تعبر الشاعرة بعاطفة جياشة في نصها عن ذات مؤنثة مأزومة الروح ، تصف شعورها بالفجيعة وخيبة الأمل ؛ فيما تلقته من تعبير مضاد غير متوقع لعاطفتها من قبل ذات أخري هي ذات مذكرة ، فعبرت الكاتبة عن تلك الفجيعه بمبالغة تناسب ذلك الشعور الذي يعتصر جنبات الذات المؤنثة في النص ، فقدمتها علي أنها وضعاً شبيهاً بالمآسي الإنسانية التي زخر بها المسرح ، تلك التي تهز كيان الذات فتتركها بروح متململة تري العالم من خلالها .

ورغم تسلط تلك الروح المتململة علي الذات لكنها تمتلك وعياً باحثاً مدققاً جعلها تري أزمتها بوضوح لذا ستتوقف هذه القراءة عند مفردات ثلاث صاغت الكاتبة بهم ومنهم من الحالة الشعورية المسيطرة علي النص من خلال مرادف كل مفردة في اللغة وعلم النفس في أبسط صورة لها وهم علي التوالي : ( الوهم – الوعي – المأساة )
أولاً : مفردة الوهم وهي أول كلمة تطالع قارئ القصيدة ، وينحصر معني اسم ( الوهم ) في اللغة في أمرين هما :
" 1 - ما يقع في الذهن من الخاطر
2 - الطَّريقُ الواسع "(1)
وفي علم النفس هو :" شك ، وسواس ، اعتقاد خاطئ يؤمن به المرء بقوّة بالرَّغم من عدم وجود أدلَّة عليه " (2)

تحتفي القصيدة بالمعنيين معاً من خلال مفرداتها ، بدءاً من العنوان الذي ذكرت فيه المفردة " رياض الوهم "أو من خلال مفردات تشير إليه مثل (غفوتي – السراب - الحجب .. ، الحلم ) كما تحتفي القصيدة بمفردات تشي بالاتساع والبراح المكاني والنفسي مثل ( التيه – البحر – الرياح - قصور ) .
ثانيا : مفردة ( الوعي ) ، رغم أنها غائبة علي مستوي اللفظ ؛ لكنها حاضرة بشكل قوي ومؤثر علي النص ، ويتأتي ذلك الحضور من شيوع مفردات مثل (يقين -علمت ) ، استخدمت عدة مرات داخل النص ، فتؤكد وعي الذات المروي عنها بحالتها ومكمن أزمتها ، كما يتضح ذلك الوعي منذ العنوان فتعي الذات أن للوهم رياض ، مما يحمله من خيالات ترنو إليها النفس وتطمئن ؛ لكنها لا أساس لها في الواقع وهذا ما نلمحه في أبسط تعريف للوعي "
الوَعْيُ : الحفظ والتقدير
الوَعْيُ: الفهمُ وسلامةُ الإدراك، الوعي في علم النفس : شعورُ الكائنِ الحي بما في نفسه وما يحيط به "(3) .

ثالثا : مفردة ( المأساة ) : وتلك المفردة أيضا لاتوجد في النص . ولكن يتجلي حضورها من عاطفة سوداء المناحي والطرقات تسيطر علي النص ، وتتخبط فيها الذات المؤنثة ؛ فتودي بها في هوة نهاية ساحقة تتقاطع مع نهايات معظم المآسي الحافلة بالنهايات المحزنة

