|
عرار:
مهدي نصير مقدمة نظرية: بدايةً لا بدَّ لنا من الاتفاق أن إيقاع الكلام في أيِّ لغةٍ كانت ليس وزناً وليس تكراراً لكتلٍ صوتيةٍ متشابهةٍ أو تشترك بخصائص صوتيةٍ معينةٍ وليس أيضاً قافيةً تستلذُّ لها الأذن الكسولة، ولا بدَّ لنا أن نتفق أن الشعر ليس موسيقى، فالموسيقى فنٌّ مستقلٌّ له سلالمه وإيقاعاته ومقاماته وأوزانه المنضبطة، وهنا يبرز السؤال الكبير الدائم: ما هو الإيقاع اللغوي؟ وممَ يتكون إيقاع اللغة؟ وهل الإيقاع المجرد جوهر من جواهر ومكونات الشعر؟، آخذين بعين الاعتبار أن الإيقاع إيقاعان: إيقاع الصوت الغريزي ونشترك فيه مع الحيوانات، وإيقاع اللغة الذي نختصُّ به كبشر ويدخل في تكوينه الصوت الغريزي وهو المكون الأعمق والأقدم للغة، ويدخل فيه أيضاً الذاكرة التاريخية للصوت وظلاله واشتقاقاته وارتباطاته والذاكرة التاريخية للكلمة وارتباطاتها الأنثروبولوجية والسيكولوجية والشعبية أيضاً. تاريخياً ارتبط الشعر العربي الكلاسيكي بالوزن وبحوره التي قعَّد لها الخليل بدوائره الخمس، والأذن البشرية والحيوانية تستلذ الهارمونيات الوزنية وتنخدعُ بها، وساد هذا الارتباط الطويل بين الشعر العربي والوزن البيتي حتى منتصف القرن الماضي مع محاولات عبر تاريخ الشعرية العربية للتحرر من الوزن والاتكاء على مكونات إيقاعيةٍ أخرى كالموشحات والبند والمسمطات والمخمسات..الخ، وإن احتفظت هذه النماذج بصيغٍ وزنيةٍ بعيدةٍ وليست مباشرةً كما في البيت الشعري الكلاسيكي، في منتصف القرن العشرين برزت بقوة قصيدة التفعيلة كوريثٍ شرعيٍّ للشعر العربي حيث ألغت هذه القصيدة الوزن كمكونٍ أساسيٍّ من مكونات إيقاع الشعر العربي واعتمدت بشكلٍّ أساسيٍّ على إيقاع وتناغم الكتل الصوتية الخليلية – التفاعيل – بأسطرٍ شعريةٍ غير متساوية الأوزان، ولكن.. هناك في اللغة الفصيحة والمحكية إيقاعاتٌ عذبةٌ لا تتشكَّل من كتل الخليل الصوتية الضخمة - التفاعيل – ولا بدَّ للشعر أن يستخدمها ويوظفها في بناء قصيدةٍ جديدةٍ وطازجةٍ وحيَّةٍ وتنتمي لتراكيب اللغة ومكوناتها، أي بصيغةٍ أخرى في اللغة والكلام هناك إيقاعاتٌ طازجةٌ وعميقةٌ ولا تنتمي لإيقاع تفاعيل الخليل، فكان لا بدَّ من الذهاب في شوط التخلص أيضاً من الهيمنة المطلقة والأحادية والاحتكارية للكتل الصوتية الخليلية الضخمة والبحث عن مكوناتٍ تنسجم مع واقع اللغة وإمكانياتها الإيقاعية والصوتية غير النهائية والعودة إلى المكونات الأولى للكتل الصوتية في اللغة العربية والتي يتفق الأصواتيون العرب على أنها (وهنا سنبقى مرتبطين بأصالة التحليل الصوتي لأنوية الخليل الأولى