الرؤيــا والدلالــــة في «ملحمة الكائن الحربي..» لجميل أبوصبيح
عرار:
د. زياد أبولبن إن ما يثير انتباه القارئ هو عنوان ديوان الشاعر جميل أبوصبيح «ملحمة الكائن الحربي أو ما غنّاه نسرُ الياسمين في طريقه إلى المعركة»، والديوان عبارة عن قصيدة واحدة تقع في حدود 65 صفحة من القطع المتوسط، أي هي قصيدة ملحمية، تتخذ من تفعيلة الشعر الحر وزناً لها، حيث تأتي القصيدة بهذا الطول بعد أن أخذ هذا العصر سمة الإيقاع السريع في كل مجالات الحياة، لكن أبوصبيح اتخذ مساراً مختلفاً عن إيقاع العصر ومحمولاته التي بات القارئ في عزوف عن كلّ ما يمت للكتابة من طول حتى وإن لم يصبه الملل في عمل كتابي طويل يرقى بفنياته وجماليات اللغة. إذا سلّمنا بالتعريف الشائع للملحمة الشعرية: «بأنّها قصة شعرية بطولية تقوم على خوارق الأمور والعادات وتُخلط بها الحقائق بالأساطير»، فإننا نجد في الأدب العربي الحديث من خاض غمار هذا النوع من الكتابة، فكان لبدر شاكر السياب غمار السبق في كتابة الشعر الملحمي في قصيدته أنشدودة المطر» و المومس العمياء»، وتبعه خليل حاوي في رحلة السندباد الثامنة»، ثم محمد عمران في «مراثي بني هلال»، ولا ننسى ما كتبه عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس، وقد سبق هؤلاء الشعراء شعراء نظموا ملحماتهم الشعرية على غرار الملاحم اليونانية، ومنهم أحمد شوقي وأحمد محرم في الملحمة الإسلامية، وشاعر المهجر فوزي معلوف وغيرهما، وشاعر الجزائر مفدي زكريا. عنوان ديوان أبوصبيح يقوم على خيارين، الأول «ملحمة الكائن الحربي»، وهذا يعيدنا إلى الملاحم الشعرية عند اليونان، بما تقوم على الحرب أو الثورة التي يشترك فيها قطاعات الشعب في حوادث تاريخية، متمثّلة بالبطولة الفردية، وما يتبعه من خوارق تفوق الواقع، بل هي أسطرة للواقع، أما الخيار الثاني فهو ما غنّاه نسر الياسمين في طريقه إلى المعركة»، وهذا العنوان ينطوي على أغاني الرعاة، لكن المفارقة بما يحمله من دلالة بـ نسر الياسمين»، فيما يؤشّر على رمزية استخدام « النسر» من قوة وتحليق في الأعلى، لكن هنا الشاعر يستخدم دلالة أو رمزية أخرى تقترن بالنسر ألا وهو « الياسمين «، وقد عُرف عن الياسمين من دلالة على الرقّة والرمز في قصص الحب والعشق بنصاعة بياضه، ليتحول هنا إلى غنائية مغايرة في طريقه إلى المعركة. كُتِبَ هذا النص الشعري الطويل عام 1987، وأذكرُ أن صديقي الشاعر جميل أبوصبيح قد قرأه في ذاك العام على مسامعنا في جلسة واحدة جمعتنا بالصديقين الشاعر أحمد الكواملة والفنان التشكيلي محمد أبوزريق، وكان لوقعها في نفوسنا أثرٌ بالغ، وحفاوة غير معهودة بقصيدة ملحمية محمّلة بصور شعرية متلاحقة وكثافة في اللغة، ونشيد رعويّ معتّق برائحة الياسمين، مما أثار أسئلة متعددة عن القصيدة الملحمية، والنفس الشعري الطويل الذي يتمتّع به أبوصبيح، وأظن أن متعة سماع الشعر تفوق متعة قراءته، ولعل مردّه يعود إلى ميزة الشعر العربي منذ القديم يقوم على الإنشاد أو الإلقاء. يطالعنا في بدء القصيدة اسم الحرب، وليست الحرب هنا كالحرب التي تتمثّل بواقع الإنسان من قتل