|
عرار:
محمد رمضان الجبور لقد أصبحت القصة القصيرة جدا تقف بقوة أمام الأنواع الأدبية الأخرى، وقد أخذت مكانها كجنس أدبي حديث، فهي تواكب عصرها، وتفرض نفسها بقوة، فقد أصبح البعض يجد الصعوبة في قراءة الأعمال المطولة، وكأن تقنيات العصر وما نعيش فيه من الظروف في هذا العصر تقف حاجزا بيننا وبين هذه الأعمال الطويلة، فجاءت القصة القصيرة جدا، أو ما يسميه البعض القصة الومضة لتسد هذا الفراغ. ومن الاعمال التي تم نشرها حديثا من هذا النوع، مجموعة قصصية للكاتب والاديب سمير الشريف بعنوان مسافات، وقد جاءت المجموعة في سبع وتسعين صفحة من القطع الصغير، وضمت بين دفتيها سبعا وثمانين قصة ولوحة، والمتأمل لهذا العنوان الذي أحسن اختياره الكاتب والاديب سمير الشريف (مسافات)، يرى أن هذا العنوان وراءه الكثير من الأسئلة، فأي مسافات قصدها الكاتب وأرادها، فهل هذه المسافات التي ارادها هي المسافات التي تفصله عن هذا العالم الذي رفضه وأصابه الاشمئزاز والتقزز من صورٍ مرت به، أم أن هذه المسافات تحمل أبعادا أخرى، نستطيع إدراكها من خلال العناوين التي طرحها الكاتب في مجموعته، فلا شك أن كلمة مسافات تحمل أبعادا كثيرة، فحرفا المد اللذان رافقا الكلمة دلا على مدى بُعد هذه المسافات، فهي مسافات تحملُ في طياتها الوجع الذي يرافق الكاتب في معظم الصور التي رسمها، وقد اقترن عنوان هذه المجموعة وهذا الألم والاشمئزاز من الوضع الذي صاحب الكاتب في معظم لوحاته بهذا اللون الاسود الذي غطى غلاف المجموعة، سوى من قليل من الخطوط البيضاء التي توحي ببصيص من الأمل، أمل الوصول، فقصص المجموعة تنوعت وهذا ما ميزها، فمن النقد السياسي اللاذع، إلى التوجع من ضنك الحياة وهمومها الكثيرة،ففي قصة (معارضة ) يصور لنا الكاتب الحالة التي وصل اليها المواطن العربي الذي لم يجد مكانا يقضي به وقت فراغه سوى هذه السينما المتهالكة جدرانها فالكاتب يمهد للمتلقي للمشهد الذي سيأتي بعد هذه الجملة، فالمواطن قد زحمه البول، وهو في مكان لا يليق بهذا المواطن من حيث البناء والتجهيزات والمرافق، فماذا سيفعل وقد زخمه البول، ليس هناك إلا الجدار المعتم الملطخ بإعلانات الناخبين، وكلمة الملطخ الذي أجاد الكاتب حين أختارها دون الكلمات الاخرى والتي اذا عدنا لمعاجم اللغة علمنا أنها لا تأتي إلا بمعنى وسخ، لوث، أفسد، نجّس، فهي أسم مفعول من لَطّخَ بتشديد الطاء، فهذه الإعلانات الكاذبة لا يليق بها الا هذا النوع من التلطيخ، ثم تأتي القفلة في القصة، الارتياح الذي صاحب هذا المواطن المهموم... المأزوم، الراحة الجسدية من هذا الذي كان محبوسا به، والراحة الأخرى الأهم ألا وهي تلك الاعلانات الكاذبة التي تم تلطيخها بالبول فهي تستحق ذلك. أردتُ أن أطيل الوقوف عند هذا النص، لنرى ما يميز القصة القصيرة جدا من التكثيف والإيجاز والعمق والحركة، كلمات قليلة لم تتجاوز الثلاثين كلمة، لكنها استطاع الكاتب أن يوصل لنا الفكرة التي أرادها من هذا النص، وهذا ما يميز القصة