|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
«كايميرا 19» بوصفها مختبرًا لنقد ما بعد الاستعمار..
عاشقة
الصحراء :
غسان إسماعيل عبد الخالق تواصل الروائية الأردنية سميحة خريس، في روايتها الأحدث (كايميرا 19)، (دار الآن ناشرون وموزعون، 2022)، العزف على وتر ما بعد الاستعمار، بمهارة فكرية وأسلوبية لافتة، وبعيدا عن التسطيح والمباشرة والوعظ كل البعد؛ فانطلاقًا من إحدى قرى (مأدبا) التي تتداخل فيها أنماط العيش البدوي والقروي والمديني، تشرع في نسج أسطورة (أوس البيرق)، المولع بقتل الحيوانات والناقم على أبيه الفقير المستكين وأمه الساذجة، مرورًا بكل المفارقات التي ترتبت على التحاقه بالمدرسة في سن متأخرة نسبيًا، والتي أسهمت أيضًا في بلورة حقده الطبقي على (كايد) ابن شيخ العشيرة الكبيرة التي ينتمي إليها، وليس انتهاءً بتمكّنه من الالتحاق بكلية لندن لنيل البكالوريوس في السياسة والاقتصاد، جنبًا إلى جنب غريمه الذي التحق بجامعة لندن ليتخصص في الحقوق. وخلافًا لتوقّعات أساتذته الذين بهروا بتفوّقه العالي وأملوا بأن يواصل دراساته العليا، فإن (أوس البيرق) يقرّر العودة إلى (عمّان)، مدجّجًا بشهادته العلمية وخبرته العملية في تهريب المخدّرات والأسلحة التي اكتسبها من أزقّة لندن، على يدي زميله الأفغاني. يعود إلى عمّان بأعصاب باردة وقلب بارد وعقل بارد، ويفتح مصنعًا ناجحًا للشيكولاتة، حتى يكون واجهة لتبييض ثروته الطائلة، وحتى يتمكّن من نسج شبكة من العلاقات الواسعة مع رجال الأعمال وأصحاب النفوذ، بمساعدة زوجته (رجاء) التي لا تدّخر وسعًا لتلميع صورته في المجتمع، على امتداد عقد من الزمان الذي يتوتّر فجأة ودون مقدّمات، جرّاء قدوم جائحة الكورونا من جهة، وجرّاء نفاد صبر الزوجة التي لم تنجب من جهة أخرى، ما يضطرّه للسفر إلى لندن بحثًا عن تشخيص وعلاج لفحولته المجروحة، ليكتشف في ضوء الفحوصات المخبرية والطبية التي أجراها، أنه ليس مجرّد (كايميرا) بشري؛ أي أنه تجسيد جيني لمشروع توأم لم يرَ النور فقط، بل إنه (كايميرا) حيواني؛ أي أنه تجسيد جيني لكائن يجمع بين البشر والوحوش! قلنا إن هذه الرواية تمثّل مختبرًا نموذجيًا لنقد ما بعد الاستعمار في أبرز وجوهها، وهي كذلك فعلاً للأسباب التالية: أولاً: لم تخض سميحة خريس في تاريخ عشيرة (البيرق) الذي سبق الاستعمار أو واكبه، بل هي اكتفت بالتعامل الإبداعي مع الواقع الذي خلّفه ورسّخه هذا الاستعمار كما هو؛ أي الواقع الذي نصّب الشيخ زعيمًا مُطاعًا لعشيرة (البيرق) وبامتيازات مادية ومعنوية واسعة، فيما أن السواد الأعظم من أبناء العشيرة يرتعون في الفقر والمهانة وقلّة الحيلة. ثانيًا: يفصح المنظار الذي رأت به سميحة خريس لندن، أو المنظار الذي أعارته لأوس البيرق وهو يسرد مشاهداته وملاحظاته وتجاربه في مدينة الضباب، عن رؤية نقدية تفكيكية لأمجاد الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها التابعة، وقد بدت لندن وفقًا لهذا المنظار مدينة تجاهد عبثًا للاحتفاظ بشيء من ألقها الاستعماري البائد، إلى درجة أن من يضخّون قدرًا من الحيوية في أوصالها المتيبسة ويملؤون شوارعها الباردة المهجورة، هم أتباعها الذين سبق لها أن استعبدتهم ثم دار الزمن دورته، فإذا بهم مواطنوها. وباختصار فإن هذا المنظار أبعد ما يكون عن الانبهار والاندهاش ولا يخلو من الشماتة. ثالثًا: بالإضافة إلى التنويه بأن طلبة كلية لندن سرعان ما يعودون إلى بلادهم ليجترحوا فيها الأعاجيب وفقًا لنمط التفكير والحياة الرأسمالية، فإن سميحة خريس لم يفتها إبراز التناقض الجذري بين (أوس البيرق) والبنية الرأسمالية الاستعمارية المتوحّشة من جهة، والبنية الرأسمالية المتخفيّة بمسوح الإنسانية من جهة أخرى؛ فالبروفيسور (سينيث) الذي لا يدّخر وسعًا للتباكي على طفولته المضطهدة في أمريكا بسبب يهوديته وفقره، كما لا يدّخر وسعًا للتبشير بإمكانية تجسير الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لا يتورّع عن جلد تلميذه البدوي المتمرّد على كل النظريات بقوله: (أنت البدوي الفقير القادم من العالم الثالث، وأنا الأستاذ القادم من دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، نتحدث لأنني استدعيتك، ألغيت المسافة بيني وبينك، وصدقني، هذه إحدى ميزات وأشكال التعاون يا شاطر)! وكأنه يستعيد ما قاله سابقًا