موصداً، يا ويح هذه المسكينة من حظها العاثر!!
في هذه القصة نجد صورة مؤلمة للمرأة المنبوذة المكروهة متعثرة الحظ.
وتكشف قصة (الرجل الجالس على الرصيف) أزمة رجل مسن يعيش حالة نكوص مريعة في مراهقة متأخرة، سببها إهمال زوجته له وهروبها المتعمد من النوم معه في فراش واحد وتؤكد هروبها بأن تنام بين بناتها حتى لا يصل إليها،
وتفقد غريزةُ الجنس الرجلَ عقله، فيتخذ له مجلساً على الرصيف المواجه للعمارة، ويعرض خدماته على النساء ليساعدهن في حمل أشيائهن استداراً للشفقة من جهة والارتواء من مفاتنهن من جهة أخرى ويشهد على ذلك نظراته التي تلاحق أجساد النساء بنهمٍ شديد.
كانت الأرملة الشابة محل اهتمام الرجل المسن، ولم تفارق عينه شباك شقتها، ويتطور الأمر بأن يعرض عليها ذات لحظة الزواج فرفضته بشدة، لكنه لم يرعوِ ويبتعد عنها وإنما ازدادا إلحاحا.
لم يكن أمامها إلاّ أن تستخدم سلاح المرأة القاتل وهو الكيد لتتخلص منه، فلبّت دعوته ووافقت على زيارته ورتّبت له مقلباَ لا يتوقعه كي تؤدبه وتصرفه عنها.. لقد أعلمت زوجته بكل شيء ودعتها لتحضر اللقاء دون أن يعرف المسكين ماذا ينتظره.
دخل الرجل شقة الأرملة متأنقاً متعطراً، وكان في استقباله زوجته ترمقه بعينين غاضبتين، فأدرك المسكين أنه وقع في مصيدة( كيد النساء) وهو سلاح مسموح به في مثل هذه الحالة.
تظهر في هذه القصة صورة المرأة المُشتهاة المهددة بالإغواء وصورة المرأة التي تخلت عن واجباتها تجاه زوجها ولكنها لم مكانها كأنثى مهددة بالخطر الذي يكمن في جلسة زوجها على الرصيف وقد غضّت الطرف عنه حيناً من الزمن.
ويكشف الحلم الذي عاشته الشخصية المحورية في قصة( باب الواد) عن حب لا يحول لفلسطين، ولا يزول مع تقادم السنين، ولم يكن مجرد حلم عابر تمّحي أحداثه عند اليقظة وإنما هو حقيقة سكنت العقل والفؤاد.
فالشخصية الرئيسة/فتاة غفت وبيدها الرقم العسكري لوالدها فجاءها شيخ جليل حملها إلى القدس، وقال لها إن الدخول إلى المدينة لا يكون إلاّ من باب الواد ولا يتحقق إلاّ باليقين التام بأن من يريد الدخول هو صاحب حق وأن القدس وكل فلسطين هي أرض عربية إسلامية.
وتأخذ الذكرياتُ الفتاة إلى القدس تارة وإلى الزرقاء تارات فتتذكر مدرستها وجامع الشيشان والرجل الكريم قاسم بولاد الذي موّل كتيبة في الجيش بما تحتاجه في حرب 1948.
وفي الحلم التقت بوالدها الذي أمضى حياته عسكرياً، وحين استيقظت كان آخر ما علقت به يداها هو الرقم العسكري لوالدها، وكأنها أرادت الربط في حلمها ويقظتها ما كان يحلم به والدها من العودة لفلسطين وتشرّبت هذا اليقين منه.
إنها قصة المرأة المناضلة التي تنام وتصحو على يقين بأنها صاحبة حق، ولن تتنازل عنه مطلقاً.
ويكون الرجل خادماً للنص لتعبر الشخصية الرئيسة إلى باحته وتحمل أعبائه، ففي قصة( لماذا لمم يفرح مثلي) نجد الرجل الطيب( البركة) رفد النص بطِيبته لكي تكتمل أحداث القصة على النحو الذي أرادته القاصة.
عاشت أسرة الرجل المسكين/البركة أزمة حقيقية بعد وفاة والديه ووفق وصية الوالد زوجه أخوته من فتاة جميلة، ولما وجدته مسكيناً من أهل الله كرهته واستقوت عليه ولم تسمح له بأن ينام معها في سرير واحد، فأختار المسكين زاوية في البيت لتكون مخدعه.
ويتعطّل جهاز التلفاز ويصبح السعي حقيقيا لاستبداله أو تصليحه، وهنا تتسرب الخيانة الزوجية إلى هذا البيت، ويكتشف الزوج المسكين أن فني التصليح جاء إلى البيت لحظة دخوله، ولكنه غادر بسرعة من النافذة وحين سأل الزوج زوجته عن الرجل أوضحت بأنه الفني جاء وصلح التلفاز، وتوقف عقله البسيط عند خروج الرجل من النافذة وليس من الباب وغضب لأن زوجته بملابس غي لائقة.
وحاول استرضاءها بشتى السبل فرفضت وكانت تضربه وتهينه، وتطورت الأحداث حين كان يسعى لمساعدتها في المطبخ فتطرده، وذات مرة هجمت عليه وضربته وحاولت خنقه فتناول سطلاً فارغاً فضربها به ففقدت وعيها، وظن أنه قتلها فخاف وهرب من البيت وضاقت عليه الدنيا حين تخيّل نفسه مشنوقاً فذهب إلى بيت أخيه وأعلمه بالأمر، وهرع الجميع إلى المستشفى ليجدوا الزوجة وأمها الذي بان على وجهها الغضب من فعلة الزوج/البركة، وبشّرت الجميع بأن تحاليل المختبر بينت أن الزوجة حامل.
وهنا تبرز لنا صورة المرأة الخائنة، فزوجها المسكين لم يلتق معها مطلقاً في فراش الزوجية.
خلاصة ما تريده القاصة أبو الرب
هو إظهار صور للمرأة لتكشف من خلالها شبكة العلاقات الإنسانية داخل قصصها وقد أفلحت في هذا المسعى بلغتها القصصية المتمكنة وأساليبها السردية الدقيقة، فوقفنا على صورة المرأة قصيرة النظر المتعجلة، والسيدة المرفهة ذات القلب الطيب، والسيدة المكافحة، والمرأة المنبوذة المكروهة، والمرأة العاقلة ذات الدهاء وهي الأرملة الشابة، والسيدة الطيبة البريئة ويقابلها السيدة الحاقدة، وآخر هذه الصور كانت للمرأة الخائنة التي استغلت طِيبة زوجها وضعف عقله لتنحرف وتمارس الرذيلة.

المصدر: جريدة الدستور الاردنية