القصيرة جدا ويُحسب لها. وهذا ما يجذب المتلقي لهذا النوع من القصص، فهي تُقدم المتعة المطلوبة في عدد قليل من الكلمات ويطرق الكاتب العديد من المواضيع التي تهم المجتمع، واستنادها على المفاجأة والمباغتة تجعل المتلقي يتذوق ما أراده الكاتب. ومما يميز القصة القصيرة جدا هو تحولها في بعض الاحيان الى طُرفة فيها العبرة والتهكم من أحوال معينة، ففي قصة (رعاية) يقول الكاتب فيها : تقدم الصفوف ليصلي على جنازة خالته،تمتم طويلا ثم استدار، ما اسم المرحومة. فهو لا يتذكر حتى اسمها، نقد لاذع بطريقة التهكم وفيها الكثير من الطرافة. جودة النص تكمن في لغته المميزة القوية، فاللغة السردية هي من أهم عناصر البناء القصصي، فهي المادة التي يهندس من خلالها القاص أو الكاتب خطابه السردي، بالإضافة لكونها تضفي على العمل الأدبي جماليات بلاغية وأسلوبية. فلم تكن اللغة عند الكاتب والاديب سمير الشريف مجرد اداة تعبيرية أو وسيلة بل استطاع أن يمتلك ناصيتها ويحسن توظيفها وتوظيف مفرداتها وتراكيبها فهي القالب الذي سوف يحمل الى المتلقي الأفكار والعواطف والجمال. في قصة (شواء) يقول الكاتب: تقيأته الدروب، نسمات مساء عليلة، ضجيج الناس، رائحة شواء تحتل الفضاء، طلبالت وضيف ينتظر، هل تتسول لقمتك؟ هذا لا يليق لغير العجزة، السطو ما يليق بالرجال، أسرها في نفسه وعاد يملأ معدته بالرائحة. تُشكل الرؤية الاجتماعية والسياسية والنفسية الجانب المشرق في الأعمال الأدبية التي يقدمها القاص سمير الشريف إلى المتلقي، حيث نرى أن معظم ما جاء به في مجموعته الجديدة (مسافات) تُعبر وتعالج الكثير من القضايا التي تمس الواقع الاجتماعي، والسياسي والنفسي، فهو يؤمن بدور الكاتب، وما لهذا الدور من أهمية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، فالكاتب له الدور الأكبر في مجتمعه سواء كان هذا الدور وهذا الاهتمام بالقضايا الاجتماعية أو غيرها، فأساس مهمة الكاتب التنوير والتوجيه، فهو فرد من هذا المجتمع، وهو مكلف بحمل قضاياه بشتى أنواعها، فهو يفرح لفرحه، ويؤلمه حزنه، ومجمعنا العربي يغص بالقضايا التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها والاهتمام بها وبجوانبها المختلفة، والمتصفّح للمجموعة الأخيرة للأديب سمير الشريف (مسافات) يرى الكثير من النماذج الإبداعية والموضوعات التي تمس الحياة العامة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو نفسية، ومن العناوين التي تعرضّت للجانب الاجتماعي قصة بعنوان (مكافأة) : أنهت اللجنة تقريرها بعد ضبط مخالفات المصنع.تنهد الجميع ارتياحاً لإنجاز المهمة. انتظروا كتاب الشكر. صباح اليوم التالي جحظت عيونهم وهم يتسلمون أوراق الاستغناء عن خدماتهم.