البناء والرؤية في قصيدة «فن تشكيكي» للشاعر علي الفاعوري
عرار:
كانت العرب ما قبل الإسلام تجتمع في سوق عكاظ قبل الذهاب إلى الحج؛ فتبيع وتشتري ويتسابق فرسانها وينشد شعراؤها قصائد الفخر بالأهل والقبيلة التي كانت المرجعية الأولى والأخيرة للشاعر، وليس أدلّ على هذا من قول دريد بن الصّمّة: ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ لم يخطر ببالهم أنّ هذه النزعة القبليّة ستخفّ قبضتها بعد حين، وأنّ هذه الرؤية الضيّقة ستزول شيئًا فشيئًا. جاء الإسلام وصنع من العرب أمّة واحدة بعد أن كانت أكثر من خمسمائة قبيلة متناحرة وموزعة في جهات الجزيرة الأربع. بدأ العربي يفكر منذ ذلك الحين بالبعد القومي وخاصة عندما اتّسعت رقعة الدولة وزاد عدد الأمم المهزومة التي ظلّت وفيّة لقوميتها وحضارتها البائدة. في العصر الحديث تصاعد الحسّ القومي عند العرب مع نهاية الحكم العثماني وراح الشعراء يردّون على دريد بن الصّمّة وغيره بقولهم: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان ظلّتْ القصيدة العربية تتفاعل مع قضايا الشعوب وتساندها واعتبرت نفسها ضمير الأمة الحيّ. ولم يكن إغراق بعض القصائد في الذّاتيّة سوى رافدًا من روافد البعد الإنساني والجّمعي للناس من منطلق أنّ ألم الشاعر وشجونه لا ينفصلان عما يشعر به الإنسان بغض النظر عن موقفه السياسي والنّضالي والإصلاحي، فاللحظة الوجدانية لها صور كثيرة ومتعددة. في ديوانه الأول (مقام الضباب)- الصادر بدعم من وزارة الثقافة عن دروب ثقافية للنشر والتّوزيع بغلاف جميل من تصميم الشاعر والفنان محمد خضير- يؤكد الشاعر علي الفاعوري على أنّ المياه الراكدة- لا شك- ستأسن بعد حين، وأنّ الجريان والتّدفّق على مستوى المفردة الموحية والصورة المبتكرة والفكرة الطّريفة والبناء المختلف والرؤية الواضحة ستجعل من القصيدة مادة طيّعة لحمل مشاعر إنسان العصر وهمومه وهواجسه. في قصيدة (فن تشكيكي) يجمع الشاعر صور ومشاهد عدة في لوحة واحدة تؤشر إلى التراجع والتخاذل والنكوص الذي نعيشه في ظل منظومة أخلاقية باهتة. ينوّع الشاعر في التعبير عن ذاته بين الرمز والصورة المشرقة. يقول في مطلع القصيدة: (في الصّورة/ جلّاد يضرب بالسّوط حصانًا عربيّ الأصل/ في الصّورة فحلْ/ يتسلّى من ضجر الفقراء بسيجار كوبيّ المنشأ)؛ وهذه إشارة إلى حال الأمّة المتردّيّة التي باتتْ تُجلد ويُملى عليها ما تقول وما تفعل من قبل القوى العظمى. وفي الصورة اللاحقة يشير الشاعر إلى تفاوت الطبقات؛ هناك فقراء لا يجدون قوت يومهم، وهناك من يدخّن سيجار كوبي وهو دلالة على الغنى الفاحش، وهذا من صميم وظيفة الشعر وهي أن يعبّر عن القبح بكلام مثقف وواع حتى يجبر القارئ على الالتفات والنظر. في المقطع اللاحق تبرز في اللوحة حالة مربكة ومحيرة؛ يقول: (والشعب المختلف على لون الكوفيّة/ يشرب قهوته العربيّة/ ثم يُمتّع/ ذائقة تفاهته بنكات سيئة الأخلاق على الجّوّال/ وبذات اللهفة من ورع/ يحفظ أوراد الحفظ من العينْ/ ويردّد فاطر والأنفالْ). هذا التناقض الذي نعيشه كل يوم ونمارسه بكل رضا وحب دون أن ندرك واقع الحال. نختلف على القشور والمظهر ونهمل الجوهر. من أراد أن يشرب القهوة العربية- وهي دلالة على الأصالة، وقد تكون إشارة إلى أدعياء المروءة والنبل- عليه أن لا يعيش حياة مزدوجة المعايير؛ تارة يقهقه على دعابة بذيئة يتداولها الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، وتارة أخرى يقرأ سورة فاطر وسورة الأنفال بكل خشوع وورع. النفاق الاجتماعي الذي بات سمة العصر، يجعل منّا مجتمعًا غير جدير بالثقة، وينمّي نزعة الشك بين الناس. أقنعة كثيرة تغطي الوجوه حتّى أن صاحب الوجه لا يعود يتّعرّف على نفسه بعد حين. حالة مربكة فعلًا. اللوحة تصبح أكثر فسيفيسائيّة مع توالي الصور والجزئيّات التي تخلق عالمها الخاص بها، فتجمع متناقضات لا رابط بينها سوى اللون وهو القتامة المؤلمة والبشعة. المشهد يصبح أكثر إثارة مع ظهور السيدة وكلبها (في الصورة سيدة تحمل كلبًا بين يديها/ لا يبدو عربيّ البهجة/ إغريقيًّا يبدو.. إفريقيًّا/ لا فرق/ فكلّ كلاب العالم تنبحُ/ لكن تختلف اللهجةْ). مدخل الصورة يبدو للوهلة الأولى رومانسيًّا؛ سيدة تنزه كلبها في المساء، لكن يتّضح لاحقًا سبب هذا الاستدعاء عندما يعقد المقارنة بين سلسلة الكلب الفضيّة وسرج حصان عربي قاتل في حطّين. (السلسلة الفضيّة تبدو أكثر لمعانًا من سرج عربيّ/ قاتل في حطّين). هذه صورة مفرطة بالألم تحيلنا إلى أفكار كثيرة. قد يكون الكلب إشارة إلى الانتهازيين والوصوليين الذين يتمتعون بالخيرات والرفاهية دون وجه حق سوى أنّهم يخصّون السيدة التي ترمز إلى السلطة الفاسدة.