مِنَ الوَاسِعِ فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ .. وُصُولاً إِلَى الكِتَابةِ ـ بقلم : حسن بنعبدالله / تون
عرار:
مِنَ الوَاسِعِ فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ ..
وُصُولاً إِلَى الكِتَابةِ
ـ بقلم : حسن بنعبدالله / تونس
ــ مدخل " العلم يكون بالاكتساب ، فخصَّ به الإنسان، والمعرفة بالجبلَّة، فهي إدراك جُزئي يَحصل بواسطة ، لذلك يقال : عرفت الله ، ولا يقال : علمت الله ، فالعلم لما يدرك ذاته مع الإحاطة به .. وقيل : " العلم أخصُّ من المعرفة ، لأنَّها قبله ، إذ تكون مع كل علم معرفة وليس مع كل معرفة علم ، إلى جانب تضمنها للخبرة العملية ، فالمعرفة هي ثَمرة التقابُل والاتصال بين الذَّات والموضوع ، وتتميز من باقي معطيات الشعور، من حيث إنَّها تقوم في آنٍ واحد على التقابل والاتحاد الوثيق بين هذين الطرفين ..
والعلمُ الجامع كما فهمتُ من القرآن الكريم هوالذي اختصّ به الله الإنسان وتكرَّم عليه به دون تمييز وبدون أيّ إقصاء وهو من مباهج الإلهام " إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " ــ (العلق 15).. وفي السورة دِلاَلَةٌ عَلَى أنّ العِلمَ لايكونُ إلاّ بالقلم ـ أي من المكتوب ومن الكتابة ـ فالكتابةُ في حدّ ذاتها وممارستها والتّمرّس عليها والمواضبة عليها واكتساب أبجدياتها وأساليبها تُعتبرُ من مؤيدات " طلب العلم والاشتغال عليه ـ لأنها تستعملُ العقل فيفكّرُ ويُنتج ويبدع ـ
ـ ولطلب العلم العديد من الطرق، والأساليب، وهي تعتمد ابتداءً على نوعيّة العلم الذي يسعى الإنسان إلى التبحُّر فيه ، وعلى الرغبة الجادة من الإنسان للإلمام بهذا العلم ، غير أن طلب العلم بات أسهل في عصرنا الحالي مما كان عليه سابقاً ، خاصة أن العصر الحالي يشهد تسارعاً ملحوظاً في تطوُّر التقنيات الحديثة. وفيما يلي نذكر أبرز طرق طلب العلم...
ــ إلى جانب الدراسات الأكاديمية وهي مهمّة جدًّا في حياة وفي رصيد الإنسان عامّة والأديبُ والمفكّر خاصّة غير أنّ الأشمل منها والأفضل هو السعيُ ، والتّسديدُ والمقاربةُ والسير والنظرُ والاجتهاد الذاتي باعتماد منهجية التعلُّم الذاتي ، وهي من أكثر طرق طلب العلم متعةً وفائدة ، غير أن هذه الطريقة لا تمنح الإنسان شهادة في نهاية المطاف ، إلا إذا توِّجت بالدراسة الأكاديميّة ، أو تقدم طالب العلم لامتحانات معينة ، ونال شهادة موثوقة من مراكز معتمدة ، غير أنها تظلُّ الأكثرُ شمولاً والأكثرُ اعتبارا لأنها اقترنت بحبّ التدارُك أوّلا وشغف الروح للاستمتاع بالتبحُّر في المسائل كلّها خارج التخصّصات ـ وهي منهجية العلم الشامل وهو أوسع من محدودية التلقّي من ضيق الوقت المُبرمج والمخصّص للدراسة وعبر شخص بعينه وقد لا تتناسبُ طريقته في التدريس مع الأذهان المختلفة في نفس المكان والزمان ..
