التجريب في رواية (الحب في زمن العولمة) لصبحي فحماوي
عرار:
د. نور الدين الخديري/ المغرب يحاول صبحي فحماوي من خلال روايته «الحب في زمن العولمة» تصوير واقع عربي صريع للعولمة، لكنه يقدمه بعين ناقد ساخر، يتهكم على ما آلت إليه حالات وأحوال شخصياته التي رسمها بعناية فائقة لكي تشكل قوى فاعلة في مجرى أحداث روايته هذه، محاولا أن ينوع من أنماطها لكي تكون في مجملها هي هذا العالم العربي الذي نعيشه أو الذي ننتمي إليه، فالروائي استطاع حقا أن يقدم رؤية إبداعية من خلال هذا العمل، من حيث بناؤه وأسلوبه ومضامينه ومقصدياته وأبعاده الدلالية. الروائي الأردني صبحي فحماوي يعد واحدا من الروائيين العرب الذين استهواهم التجريب، ومن خلاله انفتح على آفاق الكتابة المغايرة التي تتوق إلى توثيق التجربة وتحصينها بفرادة فذة منفلتة من كل اجترار أو تأثر بالغير، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان بخصوص ما راكمه من أعمال تمثل في مجملها صوتا روائيا تجريبيا لا يشبه إلا ذاته، ذلك لأنه يمتلك من المهارات والخبرات والمعارف ما يؤهله لكي يحظى بهذا التميز مقارنة مع غيره من الروائيين المجايلين له، فهو في العناوين التي أبدعها لحد الآن، كان يدرك أن الكتابة الإبداعية هي تجربة تستدعي التراكم، الذي يسير عليه المبدع بخطى يراد منها أن تؤسس لوعي إبداعي له حساسيته الخاصة، وله فلسفته الشخصية في بناء رؤيا روائية تجريبية جديدة ذات خط إبداعي خاص. ولعل هذا ما يورط المتلقي في دوامة الأسئلة القلقة التي بعدما أغوتها كتابات هذا المبدع، صارت تبحث في بنية هذه التجربة وفي طرائق وأساليب الكتابة لديها، وفي امتداداتها الإبداعية ومقصدياتها الاجتماعية والفكرية والثقافية التي تقدمها للمتلقي بأسلوب نقدي ساخر، وكأنها تهدم هذا الواقع لكي تعيد بناءه من جديد، كما أن كتابة هذا الروائي تنبني على اقتناص جزئيات الحياة العربية التي تقدم وجها حضاريا بشعا سقط في شرك الحياة العصرية التي استحوذت عليها الثقافة العالمية أو ما يسمى بعولمة الإنسان العربي، وتحنيطه في قالب غربي غريب عنه، وفي عالم مخالف ينسف كل ثقافة خاصة، ويهدم كل موروث فكري وثقافي عربي، في ظل ما يسمى بالمثاقفة. لا يختلف اثنان في أن اللغة المتبناة من طرف الروائي صبحي فحماوي ليست بريئة ولا محايدة، فهي صانعة للأحداث والمواقف ومشكلة للتصور العام الذي تدور فيه الشخوص بتعدد أنماطها وحالاتها وتآلفها وصراعها، ذلك أنها لغة تعرية وكشف وفضح للواقع العربي، أو للزمن العولمي العربي الجديد، الذي لاشك أسهم في تشويه هوية الفرد العربي وانجر من خلال هذا الزمن إلى الاستهلاك المجاني الذي لا يحسن التفاعل مع هذا الوافد الثقافي الجديد، لأنه غريب عنه، ولأنه من صنع الآخر المسيطر على العالم. لقد جرب صبحي فحماوي طرائق جديدة في الكتابة، وأساليب جديدة مستمدة من هذه المتغيرات التي يعرفها العالم العربي في إطار علاقته بالغرب، محاولا أن يجعل من الكتابة الروائية مواكبة للمتغيرات التي يشهدها العالم، استجابة للمتغير الثقافي والمعرفي أيضا الذي بات يضطلع به القارئ العربي بصفة عامة. هذا التجريب يمتح من الواقع العربي ومن تلك النقلة الحضارية القيسرية التي تحول فيها الفرد العربي من عالم البداوة والصفاء والتلقائية والحب الحقيقي الصادق (مدينة البطين) إلى عالم الحضارة والتمدن المبهر والمدهش