التي شكَّل منها تفاعيله الصارمة): 1- السبب الخفيف (فا) 2- السبب الثقيل (فَعَ) 3- الوتد المجموع (علن) 4- المقطع الزائد الطول ويتكون من متحرك يليه ساكنان (فاعْ) 5- فونيم الوقف أو الصمت بين الكتل الصوتية المتتالية. وعلينا أن نتفق أن الإيقاع ليس صوتياً للأذن فقط بل للصورة إيقاعها وللذوق إيقاعه وللشمِّ إيقاعه وللَّمس أيضاً إيقاعه، واللغة أصواتٌ تكوَّنت انثروبولوجياً عبر تاريخ الناطقين بها لتختزن تجاربهم ومعارفهم وأذواقهم وخبراتهم، فهي تختزن بأصواتها كلَّ إيقاعات حياتهم وكل مخزونات حواسهم التي تستثيرها وتولدها هذه الأصوات بإيقاعاتها التي عبَّرت عنها عبر تاريخها المتحرك والمتطور، وهذه الإيقاعات جزءٌ من بنية هذه اللغة وهذه الأصوات وتشكِّل جزءً من إيقاع اللغة ويجب أن تكون جزءً مؤثراً من إيقاعات الكلام والشعر الذي يستخدم هذه الأصوات ويوظفها جمالياً لتوليد تأثيرات جماليةٍ متنوعةٍ يحملها الشِّعرُ وتحملها القصيدة، وهذا يقتضي منطقياً أن إيقاع الصوت الميكانيكي المعزول ليس هو كلُّ مخزون اللغة من الإيقاعات، وهنا يبرز جوهر قصيدة النثر التي تبحث عن كلِّ هذه الإيقاعات المخزونة في اللغة وإطلاقها كمكون إيقاعي متحرك للشعر والقصيدة، إنها تسعى للمزج بين الإيقاع الميكانيكي لأصوات اللغة مع الإيقاع التي تستثيره المكونات الداخلية للكلمة والسطر والكتلة الشعرية، إيقاع قصيدة النثر شجرةٌ بريَّةٌ تنمو فروعها وامتداداتها بعشوائيةٍ بعكس قصيدة التفعيلة المهذبة والمُقلَّمة بشكلٍ هندسيٍّ خارجيٍّ متشابهٍ ليس هو من طبيعة النمو العشوائي للطبيعة وللغة ككائنٍ طبيعيٍّ ينمو عبر التاريخ بعشوائيةٍ شبيهةٍ بالطبيعة وموجوداتها، والشعر هو أكثر الفنون الإنسانية بحثاً عن أن يعبِّر عن روح وأحلام وغموض وتدفق التاريخ البشري العشوائي. لنلاحظ مثلاً الفارق بين إيقاع كلمة «ويلٌ» وكلمة «قلبي» وكلاهما من الكتلة الصوتية الخليلية «فعْلن»، هل تمتلك هاتان الكلمتان نفس الإيقاع عندما تُنطقان في سياقٍ ما؟ بالتأكيد الجواب لا، فـ «ويلٌ» تستدعي طيفاً واسعاً من الإيقاعات الانثروبولوجية المتعلقة والمختزنة في نسيجها وتلوينات نطقها، بينما كلمة «قلبي» تمرُّ كإيقاعٍ ميكانيكي محايدٍ قد تشوبه بعض الظلال الساذجة لعواطف غير ناضجة، كذلك هل إيقاع كلمة «موأب» كإيقاع كلمة «كتاب» مع انهما من نفس الوزن ونفس القافية؟