" مَأْساة :: فاجعة أو مصيبة ، كلّ ما يبعث على الأسى
المَأْساة : أدب ، فن ، عمل أدبيّ أو مسرحيّ عنيف التَّأثير تتطوّر أحداثه فى اتِّجاه تصارع الانفعالات والوجدانات وينتهي بخاتمة محزنة ، عكسها ملهاة " (4)
أما علي مستوي الشكل الإبداعي . تعتمد الكاتبة علي تقنية التفصيل بعد الإجمال ، فتبدأ الذات عرضها المسرحي لمأساتها بشعور مجمل يتملكها ، ثم تبين تفصيليا بالحالة الشعورية الناتجة عما تم ذكره في الإجمال السابق لها .
كما تبالغ الذات في وصف الأشياء فتطبع الطبيعة بحالتها ، وتستخدم المفردات في صيغة الجمع ؛ مما يعطي إيحاءاً بشمولية هذا الإحساس وتسلطه علي النفس ، علي مستوي اللفظ والصورة وبالتالي العاطفة ؛ مما يؤكد أيضاً الاستحضار المأساوي الذي تستدعيه الذات معبرة عن أزمتها من خلاله ، فتري أن تلك الأزمة قدر محتوم ينتظرها قبل مولدها فلا فكاك منه إذن ، وهذا ما سيتضح في العرض التالي :
 تبدأ الكاتبة قصيدتها بمقدمة إجمالية تعلن فيها وعيها التام بكونها ذاهبة إلي اللاشيء ، إلي اللا منتهي فتقول : "
"علمت وعلمت أشرعتي
أنها للتيه ماضية "
مع ما يعطيه هذا التيه / الوهم من دلالات ضياع الرؤية وفقد البصيرة ، ولكنه أيضاً يعطي دلالة البراح والوسع المكاني والعاطفي الذي تاهت فيه الذات ، وهذا ما أوضحناه سابقاً . و يتوافق ذلك مع مفردات الجزء التالي للقصيدة التي تشير فيه الشاعرة إلي تحول رؤية الذات للعالم من حولها ، فأصبح صوت الرياح عويلا :
علمت أن الرياح عويل..
وأن البحر أطفأ نجومي في علاه ..
زخم المقطع رغم صغره بمفردات تدل علي الاتساع والبراح مثل " الرياح – البحر – نجوم – علاه / السماء / الأفق".
ثم تلقي الكاتبة بصورة إجمالية أخري قائلة بذات اليقين :
" علمت أن نزف الخافق صدع يقين الألم.."
ثم تأتي بتفصيل تجليات ذلك التصدع المتمثلة في إدخال الذات رغما عنها في ذلك الصراع النفسي العصيب فتقول الكاتبة :
ألقى ورود مهجتي
في عراك موج غاضب ..
أباح للقسوة أن تستبد بأزهار فرحي ..
أباح للقسوة أن تفجر جراح الندم ..
وهنا تظهر ( ذات المذكر ) في النص فتخلق حالة من المتناقضات تُدخل فيها الذات المؤنثه فتقول الشاعرة :
ثم أباح لفجيعتي
أن تورق في سبل الأمل ..
أن تتألق من سقمي ..
فتصف الكاتبة الفجيعة بأنها تورق وتتألق ، ف ( تورق ) وصف معتاد للأزهار والأشجار ، ومفردة (تتألق) أيضا تستخدم مع حالات السعادة والانشراح ، وكأن الكاتبة تصنع حالة من الفانتازيا المناسبة للمأساة
ثم تنتقل لإجمال آخر قائلة :
علمت إبان وجعي وانهيار الحجب ..
أن ثورتي ليست مجدية..
ثم تفصل الأسباب قائلة :
فاليقين زلزل قلاع غفوتي ..
هد جبال الصمود الراسية ..
خسف قصور الحلم ..
ثم تنهي القصيدة بمجموعة من الصور تجمل فيها شعور الذات ثم تتبعهم بتفصيل تؤكد فيه يقينها ووعيها بمصيبتها ومأساتها فتجمل وتقول :
 علمت وعلم الدمع بعيون الوجع
أني قشة ثملت في جنان السراب ..
 علمت أني بين ركام الهالكين
في رياض الوهم ..
 علمت أن الرحيق خلاه الشذى ..
ويأتي اليقين الأخير يحمل في طياته نهاية الفجيعة وهنا يتقاطع النص مع الطابع العام للمأساة المتمثل في النهاية التعيسة للقصة وتعبيرها عن فكرة القدر المحتوم الذي لا مفر منه بالنسبة للذات فتقول الكاتبة :
علمت أنك بحت لدمع الغروب
بوجيعة النهاية فيك ..
وأثرت سبيل الشمس ..
قبل مولدي ..
ويتضح من العرض السابق أن الكاتبة تتبعت من خلال الاجمال والتفصيل كيف تحسست أنامل الفجيعة والمأساة روح الذات شبراً شبراً فعست فيها ألماً .
لكن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة بعد هذا العرض لماذا هذا التكرار للحالة المأساوية ذاتها علي مدار بناء القصيدة ؟ واستخدام آلية التفصيل بعد الإجمال بشكل متوال ؟ هل لأن هذه الآلية مناسبة للذات المقدمة في القصيدة ، فهي ذات واعية بحالتها وعيا تاما ملمة بأسبابها ونتائجها ؟ فبالتكرار تفرغ الذات ذاكرتها مما علق بها من فجيعة أزمتها مرارتها وهو السبب عينه الذي صاغته أحلام مستغانمي علي لسان بطل روايتها " ذاكرة الجسد " ، وهو أننا بالكتابة نقتل الشخصيات / الحالات ونخرجهم من ذاكرتنا المكتظة بهم فتهدأ نفوسنا.
" إننا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير ، وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً علي حياتنا . فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم وامتلأنا بهواء نظيف " (5)

الهامش :
1 – معجم المعاني http://www.almaany.com/ />2 – نفسه .
3 – نفسه .
4 – نفسه .
5- أحلام المستغانمي ، ذاكرة الجسد ، دار الآداب ، بيروت ، ط : 24 ، 2009 ، ص : 18