|
عرار:
د. إبراهيم خليل بعد أعماله القصصية «نافذة هروب» 2008 و»نهايات مقترحة « 2011 و «يبقى سرا» 2016 و»بين سطور المدينة» (2017 ) تصدر للأديب الإعلامي خالد سامح روايته الأولى الهامش (ضفاف، 2020 ) ليحتل بها مقعدا في الصفوة الأولى من الراوئيين الأردنيين . فمن يقرأ الرواية يجد نفسه مدفوعا للكتابة عنها إن كان ممن ابتلوا بالكتابة عن الرواية بصفة عامة أو لم يكن. وذلك لأن الرواية، من حيث هي فن أدبي ذو مرتكزات وقواعد فنية رسخها المتفوقون من كتابها منذ أجيال عديدة أصبحت في أيامنا هذه، ونظرا لجاذبية السرد الذي يجيده أو لا يجيده من هبّ ودبّ ، اصبحت عمل من لا عمل له على رأي الكاتب السوري المخضرم نبيل سليمان. ولهذا تغدو الكتابة عن الرواية إذا كانت جيدة ضريبة لا مفر من أدائها لدى المتابعين، لسببٍ بسيط وهو الحد من قدرة الهراء السردي المنتشر على خلط الحابل بالنابل ، وتزييف الروايات تزييفا أخطر على القراء من تزييف النقود على المتعاملين بها لدى شركات الصرافة. تقوم رواية خالد سامح على محورين؛ اثنين هما؛ حازم، ولهيب. فحازم يزور عيادة الطب النفسي في بداية الحكاية كونه يعاني من الاكتئاب. وقد وصف له الطبيب علاجا غير أنه لا ينتظم في تناوله علاوة على أنه لا يزور عيادة الطبيب في المواعيد المقررة إذ ينقطع ويغيب تارة ثم يعاود الظهور على نحو مفاجئ تارة أخرى. ولهذا كانت المفاجأة في البداية أنه لم يتعرف على عيادة الطبيب الذي تخلى عن عيادته القديمة في جبل الحسين لعيادة أخرى جديدة في حي آخر. والمهم أن الطبيب يوجه لحازم- الإعلامي والصحفي المسكون بهاجس تغيير العالم- نصحه، محاولا إقناعه بأن مشكلته النفسية التي يعاني منها هي انشغاله بالعالم الذي يحيط به، مستخدما اصطلاح الهامش قاصدا به كل ما يتجاوز الذات. على أن حازما الذي ترك الزرقاء باحثا عن سكن جديد في حي الشميساني، يتعرض - وهو في سكنه الجديد - لتاثيرات كارثية تزيده تعلقا بالهامش، وابتعادا عما يريده الطبيب بتلك النصائح. الزيت على النار ففي الأيام الأولى لإقامته في عمان، وفي خريف العام 2005 وفيما كان ساهرا مع رفيقه رأفت في أحد البارات القديمة (بار الأردن) إذ حدث ما لم يكن مفاجئا بالنسبة لرأفت على الأقل: ثلاثة تفجيرات؛ أحدها في فندق غراند حياة عمان، والثاني في راديسون زاس، والثالث في ديز إن. « أنا كنت متوقع هالشي. احنا مش بعيدين عن العراق. والقاعدة هددت الأردن مرارًا. «. (ص64 – 65) وهذه التفجيرات وما تبعها من أجواء قلبت المدينة رأسا على عقب، وجعلت الحياة اليومية غير طبيعية أججت وأذكت الشعور بالاكتئاب لدى حازم، وهو الذي كان يسعى بحثا عن وسيلة ما تنقذه من هذا الاكتئاب، فإذا به يجد في التفجيرات ما يصب الزيت على النار. التقصير وزادته اكتئابا تلك المقابلة التي جرت بينه وبين رئيس التحرير بناء على دعوة الأخير، الذي رماه بتهمة التقصير، وعدم تدقيق الترجمات مما سمح لبعض العبارات المسيئة للحكومة بالتسلل والظهور في الصحيفة مسببة إشكالات محرجة مع المسؤولين(ص70) في الأثناء وبعد عودة الحياة الطبيعية