، الكلمة كائنٌ حيٌّ له أصولٌ وجذورٌ وتاريخٌ وأنساغٌ وقراباتٌ وله حضورٌ وصوتٌ ورائحةٌ وملمسٌ وذوقٌ وشخصية، أي أن أنثروبولوجية الكلمة كشخصية لها تاريخٌ وألوانٌ تحضرُ عند النطق بها وتستثير إيقاعاتٍ مرتبطة بهذا التاريخ، قس ذلك عندما تلتقي شخصاً ما تعرفُ بعضاً من تاريخه وتجاربه وسيرته فإنك تستدعي لا شعورياً كلَّ هذا التاريخ لهذا الشخص ويكون انفعالكَ مرتبطاً بهذا التاريخ ويكون لحضور هذا الشخص إيقاعٌ يعكسُ هذا التاريخ، وإذا لاحقاً تبين لكَ أشياءَ كنتَ لا تعرفها عن هذا الشخص فإن لقاءَكَ القادم به سيختلف وفقاً للتكوين الجديد لهذا الشخص، أي أن الإيقاع للمقاطع متغيرٌ ويرتبط أيضاً بثقافة المتلقي وخبراته وبثقافة الشاعر وخبراته أيضاً، لذلك يصعب عمل نموذج كمي لهذه الأنثروبولوجيا العميقة والمتشعبة لكلمات اللغة والتي تشكِّل اللبنة الأساسية لبناء إيقاع الكلام والشَّعر في كلِّ اللغات، وسأقتصر هنا على تحليل إيقاع قصيدة النثر الخارجي المرتبط بتتابعات النوى الإيقاعية التي أشرتُ لها أعلاه وكما يلي: يمكن تفكيك الكتل الصوتية في قصيدة النثر إلى النوى الإيقاعية الثلاث الأولى - أما فونيم الوقف والمقطع الزائد الطول فهما يأتيان كصمت إيقاعي بين المقاطع الصوتية المتتالية في الأول وكوقف إيقاعي أيضاً في المقطع الزائد الطول في نهاية السطر الشعري - المبينة أعلاه ومنها يتكوَّن (إذا افترضنا أن الكتلة الصوتية الأصغر تتكوَّن من نواتين إيقاعيتين أو أقل): (1- فعْلن/ فعْلان 2- فاعلُ 3- فاعلن/ فاعلان 4- فعلتُ 5- فَعِلن/ فَعِلان 6- فعلتن/ فَعِلَتان 7- مفاعلن/ مفاعلان 8- فعولتُ 9- فعولن/ فعولان/ فعولْ) في قصيدة النثر تتوالى الكتل الصوتية المبينة أعلاه مكونةً إيقاعاتٍ كميةً أساسيةً هي في حقيقتها إيقاعات اللغة في حضورها الحي في الحياة، وفي القصيدة يتحكم الشاعر في الإيقاعات الداخلية موظفاً الإيقاعات الأخرى المرتبطة بالكلمات وتاريخها ونبرها وتنغيمها وفقاً لما يريد أن يقوله في قصيدته، وهنا لا بدَّ من التأكيد على أن الكلمة هي حاملة الإيقاع وليس كتلة الصوت الكمية (التفعيلات الخليلية أو الكتل الصوتية الأقل) لذلك قد تتكون الكلمة من نواةٍ إيقاعيةٍ واحدة (قد، لم، ذا.. الخ) وقد تتكون من نواتين إيقاعيتين كما افترضناه أعلاه في هذا النموذج وقد تتكون من أكثر من نواتين إيقاعيتين، وهذه الملاحظة التي تؤكد على أن الكلمة هي حاملة الإيقاع في النص والقابلة على حدودها للوقف والقابلة بداخلها للنبر والتنغيم والقابلة أيضاً كمياً للتدوير الكمي مع الكلمات المجاورة لها سيفتح أفقاً جديداً لقراءةٍ إيقاعيةٍ أعمق يستند إلى إيقاع الكلمات - وليس التفاعيل أو الكتل الصوتية التي تمزق اتصال مكونات الكلمة مع بعضها - ويمنحها شخصيتها الإيقاعية. سأقوم في الفقرات التالية بتحليل بعض قصائد النثر