إشراف بن مراد المساعفة

«سما هبة الله للأرض نساء» هكذا اختارت الكاتبة التونسية نجاة إدهان أن تُعنون روايتها الصادرة مؤخرا عن دار الكتاب تونس، والتي جاءت في 296 صفحة من القطع المتوسط، لتضاف بذلك إلى بقية أعمالها السابقة ونذكر منها في صنف الرواية «أعداء الله.. نبوءة من زمن مجنون»، «وطن بطعم البرتقال»، وفي صنف المجموعات القصصية «للنساء وجع آخر»، و»يشبهون القمر».

وكما يشير عنوان الرواية (سما هبة الله للأرض نساء) يبدو واضحا للقارئ منذ العتبة الأولى أنَّ الشخصية الرئيسة التي ستحرك الأحداث وتقود الحبكة السردية هي امرأة. ولعل هذا ليس بالغريب عن نجاة ادهان التي يبدو واضحا أنها تعمل على المرأة في نصوصها السردية وذلك ليس كعنصر جندري صرف وإنما كرمز يتخطى حضورها الانثوي ليصبح مرجعية رمزية ذات طابع إنساني شامل يتجلى من خلال ثنائيات عديدة منها المرأة والوطن، والمرأة والمجتمع، والمرأة والوعي والمرأة والدين والمرأة والرجل..

وهو ما يدفعنا إلى القول دون تردد أن نجاة إدهان كاتبة المرأة بامتياز. فهي لا تعمل عليها بانحياز عاطفي متطرف وإنما تسعى في كل مرة إلى أن تشخص بقلمها وجع المرأة وتوصل صوتها في مسعى لمواجهة ما تعيشه من تحديات وأزمات نفسية ومجتمعية وثقافية مرتبطة بما يعرفه المجتمع التونسي والعربي عموما من إشكاليات متعددة في هذا الخصوص بعيدا عن الصور النمطية التي ارتبطت بقضية المرأة . وهو ما جعل الكثيرين يقدمونها في صورة الإنسان الضعيف الذي يشكو المظلومية والشعور بالدونية والتمييزدون أن يكون لها قوة الفعل والتغيير.

وفي المقابل، نجد أنَّ رواية «سما هبة الله للأرض نساء» جاءت لتتناغم مع السمفونية التي ألفتها نجاة إدهان في عوالمها السردية وضبطتها على إيقاعٍ مفاتيحه: المرأة والحياة. وهذا ما يتبين لنا ضمن مستويات عديدة بتقديم صور مختلفة للمرأة بمختلف أصواتها وملامحها وإشكالياتها وتحدياتها، تسعى من خلالها الكاتبة إلى مواجهة القارئ بأسئلة كثيرة تقوده للتفكير في تمثلات عديدة تبرز من خلالها المرأة في علاقتها بمشاعرها وجسدها وفي مواجهتها لنفسها وللعادات والتقاليد والتمثل الجمعي للنص الديني والفهم الموارب له وأيضا في علاقتها بالرجل. وكأننا بالكاتبة تريد أن تدفع بقارئها إلى أن يتطهر من كلِّ الأحكام الانطباعية السابقة التي تشكلت لديه جرّاء تركة مجتمعية ثقيلة. فقد تكون المرأة سندا للمرأة وقد تكون عدوا وكذلك الرجل قد يكون لها سندا وقد يكون خيبة وشدًّا للوراء، وهي في كل ذلك تحتاج أن تعود لنفسها وتسترجعها حتى تتحرر من كلِّ قوى الشدّ إلى الوجع وإلى الوراء.

والحقيقة أنّ سما وهو اسم البطلة الرئيسية في الرواية لم يكن بمعزل عن الحبكة فهو بما يرمز إليه من معاني العلو والارتفاع يضع القارئ في الإطار الرمزي والمعنوي الذي ستتحرك فيه البطلة فهي رغم خيباتها ووجعها وانكساراتها كامرأة مطلقة عاشت المعاملة السيئة من زوجها وعانت من قسوته وعنفه. ولكنها استطاعت أن تنطلق من جديد وتستعيد نفسها بعد أن خاضت مواجهات كثيرة مع شخصيات عديدة بدءًا من مغادرتها لمدينتها باتجاه أماكن أخرى وصولا إلى كلّ الوقفات التي اتخذتها سما مع نفسها ومع الاخرين وكأنها دخلت مرحلة المراجعة والعلاج، لتعود في آخر الرواية إلى ذاتها كما يعود التائه إلى بيته وذلك بعد أن تصالحت مع خيباتها وهزائمها وتغلبت عليها. وكأننا بنجاة إدهان أرادت أن تشرك قارئها في رحلة التشافي والمواجهة التي تخوضها سما. فهي في كل مرة تخبره بسر من أسرار هذه الحياة على لسان شخصياتها بما يمكن أن يستوقفه من مقتطفات قريبة منه. فها هي تقول له «الوجع لا يُحكى، يُعالج أو يُستأصل. الكل قادر على الحكي، الخيال من أعدل الأشياء توزيعا بين الناس. بعضهم تخزه إبرة فيقيم الدنيا ويطالب كل البشر بأن يشاركوه وجعه الهلامي وحين يخف الألم يصور نفسه بطلا. أمَّا البعض الآخر فيعيش وجعه وحده ويعيد تثبيت خطاه وحده ويصرخ وحده ويبكي وحده ويرفع يديه لله وحده ويجد سبيله إلى الخلاص وحده.» وهو ما يكسب الرواية بعدا نفسانيا علاجيا لكل اللواتي عانين الانكسار والألم و الظلم..