والغريب الذي تلففه العولمة بانجرافاتها وعنفها وقيم الحب المزيفة التي تفرزها (مدينة العولمة) كما جاء في تلابيب هذه الرواية من خلال شخصيتها الرئيسة «سائد الشواوي أبو سفيان». ثمة تنافر ومفارقة كبرى، ذلك أن المنطقة التي تسمى ب»البطين» لها خصوصيات البداوة التي لم تكن تعرف ملامح المدنية إلا بعد أن فرضت عليها فرضا فاستحالت إلى مدينة قائمة الذات تسمى بمدينة العولمة، فكيف تأتى للسارد أن يجمع بين عنصرين متناقضين لتشكيل فضاء آخر، خلف تداعيات مأساوية لشخوص الرواية وبخاصة شخصيتها الرئيسة «سائد الشواوي الملياردير الذي انتهى به المآل إلى الإصابة بداء فقدان المناعة» الإيدز»؟ هذه المدينة كرست للقلق الوجودي الذي ينتاب الفرد من جراء تلك النقلة الكبرى من عالم البداوة والأصالة إلى عالم الحضارة المعاصرة، حيث تحضر المتناقضات والعناصر المتنافرة، ومن ذلك ما نستشفه من قول ثريا بنت سائد الشواوي على لسان السارد» هل نجح العلم في تطوير الحياة، فتغلبت عليه أمراض العصر بتحقيق الموت؟ هل حققت الحياة للعالم كل هذه الصناعات والتجارة والطب والهندسة والعلوم والفنون فأتت الآخرة لهم بتلوث البيئة وثقب الأوزون لتدمر الأرض وما عليها؟» كما نجد ما يستدعي طرح تساؤلات عديدة من قبيل: بأي منطق يفكر شخوص الرواية، هل بمنطقهم الخاص أم بمنطق السارد الذي يدفعهم دفعا إلى حافة السخرية والعبث واللامعقول وكل الأساليب التي توصل المرء إلى حد البكاء المضحك أو الضحك المبكي؟ فسائد الشواوي الشخص المأساوي أخبر من طرف طبيبه الخاص الألماني «فريديريش» بأنه مصاب بالإيدز، في خضم انشغاله بمشروع بناء قصره الفخم الذي سيكون معلمة هامة بمدينة العولمة، فحدث المرض الذي يلزم الملياردير على ملازمة الفراش لم يمنع بقية أهله من الانشغال بمشروع بناء القصر، عوض الانكباب على محنته في محاولة للتخفيف منها» قامت أم سفيان وهاتفت أبو خلدون مدير المشروع: أرجوك . . أن تسرع في إنجاز القصر وخاصة جناح غرفة النوم الرئيسية، نريد أن يسكنها أبو سفيان خلال شهر من الآن- حاضر سيدتي! أجاب أبو خلدون الذي راح يحدث نفسه قائلا: أخشى أن يكون الرجل مودعا! وأنه قبل أن يودع فهو يريد أن يشعر أنه قد عاش في قصره، ولو لأيام أو لأشهر معدودات !» وما جدوى بناء القصر والموت يترصد للشواوي من كل جانب؟ تلك هي المأساة التي يعيشها الملياردير حين يتمسك بالحياة، ومن خلالها حبه لتملك (القصر) وغير القصر أسئلة أخرى تثير الدهشة والغرابة؟ ذلك أن مدينة العولمة التي يأتي على قمة أعيانها سائد الشواوي وأهله، من المفروض أن تقفز إلى عالم حداثي معاصر، حيث يسود العلم وتنتشر الثقافة ويرقى الفكر العربي من خلالها، ومن ثم التناغم مع الحياة الجديدة بكل حالاتها وتطلعاتها، لكن المدينة تغيرت كفضاء أو لنقل كشكل، في حين ظل الفكر غارقا في الخرافة والمعتقدات البالية التي تعبر عن التخلف المعرفي والثقافي. «بينما تتمشيان داخل المشروع (زوجة الشواوي ومهندسة المشروع) سمعتا صوت ردم ثم شاهدتا حجارة تتساقط من فوق هرع الجميع إلى الخارج فشاهدوا جدارا من جدران الطابق الثالث قد انهار، وسقط معه معلم البناء حملوه بسرعة في سيارة المقاول، وانطلقوا به إلى مستشفى الصحة، وهناك قالوا إنه قد مات انهارت أم سفيان قائلة إنها العين التي لا تصلي على النبي !