ولأنني أثق في هذا الرأي لا بدّ لي في هذا المبحث أن أفرضَ ما يلزم تأكيده من خلال التجارب التي وثقتُ بها في تاريخ البشرية ولديّ مراجعي من القديم فلا أُخفي شغفي الكبير بشخصيات أخذت العلم من هذا التوجّه ـ فلا مقاعد خشبية ، ولاقاعات ولا نظام تربوي بل الفطرة والعقل والنفس التّواقة هي السبيل التي أوصلتهم إلى اكتساب جواهر العلوم ومفاخر النجاحات وخلّدتهم في سجلاّت التاريخ والعلوم ومنهم الإمام الشافعي رحمهمه الله لا رتباط علاقته بالأدب والشعر تحديدا ـ إلى جانب العلم الشرعي والفقهي وغيرها من المكتسبات .. فالعلم الذي كان يملكه الشافعي جعل منه علَّامة بين المسلمين ، فقصده الناس وأعجبوا به وأصبحت سيرته على كلِّ لسانٍ .. وظلّت قصائده الشعرية معينا يسقي النفوس المشتاقة للخير والحكمة والنبوغ ألا وهو القائل :
ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ ــــ مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ
وفي هذه الأبيات المتناغمة والمتآلفة يكمنُ سرّ المعدن العلمي الذي اكتشفه الشافعي في نفسه مكرمة من الله لأنه اعتمد العزم وجاهد وسافر ومكّن عقله وروحه من الحبّ الحقيقي الذي اعتمده علاقة مع الله ومع الوجود بعيدا عن البروتوكولات والمراسيم وهو الذي اخترق بضوء مواهبه كلّ العراقيل والصعوبات وكلّ ما تعرّض له من أذى وملاحقات ديدنها السياسة وفرض السلطة فكان بين بينين متشبّثا بغبطة طلب العلم والارتقاء إلى أعلى مراتب النبوغ ـ ومن أشهر ما ترك للشعر وللبشرية :
01 ــ " وليم شكسبير" رائد الادب الانجليزي و المسرح بالعالم أعظم من كتبوا على الإطلاق حيث أن أعماله لا تزال تدرس في كليات الآداب بالعالم أجمع رغم مرور قرون على وفاته بالإضافة إلى عدد من القصائد الشعرية و المسرحيات الشعرية بالرغم من أنه ولد لعائلة ميسورة الحال كان أبوه يعمل إسكافي و التحق بمدرسة القرية و هو بعمر السابعة في " ستراتفورد " إلا أن الأسرة حلت بها كارثة مالية فترك المدرسة و اضطر لزواج من فتاة تكبرة بثمان سنوات ثم تركها ورحل إلى لندن و هناك ظهر نبوغه الشعري فأسّس مسرح جلوب و عندما أصبح لديه مال عاد إلى قريته ليموت و يدفن بها ..
02 ــ " توماس أديسون " ، وهو صاحب رابع أهم اختراع في العالم وقد سُجلت له 1003 برائة اختراع أهمها : " المصباح الكهربائي و البطارية الكهربائية .. وأيضًا ساهم في تطوير عدد من الاختراعات الاخرى كالهاتف و الطابعة و القطار الكهربائي و المولد الكهربائي و الغريب أنه لم يلتحق بالمدارس سوى ثلاثة أشهر فقط قالت مديرة المدرسة لأمة أنه غبي و بليد ... فقامت والدته بتعليمه بالمنزل حتى أصبح " توماس أديسون " .أعظم علماء العالم... ومنها نُدركُ أهمية ربط هذه العلاقة بين الواقع والواقع ـ في غياب الخيال فلا مجال لطمس روح الرغبة في الأخذ بالأسباب لاجتياز مراحل الحياة بغبطة وصمود ورغبة في فرض الذات وتحقيق كلّ الممكن ـ بعيدا عن منطق المعجزات وغيرها من التآليف من هنا وهناك ـ وقيمة العلم موثَّقَةٌ فِي هذا الإِخبار الإِلهي : " إنَّما يَخشى الله من عبادهِ العلماءُ إنَّ الله عزيزٌ غفور " ـ سورة فاطرـ
ــ أَمّا المعرفةُ فأبوابُها متعدّدة ووجهاته مترامية في كل الاتجاهات وهي التي تُكتسبُ من العدم .. أي لم تكن هنالك معرفة كذا وكذا لولا الانتقال من الجهل إلى المعرفة بفضل الانتباه والفطنة والرغبة والغبطة واختبار القدرات وتحريك الذهن مع الشروق إلى الغروب ومن الأرض إلى السماء ومن الأشجار والظلال إلى القمر والنجوم .. من الفهم تنطلق الآفاق وتترابط الغايات وتتشابك المصالح وترتقي النفس من الغريزة إلى الاكتشافات وصولا إلى تحقيق الأهداف بطرق ثلاثة :
1 - المشاهدة والتجربة ، وأشار اليها سبحانه بكلمة ( علم ) وفي مكان آخر أشار اليها بالسمع والبصر ( أفلا تسمعون؟.. أفلا تبصرون " ــ " أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ".... " أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون " ــ " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحقّ " ... والمراد بالآفاق : " أقطار السماوات والأرض" ــ وبالأنفس : " خلق الإنسان في أحسن تقويم " ... والمعنى أن مشاهدة الكون تؤدي حتماً إلى معرفة الله وكذلك مشاهدة خلق الإنسانة، ولكن البعض يرى أن ذكر الأنفس يومئ إلى دليل الحدس والكشف الصوفي برياضة الباطن...
2 - العقل : وإليه أشار بكلمة (هدى) وليس مرادنا بالعقل عقل الفرد المغلوب بالأهواء أو عقل الجماعة المحجوب بالتقاليد ، بل المراد العقل الذي يعقل عن الله سبحانه وخاطبه ، جلت كلمته بقوله : " ولا أكملتك إلا فيمن أحب " .. . وكل آيات القرآن الكريم تخاطب من كان له قلب وأذن وعقل...