الحصان وسرجه اللذان حملا الحضارة العربية الإسلامية إلى أقاصي الأرض أصبحا موضعًا للإهمال والتّآكل، (فكل خيول الأمّة منذ قرون/ معفاة من هذا الواجب/ وجواز السفر لكلب السيدة مغطّى/ محميّ وفق القانون من التمزيق/ معفيّ من همّ وقوف في طابور المشبوهين/ لساعات للتدقيق/ فالأصل عريق..!). تراجع مكانة الأمة بعد أنْ أُعفيت خيولها من الجري في السهول الفسيحة وأصبحت حيوانات داجنة بعد أن كانت بريّة وشرسة.الفساد الإداري والمحسوبية والمحاباة وهدر كرامة المواطن العربي في إجراءات أمنيّة سقيمة أمور تطلّ برأسها من هذه الصورة فنراها ولا نعود نرى غيرها. (لا شيء/ سوى كيس/ ممتلئ بحبيبات الشبع الكافر/ ينتظر السيدة الشقراء/ والسيارة فارهة/ والسائق أسود/ والوقت نساء!/ عفوا/ الوقت مساء../ في الصورة شعر أندلسيّ/ وبقايا لغة تشبهنا/ وملامح داحس والغبراء). حبيبات الشبع الكافر هي المخدرات، وبقايا لغة تشبهنا هي إشارة إلى اللغة التي أهملها أهلها فصارت نسخة بالية عن اللغة الجميلة المشرقة التي كانت عليها، وهي أيضا إشارة إلى ذلك الزمن الجميل في قرطبة وجامعات الأندلس وحضارتها التي ما زالت شواهدها ماثلة إلى اليوم. ملامح داحس والغبراء هي انعكاس لحال الأمة من التناحر والتباعد. (والشعراء:/ إمّا أجراء عند السيدة/ الحاملة الكلب الإغريقي الأصل/ وإمّا مصلوبون على ورق أخرس مقطوع/ من دفتر أمّتنا الخرساء). الشاعر الذي لا يصفّق للسلطة يصبح مهمّشًا وبلا صوت. تقترب القصيدة من نهايتها تتوالى الصور الخاطفة على طريقة (الفيديو كليب): (الصورة ملأى عن آخرها بشجيرات/ غطّاها أيلول/ بلون الخوف من المجهول/ في الصورة/ نبع يشرب من حنفيّة فلاح مسخوط/ يسرق ماء بحيرة جارته/ كي يسقي الذرة الكادت تهلك/ في الصورة/ الأمة تغزو كومة قش/ وذباب ينهار قتيلًا/ في الصورة سيف ورديّ/ والخيل مروضة..). الشجيرات الصفراء هي إشارة إلى ضبابية المشهد وعدم وضوحه والخوف من المستقبل. لا أحد يعرف كيف سينتهي هذا التّدافع الغريب؛ فالكل يحاول أن يدفع الخطر عن المكان الذي يقف فيه ليستمر الشد والجذب دون نهاية تلوح في الأفق. قد يكون المقصود بالنبع الحيتان الذين لا يسمحون لتاجر صغير أن يزاحمهم في السّوق. يدوسون من يقف بطريقهم دون رحمة أو شفقة. الصورة برمتها تأخذ الرأسماليّة على محمل الجد بكافة مستوياتها. الأمة التي تغزو كومة قش أصبحت مثل الدون كيشوت الذي هاجم طواحين الهواء بلا طائل، كان يعيشزمنا غير زمنه فتعثّر وسقط. لا بدّ أنّها أمّة من قش حتّى تغزو كومة قش. تهوي مثل الذباب بعد أن أنهكه التعب والطيران العبثي؛ فالقش لا يحتمل أكثر من نفخة قويّة حتى يسقط ويتهاوى. هذه القصيدة ببنائها المختلف تسعى لقول ما يقوله الجميع ولكن بلغة ورمزيّة ورؤية خاصة بها. تجمع ومضات تلمع أمام عيوننا فتصيبنا الحيرة، وتربكنا الصورة ابتداء من العنوان الذي تلاعب به الشاعر ليجهّزنا لتلقي هذه القصيدة المحكمة على مستوى البناء والدراما واللون. الشاعر علي الفاعوري يقرأ نصّه بعناية قبل أن يخرج إلى الجمهور حتى لا يقع في مصيدة التّكرار التي باتتْ من منفّرات الشعر. يقرأ نصّه بعناية حتّى لا يقع في مصيدة المباشرة والوعظ التي طالت الكثيرين، فقد مللنا النظم وتُقنا إلى الشعر البسيط والعميق.صدر للشاعر أيضًا ديوان بعنوان (آيل للصعود) عام 2019، وديوان (أزرق مما أظن) عام 2020.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-07-2021 12:10 صباحا
الزوار: 805 التعليقات: 0