(مسافات/ ص47). ففي هذا النموذج يعرض لنا الكاتب قضية اجتماعية تعاني منها المجتمعات التي استشرى فيها الفساد الإداري، والفساد الإداري دائما يبدأ من قمة الهرم، وهذا ما جاء في النص السابق، فالموظف الصغير قام بواجبه بكل أمانة واتقان وتوقع في أسوء الظروف أن ينال كتاب شكرا على ما قدّم، ولكن المفاجأة والمباغتة من سمات القصة القصيرة جدا، فبدلا من كتاب الشكر تم الاستغناء عن خدماتهم، فالكاتب يلفت النظر لهذه المشكلة الاجتماعية، والتي هي نوع من أنواع الفساد، فهو يتمنى زوالها ومحاربتها. وفي قصة ونموذج أخر بعنوان (إشارة) طقس لا يحتمل، أنهار السيارات تُغرق الشارع، نفخ بملل، داعب زر التكييف في السيارة الفارهة، أضاء اللون الأحمر، هدأ زئير المركبة، رأى الناس أسراب نمل تقتحم مسامات روحه، قبل أن يقترب البائع الصغير من النافذة، ضغط بانفعال على كبسة الإغلاق، ارتفع الزجاج الأسود في وجه الطفل جدار خيبة وأشاح السائق بوجهه للناحية الأخرى.(مسافات/ ص78) في هذه القصة يصور لنا الكاتب مشهد يكاد يكون من المشاهد اليومية، وقد عنون القصة بــ(إشارة)، ومن خلال متن القصة يقفز ذهن القارئ إلى إشارة المرور وأولئك الاطفال الذين يحاولون كسب قوتهم بممارسة البيع على إشارات المرور، ولكن الكاتب لم يشأ تسجيل ورصد هذه العادة أو هذا الأسلوب، إنما أراد أن يقارن بين طبقتين من طبقات المجتمع، الطبقة الغنية التي تعيش في ظروف اجتماعية مترفة منعمة، تركب سيارات فارهة، بينها وبين من يعيشون في الخارج حاجز حتى رؤيته لهؤلاء الناس من حوله، ما هم إلا اسراب من النمل قد ضج من وجودهم، فهو ينفخ بضجر وتقزز من كل ما هو حوله، ثم يعرض لنا الكاتب النموذج الآخر من الناس، هذا الصبي، البائع الصغير، الذي أراد أن يقترب من النافذة، كي يعرض بضاعته على صاحب السيارة الفارهة، ولكنه يُصدم عندما يرى زجاج السيارة الأسود يرتفع في وجهه، ويُصاب بخيبة أمل، ولا تتوقف القصة عند هذا الحد، بل نرى إبداع القاص في وضع النهاية لهذه القصة، فلم يكتف السائق برفع الزجاج الأسود فقط، بل أشاح بوجهه للناحية الأخرى دلالة الاشمئزاز مما يرى. فالكاتب بكلمات قليلة يطرح قضية قد تحدث في اليوم والساعة أكثر من مرة، قضية الطبقية في المجتمعات العربية. الكاتب سمير الشريف يحاول من خلال عدسته التقاط الكثير من الصور للمجتمع الي يعيش فيه، فهو واحد من المجتمع، ففي قصة أخرى بعنوان (لقاء) يحاول الكاتب تصوير هؤلاء الذي يلبسون الأقنعة الملونة، ويمتهنون الكذب على من هم حولهم، ويعيشون مساحة واسعة من النفاق والدجل والمظاهر الخادعة فيقول : (لقاء) سأل الصحفي المتحمس الرئيس الذي يقف أمام الكاميرا بشموخ: ماذا عن مذكراتك التي نزلت السوق حديثاً؟ سمعت أنه كتاب رائع. (مسافات/79) استخدم الكاتب مفردة رئيس للدلالة على أهمية الشخصية المذكورة، وفي العادة تهتم الشخصيات الكبيرة بكتابة مذكراتها، وذلك لبيان أهميتها ومكانتها في المجتمع الذي تعيش فيه، أما أن يكون هذا الرئيس أخر من يعلم بهذه المذكرات فهذه المفارقة هي التي أضفت الجمال على القصة، وجعلت منها نصاً قصصيا استوفى عناصر القصة القصيرة جدا. لقد شُغل الكاتبُ بهموم المجتمع الذي يعيش فيه، والواقع الذي يعيشه المواطن العربي، وطرح