لا أفهم لماذا تطاردنا هذه القوى الخفية في هذا البناء الشقي..!». فإذا كان الإيمان بالعولمة أمرا مفروضا لا فكاك منه، فلماذا يظل الفكر العربي متمسكا بالبدع والخرافات والمعتقدات البالية؟ « قالت الحاجة صفية ( والدة سائد الشواوي) لزوجة ابنها (أسمهان): الحسود لا يسود ! «اذبحي يا أسمهان خروفا على عتبة كل باب من أبواب القصر، فالدم يُرهب الأرواح الشريرة، ويُبعدها عن البيت». هذه المعتقدات التي لا يمكن أن تتعايش وتتناغم مع العولمة، إلا في هذا العالم الروائي لصبحي فحماوي، وكأني به يوجه نقدا لاذعا للبلاد العربية التي لم تستطع التخلص بعد من الفكر الخرافي المتجذر في موروثها الثقافي. لكن هذا الفكر لا تمثله كافة شخوص الرواية، بل ثمة من يتصدى لامتداداته وتداعياته عن طريق العلم «فعلقت ثريا (الطالبة في علم النفس الاجتماعي) متضايقة: لا داعي لهذه الخرافات والمشاعر السوداوية، فنحن لم نسمع أصواتا، إنها أوهام يا أمي! حاولي أن تخرجي من الموضوع» لقد استطاع فحماوي أن يجعل من عنصر الزمن عنصرا سيكولوجيا عائما وزئبقيا لا تحده حدود، من خلال اعتماد الرواية على تقنيات حديثة كالاسترجاع والاستباق، مما يجعل الزمن دائريا، لا نعرف مبتداه ولا منتهاه، ولتجسيد هذه التقنيات عمد صاحب الرواية إلى جعل بطله الرئيس بعد معرفته بخبر إصابته بالإيدز، يعيش على الهذيان الذي يستحضر معه حوادث عجيبة وغريبة ومدهشة، قد تكون حقيقة أو خيالا، تتأرجح بين الوعي واللاوعي، والشعور واللاشعور، «. لم يسلم سائد من ورطة الهذيان على الرغم من انتقاله إلى غرفته الجديدة بالقصر المعلمة، فقد ظل هاذيا «أبوسفيان ينام في غرفته الجديدة في القصر، كانوا قد فرشوها له بأثاث فخم وكان ينام قليلا ثم يصحو !ويهذي كثيرا دجاج! دجاج! عمارات! عمارات! عمارات! سيارات! سيارات! كلها متحركة باتجاه واحد أنا لا أعرف كيف تسير العمارات وتتحرك « .. بناء عالم يتسم بالانفجار ويسوده الألم والحزن والانكسار النفسي والمواقف الحادة ولعل مخلفات العولمة لا تقف عند حدود الأشخاص ومعاناتهم الاجتماعية والنفسية، بل تمتد أيضا إلى تأزيمهم عندما يصبحون ضحايا للهيمنة الاقتصادية من خلال الشركات الكبرى « فأنت مثلا في شركة الدواجن تطرد عددا من موظفيك، يذهبون إلى الضمان الاجتماعي هم أحرار! وعندما يرتمون في الشارع بلا رواتب، فإنهم يجوعون، فيضطرون للعمل لديك بأية أجور منخفضة. « ومدينة العولمة تزايدت مآسيها، إذ كلما كبرت وتمادت أطرافها، كلما تفاقمت هذه المآسي والأحزان، وكلما أصبح الفرد فيها مجرد رقم فاقد لكينونته وآدميته، وحلت محله الآلة الجشعة التي تقضي عليه بل تقتله وتستهدف منه الفقير والمحتاج والبسيط الذي قد يكون حلمه حلم طفل باحث عن لعبة في ركام أزبال» بقلوب يعتصرها الأسى، ننعي لكم وفاة الطفل عبد السميع سرحان، ابن الزبال الذي سبق وأن ظهر في صفحات هذه الرواية، والذي وافته المنية تحت عجلات شاحنة النفايات العملاقة، بينما كان يبحث عن لعبة بين نفايات حارة البلوط، والتي لم ينتبه سائقها وهو يرجع شاحنته إلى الوراء» خروج الجسد عن أوضاعه الخاصة وإبراز حالات المسخ والتضخم والتعددية: من تجليات الغروتيسك كما جاء في هذا المحور، التشويه الذي يلحق بالجسد «يقول أبو سفيان في هذيانه: الرئيس يجب أن يتعلم المراوغة، يجب أن يعرف كيف يتحول إلى أسد في لحظة! وفي لحظة إلى قرد يستطيع أن يكور ويقزم نفسه فيصير أرنبا! يجب أن يتعلم التلون! يجب