للمدينة ظهرت في أفق الكئيب ولأول مرة امرأة ، وهذه المرأة تمثل حافزا يسفر عن تحولات في النسق السردي، فقد اتاحت له الفرص لاستعادة ما يمكن قوله عن الاحتلال الأميركي لبغداد في تيسان 2003 وذلك لأن (لهيب- المحور الثاني) هذه عراقية، وكغيرها من العراقيين والعراقيات الذين اختاروا عمان لتكون منفاهم القسري تحاول التأقلم واعتياد الأشياء في مدينة لجأوا إليها قبل التوجه إلى أوروبا أو كندا أو غيرهما من المنافي القصية. ولا يعلم حازم بالطبع ما الذي قادها إليه بذريعة البحث عن عمل أو صحيفة ما لتنشر فيها ما تترجمه من مقالات ومن تحقيقات صحفية عن الإنجليزية. فهي علاوة على دراستها اللغة الإنجليزية في جامعة بغداد عملت طويلا مترجمة في وزارة الخارجية قبيل الاحتلال، وعملت بعده مترجمة لدى الأمريكيين قبل أن يكتشفوا خلفيتها الصدامية. وأيا ما يكن الأمر فإن ظهور هذه المرأة كان له في حياة حازم فعل السحر، وظن للوهلة الأولى أن الكآبة التي كان يشكو منها قد ولت إلى غير رجعة. ولكن الرياح لم تجر بما تشتهيه السفن. فلم يستطع أن يعثر لصديقته على عمل في الجريدة، لا سيما وأن رئيس التحرير، الذي لا يكن له غير العداء، قرر إلغاء صفحات الترجمة، ونقله إلى قسم التحقيقات (ص79). قناة العزة شعر حازم لأول مرة بالضيق من عمله في الصحيفة، وتزامن ذلك الشعور مع نشر إعلان من قناة فضائية – قناة العزة – وهي قيد التاسيس تطلب مترجمين، فقرر أن يبحث لنفسه عن عمل فيها، وهذا أولى من البحث عن العمل لشخص آخر. وكان الإعلان يشترط المقابلات مع المتقدمين . فاراد اغتنام تلك الفرصة السانحة كي يرصد لنا بعينه اليقظة كيف يتسلل الجهاديون والمتطرفون المتأسلمون لغزو عقول الشبان وتجنيدهم لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية . يبدأ مشهد المقابلة بوصف ساخر لمكاتب القناة، ووصف أكثر سخرية لمديرها العام ، وما هو أكثر سخرية من السابقين الحوار الذي يتخذ فيه حازم دور المستمع أكثر من دور المتحدث، وحين سمع مدير القناة يقول عن البرامج التي ستجري ترجمتها « رح نوعّي المسلمين هناك في ديار الكفار، اللي ما يتحدثون العربية للأسف، حتى يتمسكون بدينهم وعقيدتهم ولا تغريهم حياة الفسق، والفجور «. (ص84) وهنا بلغ التقزز بحازم مبلغة، فبادر على الفور قائلا « رح أفكر بالعرض، وأتواصل معكم . « وغادر متعجلا. (ص84) بئر الأسرار توازي هذه المقابلة ذات الوضع الماساوي مقابلة أخرى بالهاتف مع لهيب؟ ولقاء يلي التواصل الهاتفي في مجلة جديدة تعنى بشئون المرأة. فدعوة بعد ذلك لسهرة في فندق الرويال. فالتعرف على مجموعة من رجال الأعمال العراقيين الذين هم رجال أعمال في النهار وفي الليل سكارى في هذا الفندق أو غيره. ولا تخلو السهرة من بعض الفنانين التشكيليين أو الأدباء الوافدين إلى عمان من بغداد. وعندما تقرر لهيب إنشاء جاليري للفنون يزداد حازم سرورا وحبورا وثقة بأن هذا المشروع سيفتح له أفقا جديدا في علاقته بلهيب أولا، وفي التخلص ثانيا مما سماه الطبيب النفسي بالهامش. والتحرر فضلا عن ذلك من غلظة رئيس التحرير وظله السمج . وفي شتاء 2006 تسمح لهيب لبئر السرار بالتدفق، والفيضان، فتروي لحازم حكايتها بأسلوب تراوح فيه بين محكي الساردة ، ومحكيّ الراوي العليم ، بما تنطوي عليه تلك الحكاية من ظروف أعقبت سقوط ساحة الفردوس، وانتشار النهب والسلب والفوضى العارمة التي اجتاحت المدينة وطغت عليها لبضعة أشهر، وما أعقب ذلك من تفجيرات واغتيالات، ومن ظهور لبعض المجاميع الإرهابية من طائفية وغير طائفية، ومن قاعدة، ودواعش، ومن أتباع الزرقاوي إلى أتباع أبي مصعب الموصلي.وهذا كله جانب واختطافها على ايدي ثلة من عصابة الموصلي جانب آخر (ص127) فهي تروي بالتفصيل الممل كيف جرى اغتصابها في مشهد تقشعر له الأبدان مثلما تروي كيف تمكنت من مغادرة بغداد إلى عمان في مغامرة لا تخلو من مخاطرة بهدف السفر إلى كندا أو أوروبا أو غيرهما من المنافي (ص 133) ولا تفوتها أن تروي ما لقيته من مكائد على يدي ابنة وطنها العراقية ابتهاج قبل أن تلتقي بالملياردير العراقي جلال زين الدين صاحب الملهى الليلي في الصويفية (ص 135)وتطور علاقتها به تطورا جعلها تبتز منه 10 ملايين دولار فتحت بها حسابا لها في البنك العربي وامتلكت أو استأجرت شقة في الدوار السابع. جاليري عشتار وأخيرا تكللت مساعيها لإنشاء غاليري في عمان بالنجاح، وأطلقت عليه اسم جاليري عشتار. وجرى الافتتاح بحضور ثلاثة من الفنانين التشكيليين العراقيين.(ص150) لكن الأمور لم تدم على ما يرام، فقد ظهر بين العاملين المترددين على الجاليري شاب اسمه جاسم، ويحب أن ينادي بجسكايا وقد برز في الرواية بصفته واحدا من المثليين الذين ارادوا تنظيم مسيرة بعمان دفاعا عن حق المثليين في التعبير عن رأيهم، وممارسة حياتهم الخاصة دون قيود من أي جهة كانت بما في ذلك الأمن. وهذا شجع حازم على كتابة تحقيق عن المثليين وآرائهم، وحسب أنه يستطيع نشره في الجريدة التي يعمل في قسم التحقيقت فيها، وهو قسم يشرف عليه صديق لا يمنع له تحقيقا، ولا يحجب له كلمة. بيد أن هذا ما أثار رئيس التحرير الذي رفع عقيرته عاليا في وسط مبنى الجريدة، والتم حوله المندوبون والمحررون وهات يا تعريض بحازم « فجأة لبس قناع القديس التقي الورع، وبدا مثل خطيب الجمعة الذي ينهى الناس لساعات عن الفاحش والمنكر وكأنه الممثل الشرعي الوحيد الناطق باسم الله « (ص160) وقذف بالتحقيق المطبوع في وجه حامله. وكان جاسم هذا قد استفز حازما بحديثه عن التابوهات، وهتك المقدسات. وهذا ما دفع به لكتابة التحقيق الذي كما يقال في الأمثال (جاب آخرته ) إذ لم تمض إلا ايام معدودات حتى كان قرار إقالته من الجريده، وطرده من العمل، قد وُقِّع وأبلغ به . وفي هذه الحال لا ملاذ له، ولا ملجأ، إلا العيادة. لا سيما بعد أن غادرت لهيب إلى بيروت،. وتصفية غاليري عشتار. أما هي فقد طويت صفحتها إذ لم تعد تتصل بحازم، ولم تعد ترد إذا هو اتصل بها، فالهاتف مغلق بصفة دائمة مستمرة. الاكتئاب مرة أخرى في مثل هذه الحال لا بد أن يعاوده الشعور بالاكتئاب. وهو ذلك الشعور الذي تحدث عنه حازم في بداية حكايته مع الطبيب النفسي ومع الهامش. ولكن هذا الهامش تبين في