|
عرار:
أُسَيْد الحوتري يدور حدث الرواية الرئيس في قرية الحورانية حول جريمة قتل تطال المحامي الشيوعي صلاح عثمان، ويكلف المحقق غانم الغانم بالبحث عن المجرم وبالكشف عن تفاصيل الجريمة. وبينما يتابع القارئ أحداث هذه الرواية البوليسية لفك خيوط الجريمة المتشابكة بشوق وترقب، يجد القارئ نفسه وجها لوجه مع مجموعة من الجرائم الاجتماعية الأخرى التي لا تقل في خطورتها عن جريمة قتل صلاح عثمان، لا بل وقد يكون ضررها على المجتمع أضعافا مضاعفة، مع ذلك فإن أحدا لم يُكلف بالبحث عن مرتكبي هذه الجرائم وبالكشف عن تفاصيلها وملابساتها. في نهاية الرواية، سيشعر «القارئ العادي» بالراحة لأن المحقق الفذ والحصيف غانم الغانم سيكتشف قاتل صلاح عثمان، كما ستصيبه الدهشة والصدمة عندما يعرف سبب ارتكاب الجريمة الذي لم يكن ليخطر على بال. إلا أن هذه المشاعر لن تنتاب بأي شكل من الأشكال «القارئ العُمدة»، فهو يدرك تماما أن اكتشاف المجرم لم يكن بيت القصيد، ولم تكن رسالة الكاتب التي رغب بتسليط الضوء عليها، بل كان غطاء خارجيا، وإطارا بوليسيا للوحة اجتماعية أبلى وأمرّ. إن رسالة الكاتب التي أراد إيصالها إلى القارئ تتجاوز بكل تأكيد الإطار البوليسي للرواية والمتمثل في الكشف عن جريمة قتل المحامي صلاح عثمان. ففي الوقت الذي تتكشّف فيه ملامح هذه الجريمة فيأخذ القانون مجراه وتُطبّق العدالة على القاتل، تبقى هناك عشرات الجرائم الاجتماعية، وعشرات المجرمين يسرحون ويمرحون بعيدا عن يد القانون والعدالة. وهنا تكمن السخرية، كل السخرية من الروايات البوليسية التي تنتهي باكتشاف المجرم بينما يغصُّ المجتمع ويعجُّ بآلاف المجرمين! ومن هذه الجرائم التي تطرقت لها الرواية والتي بقيت دون حساب أو عقاب جريمة الفساد الحكومي، يقول صلاح عثمان: «الفساد متفش في كل مؤسسات الدولة. استسهلوا السرقة لأنهم يفلتون من الحساب الرادع»، ومن هؤلاء السارقين المختلسين كان مروان السالم، موظف بسيط في دائرة الأراضي، الذي أصبح لا يرتدي إلا البِدل، واشترى لنفسه سيارة فارهة بعد اختلاس «نصف مليون دينار من الدولة» (دعيبس 83). يذكر صلاح عثمان جريمتان أخريان يعاني منهما المجتمع، فيقول: «وسوء الإدارة والمحسوبية زادت الطين بلة»، لا ينتهي الأمر هنا، فصلاح مثقف وناشط سياسي مطلع على أحوال البلاد والعباد ويؤكد بأن التضييق على الحريات سيجلب كارثة على المجتمع وخصوصا بعد أن تردّت الأوضاع الاقتصادية وساءت أحوال الناس، «الناس تحملوا كل هذا وتحملوا التضييق على الحريات العامة لأن أسباب رزقهم كانت متيسرة، أما الآن فالوضع مختلف...الله يسترنا!» (24). والسجن نهاية التضييق على الحريات العامة، وفيه يتعرض المعتقلون إلى جرائم في حق إنسانيتهم، فيُصب عليهم من صنوف العذاب ما يُدمي الصخر، و»كان الصعق بالكهرباء الأسوأ بين كل أساليب التعذيب...»(43). وقد طرح الروائي صورا أخرى للتعذيب منها «الضرب المبرح، الضغط على الرقاب، الجلد بالفلقة...» (140). كما أن أبناء المجتمع الواحد ارتكبوا في حق بعضهم جريمة مصادرة الرأي الآخر واحتكار الحقيقة، وهذا ما وصفه الروائي بـ « معركة حرية الكلمة والتعددية وحق الاختلاف»، ووضّح الكاتب هذه الفكرة فقال:» أنا أختلف معك لكنني لست عدوك. أنت من البادية وأنا من السهول وهو من الجبال، لكن الوطن يظللنا جميعا» (113). ينبغي ألا يقود اختلاف الرأي إلى الخلاف، ولكن فئة من المجتمع يطيب لها ممارسة هواية تخوين الآخر، حتى أنّ الأمر قد يصل عند البعض إلى تكفير الآخر واستباحته. ومن الجرائم التي يرتكبها المرء في حق نفسه وحق وطنه: جريمة البحث عن الذهب! فهذه الكنوز والدفائن، بحسب القانون، تعتبر ملكا