العالية في قصيدة النثر العربية وفقاً للنموذج أعلاه مستخدماً نصاً أو جزءاً من نصٍ للشعراء: وديع سعادة، موسى حوامدة، نضال برقان، بسام حجار، أنسي الحاج، وأمجد ناصر وكما يلي: أولاً: وديع سعادة من قصيدة التحدث إلى الخيول «كان عبثاً أن أُفهمَ الأحصنة: فاعلُ/ فعولن/ فاعلن/ فاعلن أن السباقَ مخجلٌ في هذه المنحدراتِ: فعلن/ مفاعلن/ فعولن/ فاعلن/ فاعلن/ فاعلُ وأني أفلستُ تماماً من القمحِ اليوميِّ والماءُ للذكرى: فعلن/ فعلن/ فَعِلن/ فاعلن/ فعلن/ فعلن/ فعولن وعبثاً أرمي علفَ الصداقة...: فاعلُ/ فعولن/ فاعلُ/ فاعلن « لاحظوا أن الكتل الصوتية في هذا النص متوافقة - مع تدوير السطور – مع الكتل الصوتية التي تم تحديدها أعلاه ككتلٍ صوتيةٍ تكوِّن الأساس المقطعي الكمي لقصيدة النثر. ثانياً: موسى حوامدة من قصيدة كرز «الشبهُ الذي يربط ابتسامتكِ بالفجرِ: فاعلُ/ فاعلن/ فاعلن/ فعولتُ/ فعولن - أمرني بالوقوفِ والانحناء: - فعلتُ/ فعْلن/ مفاعلن/ فاعلان والشكلُ الذي تبدو عليه أسنانكِ الثلجيةُ: فعْلن/ فاعلن/ فعْلن/ مفاعلن/ فاعلن/ فعْلن - يُعيدني سنواتٍ للوراء...: - فعلتن/ فعولتُ/ فعْلن/ فاعلان « مع التدوير المشار اليه ب» – « في نهاية السطر وبداية السطر التالي سارت الكتل الصوتية في قصيدة موسى حوامدة وفقاً للنموذج وهكذا حتى نهاية القصيدة. ثالثاً: نضال برقان من قصيدة تحتَ سماءٍ واحدة «بينما تقفينَ في مهبِّ الموسيقى: فاعلن/ فَعِلن/ مفاعلن/ فعْلن/ فعْلن على الجانبِ البعيدِ من الكرةِ الأرضيةِ: فعولن/ مفاعلن/ فَعِلن/ فَعِلن/ فعْلن/ فَعِلن - تجتاحُ جسدَكِ أمواجُ قشعريرةٍ زرقاء...: - فاعلُ/ فعلتن/ فاعلن/ مفاعلن/ فعْلان « أيضاً قصيدة نضال برقان تنسجم مع هذا النموذج الكمي. رابعاً: بسام حجَّار من قصيدة البئر «كلُّ هذا الهدوءِ لا يُخفي شيئاً من الحكمةِ أو الحزنْ: فاعلن/فاعلن/فعولن/فعْلن/فاعلن/فاعلُ/فعولان فقط شخصانِ يتقابلانِ في ليلةٍ مضجرةٍ..: فعولن/فاعلُ/مفاعلن/فعولن/فَعِلن « وتسير قصيدة بسام حجَّار بنفس النسق وفقاً لهذا النموذج. خامساً: أنسي الحاج من قصيدة القفص « توقفتُ وبي رائحةُ العوسجِ وفارتِ الأنوارُ: فعولن/ فَعِلن/ فاعلُ/ مفاعلن/ فعْلن - وقعتِ النساءُ من النوافذْ: - فعلتُ/ فاعلن/ فَعِلن/ فعولن أما بقيَ طاووسٌ أصيلْ؟