نهاية المطاف أنه ليس هامشا بل هو متنٌ، ومتن حقيقيٌ، إذ لا فرق في حياة هذا الصحفي المهموم بأوجاع الآخرين، وبهموم الذات، بين المتن والهامش. النسق الحواري وعلى الرغم من أن الهامش هي الرواية الأولى لخالد سامح، إلا أن القارئ المتابع ، الذي لا تعوزه الخبرة بفن الرواية، يدرك، من النظرة الأولى، أن الكاتب يتمتع بأداء حرفي في السرد، ورسم الشخوص، وإدارة الحوار، ووصف الأمكنة، والمشاهد الزمنية وصفا يسهم في تأطير ذلك كله، بغير قليل من الإتقان. وهو إتقانٌ لا نجده في الكثير من الروايات مما ينشرهُ كتاب لا يفرقون بين الرواية والشعر، أو بين الرواية والسيرة، أو بين الرواية والسواليف التي تلتقط من وهناك من كبار السن في ليالي الشتاء الباردة. ولعل مما يلفت النظر الحوار الذي تغلب فيه الكاتب على قانون من قوانين الرواية، وهو تعدد الأصوات تعددا يحيل السرد إلى أطياف من اللهجات، أو اللغيات، فهذا يتحدث باللهجة العراقية، وذاك يتحدث باللهجة المصرية – حسن مثلا- وآخر يتحدث باللهجة الخليجية – قناة العزة – وآخرون يتحدثون بلهجات أهل الزرقاء، وعمان.. ويستطيع القارئ التفريق بين لهجة المرأة الأم، والمرأة الجارة، والمرأة المتقفة المترجمة مثل لهيب، والرجل الستيني مختلف في لهجته عن الشاب ابن الثلاثين. وهذا التنوع اللهجي يضفي على الرواية، وعلى شخصياتها الطابع البوليفوني، مما يعزز لدى القارئ الإحساس بمصداقيتها، وقربها من الحقيقة، على الرغم مما فيها من التخييل الذي يقوم على مبدأ الإيهام بالواقع. واللافت أن الكاتب خالد سامح يركز على شخصيتين اثنتين في الرواية مثلما سبقت الإشارة، على الرغم من وفرة الشخوص. فقد جعل هذه الشخصيات تظهر، وتختفي، وتؤدي، أدوارا بطريقة طبيعية جدًا، فالزرقاوي، ورامي ابن سعاد، وأبو مصعب الموصلي، والأمير الداعشي، ورئيس االتحرير، وجلال زين الدين، وأخيرا جاسِم المثلي، كلٌ منهم يظهر في سياق يترتب عليه تحولا في السرد تعقبه حوادث لها علاقة بما قبلها، وعلاقة بما بعدها، في الوقت الذي تظل الأضواء فيه مسلطة بإحكام على حازم ولهيب. فكل هاتيك الشخصيات تظهر وتختفي وفقا لقاعدة بتبعها الكاتب تؤدي لبقاء التركيز على كل من لهيب وحازم باعتبارهما محوريْ النص. فمن خلال شخصيَّة حازم أوضح لنا أن الحياة في هذا الجزء من العالم تصيب الآخرين بالمزيد من الاكتئاب الذي لا تجدي معه الأدوية، والعقاقير. ومن خلال لهيب يوضح لنا بشاعة الاحتلال الأمريكي، وقذارة الطائفيّين، وسخف الفاسدين الذين جاءوا ليحكموا العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، وقبح الإرهاب الداعشي والقاعددي والزرقاوي والموصلي إلخ... وبمفارقة شديدة السطوع يوازن الكاتب بين نمطين من الحياة؛ نمط المثقف الفنان الباحث عن المعرفة في اشكالها الجمالية الأنيقة المتألقة، ونمط آخر هو الحياة التي يهدِّدُها الإرهاب، ويدفع بها دفعًا نحو اليأس والإحباط، باسلوب قلَّ أن يلجأ فيه للخطابة والمواعظ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 16-07-2020 10:40 مساء
الزوار: 892 التعليقات: 0
|