ألا يكون ذا وجهين! يجب أن يكون ذا تسعة وتسعين وجها !» يشكل تشويه الجسد ركيزة هامة ضمن الركائز التي يعتمد عليها الغروتيسك، باعتباره الشكل الذي يحمل القيم والمواقف والحالات « قال موظف الجمارك وهو رجل مكعب يجلس ملتصقا بمقعده، خلف طاولة مكتظة بالأوراق والملفات ورأسه الشبيه بشمامة ناضجة يلتصق مضغوطا بين كتفيه، وعيناه تتحركان يمينا ويسارا داخل محجريهما» لقد استطاع صبحي فحماوي من خلال هذا الأثر الروائي أن يكون مبدعا له صوته الخاص في تكليم الواقع العربي وتعريته بأساليب
لغوية ساخرة، تهكمية، هجائية، تتغيا إثارة وعينا لما يعيشه الراهن العربي ومعه الفرد العربي من تمزق فكري بالأساس، وما يتساوق معه من استلاب ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي، من خلال روايته « الحب في زمن العولمة». فالعنوان يظل مخادعا لأنه لا ينسحب على كل المضامين الفكرية والجمالية التي تشكل مقصدية المؤلف صبحي فحماوي، لكنه يظل في هذه الظرفية العولمية المفروضة على الواقع العربي، حيث تتشكل الأحداث وتتحرك الشخوص وتتضارب المواقف، لكنها تنتظم بخيط إبداعي يمسك بزمامها ويتمثل في عصر العولمة الذي تلاقح بشكل فجائي وصادم مع فضاء زمكاني عربي، يحدثه التقاء عنصرين متنافرين (قرية البطين/ مدينة العولمة) هذا التلاقح الذي لم يكن عقيما، لكن نجمت عنه ولادات مشوهة، غير سوية، ضالة، مست كافة الأصعدة: النفسية والاجتماعية والأخلاقية، والاقتصادية والثقافية وما ارتبط منها بمنظومة القيم التي فقد معها الفرد العربي آدميته، وتنازل فيها عن قيمه وما تبقى من مروءته، وانساق خلف النزوات والشهوات التي أفرزتها العولمة في منطقته العربية» البطين» فتم الانسلاخ من الأصالة والتلقائية والبساطة والحب الصادق العفوي، فكانت المأساة وانتشرت الاختلالات والأعطاب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وعمت الفوضى ربوع مدينة العولمة، ففقدت الشخصية المحورية مناعتها باعتبارها ضحية لهذه العولمة وجعلت تتصارع مع الموت في محاولة لمغالبته، لأنها شخصية توثر الدنيا وتتمسك بالحياة وبحب التملك للمال والسلطة والجاه الذي يبقيها في القمة للسيطرة على الآخرين باعتبارهم عبيدا وخداما. كما أن صبحي فحماوي استطاع أن ينسلخ من كل الضغوط في كتابته الدرامية لهذه الرواية، مما يؤشر إلى تحرر فكر هذا المبدع، عندما يهب لأحد أبناء سعد الدين (الجني المبدع) سلطة الحكي، فهو الذي يملي عليه الحكاية، وهو الذي يدفعه إلى معانقة نهاية رواية مجهولة العواقب، لأن فحماوي لا يعرف عن خاتمتها شيئا، وليست له أحقية العبث بأحداثها، أو تغيير مجرياتها، أو تعديل في إحدى شخصياتها، ومواقفها، وصراعاتها، فثمة مبدع موحي في شخص ( الجني ولد سعد الدين ) وهناك مبدع منفذ بأمانة لهذا الوحي الإبداعي الذي جعل فكر صبحي ظاهريا يبدو مستلبا، ولكنه في العمق متحرر من كل القيود، ومتجاوز لكل مألوف أو كتابة روائية نمطية، وهكذا يظل هذا العمل الروائي عالما إبداعيا مركبا ليس بالهين استقراء امتداداته، ومن ثم فهو عمل يظل مشرعا على دراسات نقدية أخرى تقدم رؤيتها النقدية المغايرة التي تخدم قيمة الرواية وتبقي على حياتها الإبداعية كمشروع منفتح على قراءات ومقاربات متعددة.
المصدر: صحيفة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-11-2020 07:51 مساء
الزوار: 821 التعليقات: 0