من الظواهر الثقافية التي عرفتها الثقافة العربية ظاهرة التأليف المشترك، كأن ينهض اثنان من الكتاب أو أكثر بتأليف بحث، أو كتاب من الكتب الفكرية، أو الأدبية، أو النقدية، أو الفنية. ويصدر العمل بأسماء الذين أظهروه إلى النور.نلمس بذور هذه الظاهرة في العصر العباسي فيما قام به إخوان الصفا وخلان الوفا في رسائلهم الفلسفية، التي بلغت خمسين رسالة. وكذلك يمكن النظر إلى الأمثال والحكايات والسير الشعبية التي ظهرت عبر العصور المختلفة بأنها من الأعمال التي اشترك فيتأليفهاأفراد كثيرون مجهولون. ولا ننسى أن من أهم الأعمال المشتركة في التأليف كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي اشترك في تأليفه أفراد من فئات مختلفة منالناس في عصور سابقة حتى وصل إلينا كما هوالآن. وما حدث لـ»ألف ليلة وليلة»حدث لـ»لإلياذة» و»الأوديسة» فهما من الأعمال التي ساهم في تأليفها أناس مجهولون حتى انتهت إلى هوميروس وظهرت باسمه.
لقد استمرت هذه الظاهرة في العصر الحديث،وتطورت فرأينا أبحاثًا وكتبًا ومجموعات شعرية وقصصية مشتركة، حملت بوضوح أسماء المشتركين في تأليفها. لكن الانقلاب في هذا النوع من التأليف حدث عندما رأينا روايات اشترك في تأليفها أكثر من كاتب، فيما يسمى الرواية المشتركة. ويؤرخ لبداية ظهور هذه الروايةبرواية «القصر المسحور» التي ظهرت عام 1936م، عندما اشترك طه حسين وتوفيق الحكيم في تأليفها. ويبدو أن العدوى انتقلت إلى الروائيين: جبرا إبراهيم جبرا، وصديقه عبدالرحمن منيف، فاشتركا في تأليف رواية «عالم بلا خرائط «التي صدرت عام 1982م. ثم تدحرجت الكرة فرأينا روايات مشتركة كثيرة منها روايتا: «في مقام العشق»، ورواية «العالم على جسدي» ليوسف نبيل وزينب محمد من مصر. وفي سوريا ظهرت رواية «المستطرف الليلكي» لخطيب بدلة وإياد محفوظ، ورواية «ألواح من ذاكرة النسيان»، لعامر الدبك وبهيجة مصري إدلبي، ورواية «في رثاء عامودا» لعبد اللطيف الحسيني وغسان جانكير. وفي لبنان ظهرت روايات:»ربيع المطلقات» لنزار دندش ونضال أميونيدكاش، و»ملك اللوتو» لجهاد بزي وبشير عزام، و»يوميات آدم وحواء» لنزار دندش ونرمين الخنسا. وكان أخر الأعمال الروائية المشتركة العمل الذي صدر عنوزارة الثقافة الأردنية في نهاية عام 2019م بعنوان «حكايات المقهى العتيق». ووصفهاالباحث والكاتب حنا القنصل في تقديمه لها بأنها تجارب مميزة لتسعة كتاب من أبناء مأدبا، وهم: جلال برجس، يوسف غيشان، علي شنينات، سليمان القبيلات، نوال القصار، بكر السواعدة، إسلام حيدر، عيسى الحميد، بلقيس عجارمة. وذكر القنصل أن كلًا منهم تطرق إلى حقبة من الحقب التاريخية التي مرت بها مدينة مأدبا،من الحقبة المؤابية حتى نهاية مرحلة تأسيس إمارة شرق الأردن. لا شك في أن ظهور روايات مشتركة من حين لآخر في الثقافة العربية يطرح أسئلة مهمة حول طبيعة الرواية المشتركة ومستقبلها وعلاقتها بالرواية ذات المؤلف الواحد، وما تضيفه إلى عالم الرواية عامة. هذه الأسئلة ربما لم تناقش بجدية عند بروز هذه الظاهرة في خضم الاحتفاء بعمل أدبي غير مألوف. من الأمور التي لا يختلف عليها النقاد والدارسون والمثقفون عامة أن العمل الأدبي، بما فيه الرواية، عملية لغوية ذاتية تخييلية، تقوم على صياغة تجربة وجدانية لا مجال لأن يتدخل فيها الآخرون، فهي ليست تجربة علمية تقوم في الدرجة الأولى على استخدام الحواس، ويمكن أن يشترك فيها أكثر من فرد؛ للحصول على نتيجة عقلية ملموسة لا يختلف الناس عامة على التسليم بصحتها.بخلاف ما تنتهي إليه التجربة الوجدانية؛ فهي مجال ليتقبلها الآخرون، أو ليرفضوها، وهي مجال للمتعة القلبية لا العقلية. فإذا نظرنا إلى الرواية المشتركة ضمن هذا الفهم فنجد أنها عمل متمرد على طبيعة الرواية وجنسها، كما أن اشتراك أكثر من روائي في إنتاجها فيه تحطيم للذات الفاعلة التي ساهمت في التكوين، واقتحام خصوصيتها، وإلغاء حريتها التي هي أساس الإبداع، كما أننا في الرواية المشتركة إزاء مشاعر وأحاسيس وأفكار لا انسجام ولا تماسك بينها، أو على الأقل مختلفة ومعقدة، لا تنتقل إلى المتلقي بسهولة ويسر، فلا توفر له اللذة القلبية المنشودة.هذا ما نلمسه في تجربة جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف في «عالم بلا خرائط»، فمع أن الاثنين من الروائيين الذين يعترف النقاد والدارسون بموهبتهما الروائية، فإن أحدهما يعترف وهو منيف في كتابه «الكاتب والمنفى» بأن القراء قد انشغلوا بالبحث عن» الأشياء التي كتبت وتحديد نسبها، اكثر مما تم تناولها كرواية لها بنية تتناول موضوعًا» (ط4، بيروت: المؤسسة العربية، 2007، ص244) أي أن الرواية لم تنجح،وإن لم يقل ذلك بوضوح، في توصيل رسالتها إلى المتلقي. لعل من الواضح أن مثل هذه الأعمال تثير الانتباه، وتكون محور الاهتمام بالصحافة والإعلام مدة معينة، ثم تطوى دون أن تنمو أو تصبح ذا تأثير كبير في الناس، أو في عالم الرواية؛ لأنها ببساطة لم تنبثق من رحم الرواية، ولم تنم نموًا طبيعيًا، فهي كنبات جذوره من الضعف بحيث لا يعيش طويلًا، كأي موضة أو تقليعة في الفن، أو عالم الأزياء. إنها في النهاية نوع من الكتابات الكشكولية التي تخبو بعد مدة قصيرة من ظهورها، فلن تصبح جنسًا أدبيًا يقف عنده تاريخ الرواية وتطورها.الرواية ليست عملًا يمكن أن تقوم به جماعة أدبية، في ورشة أو مطبخ، ليدخل كتاب غينيس للأرقام القياسية. إنه عمل فردي يحمل صفات صانعه، وأي تدخل في هذه الصناعة يفسدها، ويغير من طبيعتها، وتصبح أي شيء غير أن تكون رواية.
" الدستور الاردنية "
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-01-2020 10:18 مساء
الزوار: 1123 التعليقات: 0