: فعولتُ/ فعولن/ فاعلان توقفتُ وبي رائحةُ الخبلْ: فعولن/ فَعِلن/ فاعلُ/ فاعلُ - سريعاً تقصَّفتْ أنواري: - فَعِلن/ فاعلن/ فعولن/ فعْلن فاحَ حناني المربَّعْ.: فاعلُ/ فعْلن/ فعولن « أيضاً قصيدة أنسي الحاج تتحرَّك وفقاً لكتل النموذج الصوتية. سادساً: أمجد ناصر من قصيدة قليلاً، قليلاً « آهِ لو أنني أطولُ قليلاً: فَعِلن/ فاعلن/ فاعلُ/ فعولن أنحفُ قليلاً: فاعلُ/ فعولن أفتحُ بشرةً قليلاً: فاعلُ/ فعلتن/ فعولن ذو عُنُقٍ أرقٍّ، أطولُ قليلاً: فاعلُ/ فاعلن/ فعولتُ/ فعولن بشامةٍ سوداءَ عند طرفِ الأنفِ الأقنى: مفاعلن/ فعْلن/ مفاعلن/ فعولن/ فعْلن - وعينينِ سوداوينِ وواسعتينِ قليلاً..: فاعلن/ فاعلن/ فعْلن/ فَعِلن/ فَعِلن/ فا - « وتسير أيضاً قصيدة أمجد ناصر وفقاً للنموذج وكتله الصوتية المقترحة. بعضٌ من الباحثين والمهتمين سيعترض: أن ما تقترحه يتضمن أنه ليس هناك تكرارٌ إيقاعيٌّ يُعيد رتمَ المقاطع وأوزانها وقوافيها في هذا النموذج وأنه يتضمن كسر كلِّ القيود الإيقاعية والوزنية للشعر وإطلاق الإيقاع ليكون متغيراً لا يضبطه أيَّ ضابط، وبهذا النموذج سيكون الشِّعر كلاماً يومياً مبعثر الإيقاعات يستند إلى النبر في الإلقاء والتنغيم والتفخيم في بعض الحروف وتوظيف جرسها العالي واللين والشديد والرخو والهامس وتوظيف الصمت والوقف والمد والشد لتضمن توليد إيقاعٍ متغيِّرٍ يختلف من قراءةٍ إلى قراءةٍ أخرى ويستطيع أن يؤثر بمتلقي الشعر ، على هؤلاء أجيب نعم هذا ما تذهب له قصيدة النثر: توليد إيقاع يتغير من قاريءٍ ومتلقٍ إلى آخر مما يعطي حيويةً وولاداتٍ متكررةً للنص الشعري مع كلِّ متلقٍ ومع كلِّ قراءة، وأضيف أن الإيقاع الأعمق في اللغة العربية تكوَّن داخل النصِّ القرآني الذي إذا حلَّلت مكوناته الإيقاعية ستجدها تسير وفقاً لهذا النموذج الكمي لقصيدة النثر العربية، فالقرآن الكريم بإيقاعاته العظيمة هو الأب الروحي العميق لقصيدة النثر العربية بكلِّ مدارسها، لتقرأ معاً هذه الآية القرآنية الكريمة ونحلِّلها وفقاً لهذا النموذج، قال تعالى في سورة النصر: 1- إذا جاء نصرُ اللهِ والفتحْ: فعولن/ فعولن/ فاعلن/ فاعْ. 2- ورأيتَ الناسَ يدخلون في دين اللهِ أفواجا: فَعِلن/ فعْلن/ مفاعلن/ فعولن/ فعْلن/ فعْلن/ فعْلن. 3- فسبِّح بحمدِ ربِّكَ واستغفرهُ إنه كان توَّابا.: فعولن/ مفاعلن/ فَعِلن/ فعْلن/ فعْلن/ فعولن/ فعولن/ فا. جاء القرآن الكريم بلغةٍ جديدةٍ وإيقاعاتٍ جديدةٍ أذهلت العرب وأذهلت شعراءَهم ومثقفيهم فما استطاعو له تصنيفا في ذلك الوقت، ولقداسته لم يجرؤ أحدٌ على تقليده، واعترفوا جميعاً أنه كان يشكِّلُ قطيعةً مع ما سبقه من خطاب العرب الشعري والنثري، ولنتذكر ما قاله الوليد ابن المغيرة عندما سمع آياتٍ من القرآن الكريم: «ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلَّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر» وفي هذا