حين تُحيّز الرواية الوجود وتكشف عن بُقع مكانية بهويات جديدة
عرار:
د. نزار قبيلات
في رواية «السيد العميد في قلعته» لشكري المبخوت اختار الروائي عالماً بزمن وأمكنة مغلقة الأطراف؛ حيز حدوده الجامعة التونسية ومجتمعها الأكاديمي الصرف، وكذا الطلبة والإدارات المرتبطة به، فقد استطاع الروائي المبخوت المحافظة على هذه الحدود والغوص عميقاً في براثن المجتمع الجامعي والتعمّق بحيثياته دون المساس بتركيبتها الواقعية والمدرجة في العالم الواقعي المثالي، بيد أنه أحدث تناولاً روائيا وافياً أبان عن قدرة فريدة في رسم المشهد الجامعي الجاف ذلك فوضع خيوطه بين أصابع السيد عميد كلية الآداب في الجامعة التونسية الذي من خلال توليه لمهام نقل المسرود الحكائي كشف عن أدق التفاصيل الخاصة بعالم الإدارة الجامعية والذي يحسبه الكثيرون عالما مثاليا مستقرا، إذ تحت هذا الهدوء تمور عوالم صغرى معقدة واشتباكات حادة جعلت من ثبات صورة الأكاديمي مجرد وهم أو غطاء هش أمام آلة السرد الروائي القادرة على التمرد على الصورة المثلى للثبات التي صنعتها لغة التاريخ ولغة الأكاديميين المبرهنة علمياً ومنطقياً. الحيز الذي اختاره المبخوت تطلّب حفراً من نوع مختلف يقوم على كسر صنميّة صورة الجامعية وقدسيتها والذهاب لأدق التفاصيل والزوايا المعتمة في كلية الآداب وإظهار مدى التباينات والمؤامرات التي ترافق الأكاديمي الذي يتولى عمادة كلية الآداب فيقف في مواجهة مباشرة مع زملائه سواء أكانوا من الأساتذة أو الإداريين أو الطلبة الذين لهم مصالح واعتبارات تجعل العميد بين مطرقة القانون وسنديان الصداقة والزمالة، كل هذا التثوير الإنسان تكثف حضوره في مبنى كلية الآداب التي شبهها الكاتب مجازا بالقلعة التي يراها الخارجون تحبس عنهم عالما مثاليا فاضلاً ويراها القائمون فيها قلعة تحبس حرياتهم الأكاديمية والفكرية: «وأعجب ما في حكاية هذه القلعة أن سكانها يعيشون على ما يتوهم الناس خارجها في أبراج عاجية لا يتصلون بالعالم المحيط بهم ولا ينخرطون في شواغله ومشاكله، فهم في أغلب الظن الشائع منصرفون إلى قراءات في كتب غامضة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم، وتلاوة كلاك كالظلام لا أحد يعرف رأسه من ذيله. إنهم يعيشون في عالم على حدة لا يدركون من مشاكل الشعب شيئا» رغم قيود الحيز الذي اشتغل عليه الروائي إلا أنه استطاع أن ينفذ إلى ضفاف أخرى رست عليها سفينة العميد بعد تلاطم وتصادم مع الجميع الذين شكلوا عبئا ثقيلا عليه منذ توليه منصب عميد كلية الآداب والتي نعتها بالقلعة ليشير إلى حيز مقيد مغلق من جهة وغامض من جهة أخرى، فقبل انتخابه عميداً كان السيد أكاديميا حراً لا ينتمي للأطياف السياسية التي رآها مجرد قوارب صغيرة يركبها الزملاء من مرفأ إلى آخر وفق مقتضيات المصلحة والربح والخسارة، بيد انه حين صار عميدا فُتحت الستارة أمامه على عالم جديد تماما وكأنه لم يكن يعيش فيه قبلاً: «هذه هي الصورة التي دخل بها إلى مكتب رئيس الجامعة فتفاجأ بأن الشيطان الأكبر لم يكن شيطاناً كامل الصفات بل يعرف الترحيب بالزوار ويندفع بعفوية قد تكون مصطنعة بعض الاصطناع ليحتضن العميد. كان كلما أراد أن يخاطبه لا ينطق باسمه بل بصفته «السيد العميد» . القلعة بحد ذاتها مكان مغلق ومحدد من كافة اتجاهاته وهوية ساكنيها، إنها قلعة يصعب معها تحطيم القيود حولها بما فيها البوابة المحروسة أمنيا والمكاتب المحكمة الإغلاق والأوراق السرية والاختبارات و الشؤون الشخصية... فاقتحامها وجعلها مكان مفتوحا غير مقيد يعني فتح صندوق كبير من الأسرار يغفله عنه من كانوا خارجه والذين يملكون صورة نمطية مختلفة عن مكان للعلم والعلماء، لقد كانت قلعة حتى على السيد الأستاذ الذي صارا عميدا لاحقا، فصارت زاوية رؤيته ومنظوره مختلفتين تماما، فصار يطل من زاوية نظر علوية تطل على جميع التجاذبات والجهات لأول مرة، فلا تقتصر على الجوانب الأكاديمية والبحثية التي تعني كل أستاذ وطالب جامعي، لذا فإن سيد القلعة وما أن وقعت المفاتيح بيده حتى عرف كم هي باهظة كلفة اقتناء هذه المفاتيح والتي يتمنى حملها الكثيرون من زملاء سرعان ما ينقلبون ويمكرون. هذه الرواية بأرت باقتدار وضعية النموذج الإنساني الاكاديمي بكافة مسمياته وتقلباته، فقد مثل الأستاذ فريد الأرناؤوط دور الزميل المتصيد والحاقد وفي المقابل مثّل الأستاذ فتحي الملولي دور الزميل الصديق والوفي الذي كان وجوده دوما بمثابة إنقاذ للعميد لكنه ورغم ذاك شكل حملا ثقيلا أيضا حين زل مرة وسقط في براثن الشكوى من إحدى الطالبات، وهو ما يشير إلى عسر المهمة وصعوبتها في حيز صغير لا تتجاوز مساحته مساحة مبنى ملعب لكرة القدم، لكنه حيز مشع ترقبه عيون السلطة والأطراف السياسية و النقابية وقد تأتي الرقابة حتى من القارة الأوروبية التي أرسلت وفدا اكاديميا حضوره سبب إشكالا سياسيا سرعان ما تناولته الصحف و المواقع الإخبارية الفرنسية والسفراء و الوزراء. نريد القول إن الرواية عمل مسؤول وإن بدت تراكيبها مقتبسة من عالم المجاز اللغوي والغرائبي الخيالي، بيد أنها تبقى عملاً يصدر من حيزنا الملموس ومن الالتباس الذي يختفي خلف كل هذا الظاهر والماثل أمامنا، ولأن الرواية مسؤولية والتباس فإن هذه الرواية صدمة لكل المُثل والشرطية الواقعية والمستندات المادية والورقية التي استطاع المبخوت أن يصدمنا فيها دون أن نَمس الملف الشخصي للمبخوت الذي تخلى عن ذاتيته لصالح ذات أخرى تمسنا.