3 - النقل الذي لا ينبغي الريب فيه ، وإليه أشار سبحانه بكلمة " كتاب منير" وإن دلت هذه الكلمة بحروفها على الوحي فانها تعمّ بروحها وتشمل كل خبر صحيح وإن لم يك وحياً لأن السبب الموجب للعمل بالوحي هو الحق والصدق، وعليه يجري حكم الوحي على كل خبر صحيح يُعبر عن الواقع كما هو. ..
ــ وُصُولاً بنا إلى دَأْبِنا ومرامنا الذي فتحنا منه وانلقنا منه لاستكمال الغاية من المبحث على أساس أنّ الكتابة والقراءة هما جوهر قيمة الإنسان عموما وحقيقة وجود الكاتب والمفكر في مجالات الشعر والرواية والقصّة والرسم وكلّ الفنون ـ من عميق وواسع العلم والمعرفة لأنهما الكنز الحقيقي والمراتب الحقيقية التي ترفعُ الشأن وتقيم قيامة الفعل الإبداعي رغما عن الضيق وعن الممارسات التي تحكم المشهد الثقافي في أوطاننا العربية ـ ومنها التي تُكسِّرُ في داخل النفوس ، ومنها التي تفرض احكام الإعدام على الأحياء ـ وَصولا بنا إلى الخاتمة التي تقول : قصيدة إرادة الحياة من أشهر قصائد الشاعر أبي القاسم الشابي الخالدةِ كتبها قبل وفاته بعامٍ تقريبًا، وجزءٌ منها في النشيد الوطني التونسيِّ، يبدأُ الشاعر قصيدته بالحديثِ عن إرادة الشعوب التي تحقِّقُ المستحيل وتصنع المعجزات بالسعي والوعي والصبر، يقول في مطلعِها :
إذا الشعب يومًا أرادَ الحياةَ ــ فلابدَّ أن يستجيبَ القدرْ
ولابدَّ لليلِ أن ينجلي ــ ولابدَّ للقيدِ أن ْ ينكسِرْ
فالشاعر كان جلُّ اهتمامه مسلَّطًا على الثورة والحياة الكريمة ، فقد كان يحرِّضُ الشعبَ على الثورة ضدّ المستعمرين .. والثورة على الجهل والتخلف بكل أشكاله ، بعد ذلك يخاطب الشاعرُ الطبيعة من حوله بنفَسِ الإنسان الطَّموح المندفع والذي لا يوقفُ طموحَه أيُّ عائقٍ ولا يُعجِزه عن تحقيق غاياتِه شيء :
كذلكَ قال لي الكائناتُ ـــ وحدَّثني روحها المستترْ
ودمدمَت الريحُ بين الفجاجِ ــ ووفوق الجبال وتحتَ الشجر
إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ ــ لبستُ المنى ونسيتُ الحذَر
ثمَّ يشبِّه الحال التي تعيشُها بلاده بالخريف الكئيب الذي لا بدَّ أنْ يأتي بعدهُ ربيع الأمل والتفاؤل وتخرجُ البلاد من ظلمتها وعتمتها تحت نير الاستعمار إلى نور الحريَّة والسلام بعدَ ذلك الخريف الطويل ، ويبني الجيل الجديدُ أمجادَ الأمة ويستعيد حرِّيتها بالعزم والإرادة والتضحية : وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر
ــ وكَأنه عاش ويعيش ما جرى في أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011 ـ مخاض الثورة في تونس وامتدادها .. ويسردُ الشاعرُ أمنياتهِ التي حالَ بينها وبين بلوغها وجود المستعمر نفسه ، والتي يمكنُ أن تتحقَّق وحاول أن يرسمَ هذه الصورة الرائعة بكلماته العذبة عن حياة تملؤها السعادة والراحة والأمان :
والشاعرُ يظهرُ حنينَه لأمجادِ وطنهِ ولأمجادِ شعبهِ لكنَّ تفاؤله وأمله بالتغيير رغم كل ذلكَ التشاؤم من الأوضاع التي كانت عليه كبيرٌ جدًّا، فلابد في النهاية أن ينتصرَ الحقُّ على الباطل مهما طالت جولةُ الباطل وهذه سنَّةُ الله تعالى في خلقه ، وفي ختام القصيدة يؤكد الشاعر مرَّة أخرى على الحقيقة الخالدة التي بدأ بها قصيدته وهي أنَّ إرادةَ الشعب هي أساس المجدِ والنهوض لأي أمَّةٍ من الأمم، فيقول في الختامِ :
وتتجلَّى في قصيدة إرادة الحياة بشكلٍ عام الإرادة الحقيقية للتغيير والنابعة من أعماق الشاعر كما مرَّ في كثيرٍ من أبيات القصيدة التي تكرَّرت فيها كلمةُ الحياة 15 مرَّة دالَّةً على تشبُّث الشاعر بحياة الشعوب وإرادتها...
وهذا في الحقيقة مقصدُ توطين هذهالعقيدة في ختام هذا القول ــ