ودمار، بل هي حرب منسربة من الذاكرة، في تمثلات الجسد، وما عهدنا بالحرب إلا ملحمة البشر في قدرة الآلهة على خرق بطولي مؤسطر، ويتحول فعل الإرادة إلى تحولات مسكونة بنشوة الحياة أو الانتصار على واقع مأزوم، فتعلو الأنا في تحقيق شغفها في الوجود برغم ما يدور في هذا العالم من حرب، وما تحمله الحرب من أثار تلقي بظلالها على النفس من تشظي وانكسار، فصوت الشعر يكسر إيقاع طبول الحرب في فتنة الحياة: «وَأنا أُريدُ الماءَ بين يَدَيَّ خَمْراً من جَليدْ وَأُريدُ أجْسادَ الصَّبايا الفارِعاتْ تلكَ الرَّياحين الْأثيلةْ» ويبقى فعل الإرادة متكرراً في إيقاعه المستميت على التحدّي، تحدّي لكل ما عبث به البشر، حيث تتحول الحرب من فعلها التدميري وهلاك للبشرية إلى حرب أخرى يرسمها الشاعر في أغنية أو نوارس أو غزلان مهاجرة أو حتى في وطن أو في بيت على حبل الوريد، فيقطع المسافة الزمنية بين الأنا والإرادة، وهو القائل: «وَأنا الذي فَتَنَ الحَياةَ أنا الذي عَبَثَتْ بِهِ حُمْرُ الخُدُودْ والحَرْبُ دائِرَةٌ ليْسَتْ كما أهوَى وَليْسَتْ مِثْلَما تَهوى ابتساماتُ الجُنودْ والحَرْبُ نَوْرَسِيَ الوَحيدْ وَأنا أريدْ بَيْتاً على حَبْلِ الْوَريدْ» فيقوم النصّ على تجاذبات بين الأنا والأخر، فكلاهما ضدنا في فعل الإرادة، في مشاهد سينمائية أو تصويرية متشابكة، وما يميز نصّ (أبوصبيح) المشهد الحركي في متواليات شعرية متدفقة، فلا تكاد تقف على صورة من الصور إلا وتتلاحق الصورة تلو الأخرى أو تنشطر الصورة الواحدة إلى صور متعددة، ويتضافر فيها الدلالي بين الخاص والعام، ويصبح تفكيك النص أكثر تعقيداً من التراتبية التي يقوم عليها، حيث تتفلّت الصورة في ذهنية القارئ، ليستجمعها مرة ثانية في علاقة الذاتي بالموضوعي، كما يتمثل في هذا المقطع الشعري على سبيل المثال لا الحصر: «بَيْنَ الجُنودِ وبينَ أسْلِحَتِي رَمادْ جَيْشٌ من الدُّفلى وأحْزِمَةٌ وأوْسِمَةٌ تلتفُّ كالأفعى على جِسمي وتَنبُتُ أسْئِلةْ حَجَرٌ على قلبي وماءُ البحرِ في جَوْفي يَموجُ ولَسْتُ أكْتُمُ أنّ لي جَسَداً تُرابِياّ ولي كَفّانِ مِجْذافانْ» تشكّل طفولة الشاعر هاجساً موحشاً، وهو يستعيد الماضي في عنفوان الحياة الهادئة المسكون بأجواء القرى البعيدة، وما تقوم عليه جداول الماء باعتبار الماء تجسيداَ لعناصر الكون الأربعة (التراب والهواء والنار والماء)، كما أن رمز « العصافير « دال على الحرية المطلقة في فضاء الكون، والأكثر إبهاراً جمالية « سجود نور الشمس في مرج النخيل «، وهنا انزياح تشبيهي مركوز بسحر الطبيعة المفتقدة، مما يمنح الصورة الشعرية عذوبة اللغة المنصهرة في انزياحها الاستعاري، فيستدعي أبوصبيح صورة أبيه في غلال الأرض في الفردوس المفقود (فلسطين) ليصار إلى المخيم بعد أن فقد البيارة في وطن محتلّ محملاً بالدماء والقتل: «وأرى أبي في الأرضِ يَطوي سُنْبُلَ الأيامِ في غَبَشِ الْمُخَيّمِ والدماءْ وأرى صَباحَ القَتْلِ يَغْتالُ الصِّبا الْوَرْدِيّ ثمّ يَنامُ مُلْتَفّاً بِسَوْسَنَةِ الْفَناءْ» وللمكان المفقود خصوصية في استعادة الماضي، الذي أصبح حلماً