شاعر الإمبراطورية كبلنج: (الشرق شرق- الغرب غرب- الشرق والغرب لن يلتقيا)! رابعًا: أبدعت سميحة خريس في توظيف الاستعارة البيولوجية (التعرّق الشديد والرائحة النفّاذة اللتان يمتاز بهما أوس البيرق) على أكثر من مستوى؛ فعلى المستوى الطبقي الاجتماعي أفصحت هاتان السمتان عن دونيته الشديدة، وعلى المستوى الأسطوري فسّرتا صلته الوطيدة بعالم الحيوان. وأما على المستوى الحضاري (نقد ما بعد الاستعمار) فقد مثّلتا وشمه الثابت بوصفه تابعًا مدموغًا. خامسًا: استقراء النسق المضمر الذي يستبطن الرؤية ما بعد الاستعمارية في هذه الرواية – وخاصة على صعيد التماهي التام بين شخصية كايد ابن شيخ العشيرة والبنية الرأسمالية الاستعمارية البريطانية- يُحمّل الأخيرة مسؤولية ما آل إليه الواقع المُسْتَعمَر (سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا) من فساد وانحلال، إلى درجة أن هذا الواقع الذي تعارف الخبراء سابقًا على اعتباره (ممرّا لتجارة المخدّرات والأسلحة) صار (سوقًا استهلاكية واعدة)! سادسًا: إن (أوس البيرق) بوصفه خرّيج كليّة لندن وخرّيج أزقتها المشبوهة، يمثّل النموذج الأعلى والمتوحّش لرجل الأعمال في القرن الواحد والعشرين؛ بلا ضمير وبلا أخلاق وبلا غايات أو أهداف. إنه يعيش بأكثر من شخصية واسم وجواز سفر، ليجني المال ويستمتع بالفوز لا أكثر، ولا يعنيه بحال من الأحوال عدد الضحايا أو أعمارهم أو جنسياتهم أو انتماءاتهم. سابعًا: إن ذروة المأساة وقمة السخرية في هذه الرواية، تتمثّل في أن (أوس البيرق) الذي تعلّم في لندن ولكنه كرهها من أعماق قلبه، لم يجد بدًا من العودة إليها بحثًا عن تشخيص وعلاج لفحولته المثلومة، ما يؤكّد إحدى أطروحات الفكر الاستعماري البغيض ومؤدّاها: مهما تمرّد التابع فلا بد أن يعود يومًا لأحضان المتبوع، بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من إغراءات مواصلة هذه القراءة الثقافية الموجزة – وهي كثيرة- فإن من حق القرّاء أيضًا، أن يحاطوا علمًا بأن هذه الرواية المتوحّشة على صعيد الرؤية والمضمون، قد سُردت بأسلوب السيرة الذاتية المتدفّق السيّال؛ بدءًا من الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة. ولم تفارق الرشاقة كاتبتها على الرغم من تعدّد ضروب سرد هذه السيرة؛ وصفًا أو اعترافًا أو مناجاةً أو مقارنةً، جرّاء إصرارها على تفعيل الفقرة الخبرية القصيرة المستقلة، ودون الاستعانة بأي ضرب من ضروب أدوات الربط بين الفقرات، بما في ذلك واو العطف. وإذا كان من البديهي القول بأن شكل السرد قد جاء مطابقًا لمضمون شخصية (أوس البيرق)؛ المغلقة والمتفرّدة والنرجسية، فإن من البديهي أيضًا – لهذه الأسباب- أن تنحسر مساحة الحوار الذي طالما نفر منه صاحبنا، وآثر التمركز داخل ذاته بوصفها متنًا يدور من حوله الآخرون الهوامش. ومن حق القرّاء أيضًا، أن يحاطوا علمًا بأن أوجه الإغراء في هذه الرواية لا تقتصر على استقرائها في ذاتها، بل تمتد لتشمل مقارنتها برواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح الذي لم يرفد أدب ما بعد الاستعمار بأبرز أيقوناته وهواجسه فقط، بل فتح أيضًا باب التأمل في مصائر واحتمالات الفحولة العربية المجروحة حينما تكتوي بثلج لندن. كما تمتد لتشمل معاينتها في ضوء أدب الكوارث الذي يمتدّ من طواعين القرون الوسطى مرورًا بإنفلونزا القرن العشرين، وليس انتهاء بكوفيد 19 الذي ما زال يملأ الدنيا ويُهلك الناس. الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الأحد 16-10-2022 08:49 مساء الزوار: 296
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
ميزان النقد في رأي المجتهد بقلم نجم ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
“حكايات الليدي ندى”.. شبكة التواصل ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 25-02-2019 |
مهيئات تقنين المصطلح النقدي | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 19-05-2018 |
نقد النقد في التقديم للكتب النقدية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 27-10-2017 |
النقد البنيوي للسرد العربي في الربع ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-10-2017 |
ختام فعاليات مؤتمر فيلادلفيا الدولي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 15-04-2017 |