الكلام من أحد كبار مثقفي ذلك العصر تأكيدٌ على هذه القطيعة التي شكَّلها القرآن الكريم مع لغة عصره، حاول بعض الشعراء والمثقفين استيعاب وتوظيف هذه القطيعة في نصوصهم ولكنهم فشلوا لتداخل المقدَّس بالتاريخي، ولسببٍ تاريخيٍّ أيضاً إذ لم يستنفذ النموذج الشعري العربي المبني على إيقاع التكرار الوزني والقوافي أغراضه وإمكانياته الهندسية والتاريخية الكامنة في بنيته، لذلك لم يستوعب ولم يوظف القطيعة التي جاء بها النص القرآني واستمرَّ صانعاً قطيعةً مع القطيعة التي أسَّس لها النص والإيقاع القرآني المعجز، بعض الشعراء وبعصورٍ مختلفة حاولوا وكانوا يدمجون ويضمنون بعض نصوص القرآن الكريم في قصائدهم ويستلهمون إيقاعاتها لتضيف لإيقاعات قصائدهم الكمية روحاً جديدةً وإيقاعاتٍ جديدة واكتفوا بذلك، وبقيت هذه القطيعة الإيقاعية مع خطاب العرب الشعري كامنةً حتى العصر الحديث حيث وظَّف شعراء قصيدة التفعيلة عدم تساوي آيات القرآن الكريم بالوزن وكسروا القيد الأول والكتلة الأولى في القصيدة الكلاسيكية المتمثل بوحدة وتماثل شطري البيت الشعري ولكنهم حافظوا على تجانس الكتلة الأخرى - التفعيلة - التي أيضاً تجاوزها النص القرآني القائم على قطيعةٍ صارمةٍ مع موروث الخطاب العربي الشعري والنثري، حتى جاءت قصيدة النثر العربية لتستلهم القطيعة الكاملة التي أسَّس لها النص القرآني وتكسر وحدة التفعيلة باتجاه النوى الإيقاعية التأسيسية في الكلام العربي، وكخلاصةٍ أخيرةٍ لهذه القراءة الإيقاعية: قصيدة النثر العربية ابنةٌ شرعيةٌ للكلام والإيقاع الذي تولده مقاطع اصوات هذه اللغة العربية العظيمة والثرية والخالدة. ملاحظةٌ أخيرةٌ لا بدَّ منها: من النوى الإيقاعية المشار إليها أعلاه كأساسٍ إيقاعيٍّ كميٍّ للشعر العربي سنلاحظ أنه لو تم دمج نواتين أو أكثر لتولدت تفاعيل الخليل السبع: (علن فا، فا علن، علن فا فا، فا فا علن، فَعَ فا علن، فا علن فا) وبترتيب استخدام هذه الكتل وفقاً لقواعد نازك الملائكة وغيرها من منظري قصيدة التفعيلة يتولَّد الإساس الإيقاعي الكمي لقصيدة التفعيلة، ولو استخدمنا هذه الكتل المختارة والجزئية واستخدمناها بتكراراتٍ وزنيةٍ محددةٍ وعلى شكل البيت الشعري الكلاسيكي ستتولَّد كلُّ بحور الخليل، أي أن هذه النماذج التاريخية الإيقاعية هي نماذج جزئيةٌ من النموذج النظري الأعلى المكون من حركة النوى الإيقاعية الخمس وبكيفياتٍ ونماذجٍ لا نهائيةٍ تتطور مع تطور اللغة والناس وتحولاتهم عبر التاريخ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-08-2023 06:52 مساء
الزوار: 272 التعليقات: 0
|