بعيد المنال، فيحلّ مكانه المخيم بصوره المتناثرة في وجدان الشاعر، والمحمّل بالمنفى وعذاباته، فيلتمس الشاعر خروجاً أخر لعذابات النفس بصورة بنات المخيم في طريقهنّ لعين الماء، تلك الصورة المتفتقة عن سحر المكان، وهنا يتحقق الإنسجام الإيقاعي في وحدات دلالية متشابكة مع اللغة نفسها: «سَرَّحْتُ أمْطاري على بابِ الْمَساءِ، طريقُ «نَبْعِ الْعَيْنِ» تَرْحَلُ في بَناتِ مُخَيَّمي عنْدَ اشْتِعالِ الْأُفْقِ، فيهنَّ التي تَرْمي علَيَّ سَلامَها مِنْ تحت غُدْفَتِها.. تِلكَ الغَزالة تَسرِقُ الْأَصْدافَ من قلبي وَتَزْحَفُ في سُهولِ الْمَوْزِ تَنْهَبُ شَوْقَ روحي ثم تَنْسُجُني بِخُطْوَتِها تلكَ الْغَزالة غابةٌ لِلشمْسِ ساحِرَةٌ، أثارَتْ جَنَّةَ الرَّيْحانِ وانْطَلَقَتْ إلى أحْداقِ أُغْنِيَتي وَآوَتْني بِفِتْنَتِها تلك الغزالة أشْعَلَتْ ظُلُماتِ رُوحِي، كَسَّرَتْ شُطْآنَها، فَغَزَلْتُ أقْماري على بَحْرِ السَّماءِ نَوارِسَ الْأمْواجِ تَلْعَبُ في حَديقَتِها فإذا انْتَشَتْ حَمَلَتْ إليَّ رَمادَ أشجاري فأُنْكِرُها وَأُطْلِقُ في حُقولِ الموتِ آخِرَ ما لَدَيَّ مِنَ الغِناء» ينفتح النص على استعادة صور الماضي المسكون بمرارة المنفى، وفي غناء الروح إلى بلاد وردها دم وريحها وسماؤها أفق الحقول، مستذكراً الشاعر صوت الرصاص والقنابل، فهو ماضٍ موحش في تفاصيله، وهنا تتناوب أنا الشاعر المضمرة مع أنا الحضور في انزياح لغوي ومشاهد حركية موحية: «مَطَرٌ لِآخِرِ ما لدَيَّ مِنَ الرّصاصِ وَأوَّلُ الرُّؤْيا بِلادي لَمْ تَكُنْ ماءً سَديمِيّاً وَأَعْضائِي عليها خَيْمةُ الْبَرْقِ، اشْتَهَيُتُ غِناءَها، هذي بلادي وَرْدَةُ الدَّمِ، ريحُها وَسَماؤُها أُفُقُ الْحُقولْ وأنا ترابيٌّ على باب الخليلْ أهْوَى جَدائِلَها وَأغْرِسُ في شَرايينِي ذَوائِبَها وَراياتِ الْفُتوحاتِ الوَليدَةِ
وانْفِجاراتِ الْوُصولْ وَدَمُ القَصيدَةِ سالَ في قلْبي تَدَلّى مِنْهُ عُنْقودُ الْقَنابِلِ، فَانْتَهَتْ دُنْيا.. وَبَدَأْتُ دُنْيا» ما يميّز نص «ملحمة الكائن الحربي» تلك الصور المتدفقة، وما تحمله جماليات اللغة على محمل الدلالة، حيث يقوم السرد على ربطها ببعض كي لا ينفلت عِقَلُ الشعر من مواضعه وتصبح الصور مفككة أو تصبح الصورة مستقلة عن الأخرى، فيتضافر الدلالي بين الذاتي والموضوعي، ويكون صوت طبول الحرب تدقّ في خيم المشردين عن وطنهم، وتتواشج ملحمة الكائن الحربي بملحمة الرحيل الفلسطيني عبر هجرات الكائن الخليلي، تاركاً أنين المدن الفلسطينية تحت وطئة المحتل الغاصب، ويحلّ المنفى الفلسطيني محمّلاً بأوجاعه وآلامه: «آهٍ.. إذنْ بَحرٌ وبَحرْ وطنٌ غفا بين الأصابعْ وطن غَفا في غُرفتِهْ وطنٌ غفا في ماءِ رُوحي منفى ومنفى ثم بحرٌ ثمّ منفى ثم بحرٌ ثم أسلحةٌ ومنفى ثم بحرٌ ثم دَمٌ ثم دَمْ وأكونُ مِرآةَ السماءِ ووَعْلَ قُطعانِ الْعَدمْ وتكونُ لي فَرَسٌ تخُبُّ على حَشيش الضوءِ، أمسَحُ عُرْفَها» نلحظ أن البنى الدلالية في مقاطع القصيدة تتعمق مع البنية الإيقاعية، في تناغم يسعى إلى تعميق رؤيا الشاعر للعالم، فينطلق من الخاص للعام، أي