للدولة، ويعدُّ الاستيلاء عليها جريمة يحاسب عليها القانون. هذا من جانب، ومن جانب آخر يعتبر الجري خلف الكسب السهل السريع ضربا من ضروب الوهم والخداع، ومن يستسلم لهذه الفكرة فقد ظلم نفسه، وارتكب بحقها جريمة لا تغتفر لأنها قد تنتهي بخسارته لماله ووقته وجهده، وقد تتسبب في بعض الأحيان بخسارته لنفسه، كما حدث مع صلاح عثمان الذي قُتل على يد شريكه في البحث عن الذهب: محمود الساري، والذي سيدفع من سنين عمره ثمنا لجريمته النكراء. وكما تمارس السلطة قمعها للحريات، يقمع الرجل المرأة، فها هو والد منتصر يعتدي بالضرب على زوجته بشكل متكرر، اعتداءات «تنال فيها الزوجة نصيبها من الخيزرانة...ولا تستطيع النوم لليال على الجنب الذي تلقى الضربات الموجعة» (104). وكان هذا ديدن محمود الساري أيضا فقد كان ينفعل لأتفه الأسباب، فيوبخ زوجته ويضربها. لا يتوقف ظلم المرأة عند هذا الحد فحسب، فقد عرضتْ الرواية صورة للأم التي تظلم ابنتها، وتخدعها لتزوّجها من شخص بخيل وغير كفؤ، والأصل أن تختار الأم لابنتها الزوج الصالح الذي يحافظ عليها ويحفظ لها كرامتها. وهذا ما نراه بشكل جلي في قصة أبو منتصر، وجدة منتصر التي جملت صورة هذا البخيل لابنتها عندما تقدّم لخطبتها. ومن الجرائم الاجتماعية التي عرضتها الرواية أيضا إخراج الآباء أبناءهم من المدرسة، فقد ظن والد حسني أن المدرسة مضيعة للوقت، فأخرجه منها بعد المرحلة الإعدادية، وأجلسه بجانبه في (بكب) توزيع الغاز. انعكس هذا القرار بشكل سلبي على حياة حسني، وعانى ماديا ومعنويا بسبب إخراجه من المدرسة، يقول حسني: «عندما كبرت ورأيت من كانوا في مثل عمري ينهون المرحلة الثانوية ويذهبون إلى الشام أو العراق لدراسة الطب أو الهندسة، شعرت بالندم والخزي والأسى» (147). لقد كانت للإصابة بالعين نصيب من الطرح في هذه الرواية، فبينما كان أبو حسني مع ولده في (بكب) الغاز، نظر أحد كبار السن إلى حسني نظرة خبيثة، والرجل معروف في قدرته على الإصابة بالعين، فتوجه أبو حسني إلى الرجل مرددا «صل على النبي!»، وأعطاه عدة دنانير، و»تناول أسطوانة غاز ودفعها عند قدميه» (150). وهذه الحادثة مرتبطة بالحسد وتدور في فلكه، فالحسد مرض من أمراض القلب، حيث يتمنى المرء النعمة لنفسه، مع زوالها من غيره. وهذا مما ينشر الكراهية والبغضاء بين أبناء المجتمع. وكان الحسد من صفات محمود الساري، والذي كان «ثقيل الظل وحسود...يحسد الطير على جناحيه والسماء على زرقتها والأرض على تربتها الحمراء» (161). وأخيرا، كان الشيخ الأفغاني رمزا لجريمة التطرف والتعصب والتكفير، وعندما وصف الأفغانيُّ المحاميَ صلاح عثمان قال: «ما هو إلا كافر وملحد، يستحق ما جرى له» (180). وهذا ما أكده كريم أيضا حين قال: «ثم بدأتُ أتغيّب لأن نبرة التشدد التي يتحدث بها لا تعجبني، وخاصة في بعض المواضيع مثل المرأة ودورها في المجتمع، والتكفير المجاني... وتحوّله مع مرور الوقت من خطاب التشدد إلى دعوة للعنف في سبيل التغيير» (182). وهكذا نرى أن جريمة القتل الفردية التي ارتكبها محمود الساري كانت عبارة عن إطار الرواية البوليسي؛ أما الفساد، والاختلاس، وسوء الإدارة، والمحسوبية، والتضييق على الحريات بالحبس والتعذيب، واحتكار الحقيقة ومصادرة آراء الآخرين، وسرقة الدفائن، وظلم المرأة، ومنع الأولاد من إكمال تعليمهم والتغرير بهم لزواج مجحف، والحسد، والتشدد، والتعصب، والتكفير، والدعوة إلى العنف، كانت عناصر لوحة «الجرائم الاجتماعية» التي سلطت الرواية الضوء عليها، والتي بقيت دون حسيب أو رقيب، ودون حساب أو عقاب. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-10-2024 08:35 مساء
الزوار: 343 التعليقات: 0
|