من خلال قصصه الكثير من المشاكل التي تواجه الفرد والجماعة، فتحدث عن العدالة الاجتماعية، والاغتراب النفسي، وأزمة الحرية، والقمع، وآليات القهر، وممارسة العنف السياسي. فعندما أراد الكاتب أن يُعبر عن فكرة الفقر المدقع، تحدث لنا عن والد أمسك بيد ولده أمام أحدى المحلات التي تبيع ألعاب الأطفال، ويبدع الكاتب وهو يصور لنا الحالة النفسية للولد الذي انبهر بهذه الالعاب التي تُزين واجهة المحل،وأصابه ما أصابه من الفرح لرؤية هذه الالعاب والحالة التي فيها الأب وقد عجز عن أن يشتري لعبة لولده، فهو يضغط على يد ابنه الطرية وذلك يحمل دلالات عديدة، فاختيار مفردة طرية دلالة على صغر سن الولد فهو طفل صغير ، وهو يُعبر عن حالة القهر الذي في داخله بهذه الضغطة لعدم قدرته على شراء ما يُرح ولده، كما أنه يحاول إسكات ولده، ثم يصور لنا الأب الذي أخفى دمعته عن ولده، فهو يتمنى أن يُسعد ولده ولكنه غير قادر على ذلك، قهر شديد، فالقهر قد أصاب الوالد والولد. لا شك أن التنوع الذي مارسه الكاتب في مجموعته مسافات قد أضفى على المجموعة الجمال والإقبال، فما أن يُمسك القارئ بأول خيط فيها حتى لا يستطيع المغادرة، فيشده أسلوب الكاتب وموضوعاته المختلفة، والتي تجد القبول والاهتمام لدى المتلقي، فالتنوع سمة من سمات هذه المجموعة، فالكاتب هو واحد من هذه المجتمع الذي نعيشُ فيه، يرى ما نرى، ويسمع ما نسمع، فقد طرق في مجموعته جوانب عديدة، ففي قصة (براءة ) يميل الكاتب الى ما يسمى بالتهكم السياسي، فكثيرا ما ينبري مثل هؤلاء، ومثل بطل قصة براءة الى هذا النوع من النفاق والدجل السياسي الثقافي، محاولين كسب وتأييد مجموعة من الأصوات البائسة. (براءة): تنحنح، حك لحيته الخيط على صفحة وجهه وهو يدلي ببيانه الصحفي : بعت على إشارات المرور، جمعت العلب الفارغة، تاجرت بالكتيبات والمساويك وزجاجات العطور على أبواب المساجد بأثمان مضاعفة، فهل أكون مارست التجارة بالدين. فالكاتب يصور لنا مشهد وصورة من المجتمع الذي نعيش فيه، فأمثال بطل القصة كثيرون، يحاولون استدرار عطف السامع، بأنهم من المجتمع ومن قاع المجتمع، ويصف الكاتب لنا شخصية بطل القصة، بأوصاف مادية وأخرى حسية، فلحيته خيط، دلالة على انسلاخه مما يدعي ويقول، يتنحنح، يحك لحيته، يسرد سيرته البائسة، فهو مجرد بائع صغير، يبيع المساويك، ويجمع العلب الفارغة، دلالة على فقره المدقع، ويقف على أبواب المساجد، يجمع قوت يومه، ثم يعترف أنه كان يبيعها بأثمان مضاعفة. فما أكثر هؤلاء الذين يتاجرون بالدين، شريحة من شرائح المجتمع، يرسمها الكاتب بأسلوب جميل، وبكلمات قليلة. وبقي أن نقول أن الكاتب والمبدع سمير الشريف قد وضع في هذه المجموعة الرائعة (مسافات) خبرته وقراءاته المتنوعة، واستطاع من خلال توظيفه لتيمات عديدة ومتنوعة أن يشد القارئ ويوصل له المتعة والفائدة المصدر: صحيفة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 11-10-2020 12:13 صباحا
الزوار: 1120 التعليقات: 0
|