من الآني للمطلق، فهي رؤيا متوهجة بمكونات النص الشعري، وانزياحات اللغة بمدلولاتها، ولعل القطع السينمائي في القصيدة وحركته يكشف عن تلاحم الصور بعضها ببعض، التي تحمل - أي تلك الصور- طاقة شعرية خاصة عند أبي صبيح في نفس شعري طويل أو نفس ملحمي، فما يكاد يقف على صورة شعرية من الصور حتى يشقّها أو ينثرها بمتعدد في الرمز والإيحاء، بل يؤنسن الأشياء بدءاً من أول مقطع في القصيدة الملحمة إلى أخر مقطع فيها، كما نلاحظ ذلك في المقطع الأخير من القصيدة، وكأنه منفتح على أفق جديد أو على أفق لا حدود له: «يَسْقُطونَ وَيَنْهَضُونَ وَيَسْقُطونَ، أنا اكْتِمالاتُ الْعَواصِفِ غَيْرَ أنّ رصاصَةً صَمّاءَ خانَتْنِي وَما عَرَفَتْ هَوايَ، تَسَلَّلَتْ كالْأُقْحُوانِ إلى حَشايَ، عَرَفْتُها، هِيَ مِنْ بَناتِ الْحِقْدِ يَقْطُرُ غَيْظُها في قاعِ رُوحي، لَمْ يَزَلْ مِلْحٌ على كَفّي أُقاتِلُهُمْ بِهِ، جِسْمِي الذي يَهْوي وَأصْعَدُ لِلْأعالي، أوَّلُ الخُطُواتِ مَعْرَكَتِي وَلِلْجَسَدِ انْحِناءِ الْوَرْدِ، جِسْمِي يَنْحَنِي وَالْأرْضُ حُبْلى، وَالْوُرودُ الْحُمْرُ تَنْعُرُ مِنْ جِراحِي، تَنْتَهي الطَّلَقاتُ، أنْصُبُ حَرْبَتِي، وَالْجُنْدُ حَوْلِيَ كُلّما اقْتَرَبوا تَراخُوا، في فَحِيحِ جُنونِها، مِثْلُ السُّوارِ، رَصاصُهُمْ مِلْءُ الهَواءِ، يُزاحِمُونَ الْمَوْتَ في نَفَقِ الْجَريمَةِ، يَلْهَثُونَ وَيَسْقُطونَ وَيَنْهَضونَ وَيَلْهَثونَ وَيَسْقُطونَ، وَكانَ جِسْمي مثلَ جِذْعِ النَّخْلِ لكِنْ يَنْحَنِي، أشْتَدُّ لِي ثَأْري وَدُنْيا لا تَزالُ شَهِيَّةً، وَعلى الْحِرابِ نَشَرْتُ أجْسادَ الرِّفاقِ، حَمَلْتُهُمْ في جُعْبَتِي، جُثَثٌ تَمُرُّ، تَحُطُّ أكْفاناً على أكْتافِها وَتَمُدُّها في غابَةِ الْأيْدي وسائد من جليد، ينحني جسمي فأطعن طعنة الْمَوْتى وَأوقِنُ أنَّها هِيَ آخِرُ الطَّعَناتِ والحَرْبُ التي أهْوَى وَأُوقِنُ أنّ خُطْوَتِيَ الْأخيرةَ تَخْتَفِي تحتَ انْحِناءَتِيَ الْأخِيرَةِ، إنّها اللحَظاتُ تَسْعُلُ وَهْيَ تَعْبُرُنِي وَتَمْضِي، ليسَ لي جِسْمٌ أُواريهِ التُّرابَ، وليسَ لي كَفَنٌ، وَجِسْمي في انْحِناءَتِهِ الْأَخِيرَةِ ذابَ في شَفَقِ الصَّباحِ، الْكَوْنُ أزْرَقُ والسَّماءُ جَديدَةٌ بَيْضاءُ، كَفّنْتُ الْغَمامَ بِثَوْبِها، وارَيْتُها بِأريجِ زَنْبَقَةٍ وَلا زالَ الْمَدى لِغَزالَةِ الْأعَداءِ مُمْتَدّا.......................» إنّ ما يميّز قصيدة أبي صبيح، قصيدة الملحمة أو الملحمة القصيدة، المجازات والرموز والأنساق الدلالية وجماليات اللغة والإيقاعات وتوالد الصور وفضاء الأنا والتشكيل البصري والمشهد الحركي، كل ذلك بمحمولاته الشعرية، وكسراً للمتوقع، ومغايراً للسائد، وهي ملحمة استبصار للواقع ورؤيا للمستقبل، وأظن أن القارئ المثقف قد يجد فيها ما سعيت للكشف عنه، أو قد يجد فيها ما هو مختلف عمّا وجدته، ولعلّ ناقداً ما يرى فيها غير ما رأيت، وهذا وذاك مركوز بفعل القراءة الواعية للنص.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-07-2021 12:05 صباحا
الزوار: 879 التعليقات: 0