|
عرار:
موسى إبراهيم أبو رياش الكتابة الإبداعية مغامرة، حتى وإن كان الكاتب محترفًا وصاحب خبرة تراكمية واسعة، وعندما تكون عملًا منشورًا، فهي مغامرة محفوفة بالمخاطر، مجهولة النهايات، ووضع للنص وربما النفس في اختبار صعب، يفتقد في الغالب للموضوعية والعدالة من الآخرين. في لقاء مع الشاعر الكبير محمود درويش، قال: «أتمنى لو كنت روائيًا، ولكن أكتفي بالاستمتاع الشديد بقراءة الرواية، وأحتفظ بغصة ما بأنني لم أتمكن من كتابة الرواية؛ لأنني لم أحاول لأني لا أستطيع أن أدخل تجربة غير مضمونة النتائج». وهذا ليس تواضعًا من محمود درويش، بل إقرارًا بحقيقة قد لا يلتفت إليها البعض، لأنه إن لم يكتب رواية كبيرة لا تقل مستوى عن شعره، فستقلل من مكانته، وتشكك في إبداعه، وتجعله في مهب الريح. الدكتور رامي العزب، الأستاذ الجامعي في المسالك البولية وجراحة الكلى، يكتب عمله الإبداعي الأول؛ روايته الأولى «من سيذكر ما لم يحدث» عن موضوعات وأفكار عديدة، متخذًا من الرعاية النفسية والاضطرابات السلوكية مدخلًا وإطارًا للحركة، أي أن العزب يدخل المغامرة الإبداعية من أوسع أبوابها، متحديًا ذاته ومؤمنًا بقدراته، ويرمي بعصاه في ساحة الإبداع، ولا أراها إلا التهمت عصي التردد والتشكيك، وارتقت عاليًا. وأزعم أنه نجح في إبداع رواية متميزة على مستوى الموضوع والأسلوب والتكنيك، بالإضافة إلى تقديم وجبة معرفية دسمة بسلاسة وبساطة يُحسد عليها. أول ما يلفت في الرواية هو العنوان الطويل الذي جاء في صيغة جملة استفهامية «مَنْ سيذكر ما لم يحدث؟»، وأن يكون العنوان سؤالًا، فهذا غير شائع في الأعمال الروائية، ولكنه موجود، ومن أمثلة ذلك: «أين عمرى؟ لإحسان عبد القدوس». «من يؤنس السيدة؟ لمحمود الريماوي». «قابيل أين أخوك هابيل؟ لإبراهيم الكوني». «هل أنت خائف من الظلام؟ لسيدني شيلدون». «ماذا جرى للمتوحش الأبيض؟لفرانسوا جارد». «إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟ لهوراس ماكوي»، وهذا لا غبار عليه، ولكن الإشكال في السؤال نفسه، فهو سؤال مخاتل، سؤال مفخخ، لا إجابة منطقية له!! وأي محاولة للإجابة ستكون مقلبًا لصاحبها!! وهل ستفصح الرواية عن سؤال العنوان؟ وستبقى الإجابة عن سؤال السؤال مرهونة بقراءة الرواية!! اعتمد رامي العزب في بناء روايته على خمس دوائر سردية متداخلة ومتقاطعة ومتحركة ومندمجة أحيانًا، ولكن حدودها واضحة لمن يقرأ الرواية، وهذه هندسة روائية مغامرة في حد ذاتها، ولكن الكاتب نجح فيها، وأمسك بخيوط الدوائر يلاعبها ويحركها بمهارة واتقان. الدائرة الأولى تدور حول الحياة الخاصة للدكتور فاروق المختص بالتحليل والعلاج النفسي، ووحدته بعيدًا عن العائلة الأمفي أمريكا والأردن، وما يعتري هذه الحياة من أفكار وحديث نفس وتعب وتصرفات ومشاعر وحسابات وأمراض، وذكرياته السابقة في مرحلتي الفتوة والشباب، وجراحه التي لم تندمل حزنًا وألمًا على حبه الأول الذي تخطفته يد المنون فجأة. الدائرة الثانية تتعلق بعلاقة الدكتور فاروق بتيماء التي تعمل معه في المركز، هذه العلاقة العاصفة الندية التي لم تعرف المهادنة بين مهنتين متشابهتين وعقليتين مختلفتين؛ علاقة استمرت بين شد وجذب، بين العقل والقلب. الدائرة الثالثة تحيط بمركز الرعاية النفسية في عمان بما فيه من موظفين ومراجعين، واضطراباتهم النفسية والسلوكية والجنسية، هذا المركز الممول أمريكيًا، بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية، يثير أسئلة كثيرة، وهل فعلًا تحرص أمريكا على سلامتنا النفسية؟ أم أن لها أهدافًا أخرى؟! الدائرة الرابعة تتمحور حول عائلة الدكتور فاروق،والمناسبات الاجتماعية للعشيرة، وعلاقة والده بطبقة المؤثرين الذين يملكون مفاتيح المناصب والتوزير وغيرها، وتمتد الدائرة لتشمل الإدارة الرسمية بما فيها من ترهل وتسيب وتخلف وعبثية. الدائرة الخامسة خصصها للولايات المتحدة الأمريكية التي درس فيها الدكتور فاروق وعمل فيها وأرسلته إلى الأردن ليؤسس ويدير مركز الرعاية النفسية بدعم وإشراف من السفارة الأمريكية، وأهم ما يميز هذه الدائرة المقارنات غير المتكافئة بين هنا وهناك، والبون الشاسع بينهما، والاختلاف في كل شيء، وترجح الكفة كثيرًا لصالح هناك، وخاصة في مجالات التفكير والحرية والإدارة والخدمات. كشفت الرواية من خلال حركة دوائرها السردية، كثيرًا من مواطن الخلل، والظواهر السلبية، وبعض المسكوت عنه اجتماعيًا وسياسيًا وإداريًا، وسلطت الضوء بقوة على عقلية بعض أصحاب القرار وتصرفاتهم وعبثيتهم وضعف قدراتهم وسخافة تفكيرهم، وخطورة العدوى التي ينشروها، والثقافة المهترئة التي يدعونها، ولم يسلم الدكتور فاروق من هذا، فتأثر وأحبط، وهو الذي جاء ليغير ويعالج ويرسي ثقافة مختلفة. ناقشت الرواية العديد من الأفكار والرؤى والسلوكيات والقضايا بسلاسة دون إقحام أو تكلف، بعيدًا عن التنظير المباشر والوعظ المنفر، فجاءت جزءًا من النص، يغنيه ويثريه ويزيده عمقًا، وتحث القارئ ليكون شريكًا بتفكيره وتحليلاته ووجهة نظره فيما يقرأ. ويجد القارئ للرواية الكثير من الفقرات الجميلة التي تصلح للاقتباس، ومن أمثلة ذلك: «تصبح حكيمًا عندما تتوقف عن المفاجأة، عندما تصبح الدنيا في مجال توقعك». «عليك أن تقرر أين ستخسر أقل، وليس أين ستربح أكثر. الخسارة تشعرك بأن هناك ما ينقصك». «إن سعادة أي أم في العالم على بعد لقيمات؛ الأم تطمئن إذا أكل أولادها». «قصائدنا بلا لون، بلا طعم، بلا صوت؛ إذا لم نحمل المصباح من بيت إلى بيت، وإذا لم يفهم البسطاء معانيها فأولى أن نذرها ونخلد للصمت». «نحن قد نكون صادقين في طلب النصيحة، ولكننا في كثير من الأحيان نسأل من نعتقد أن رأيه سيوافق هوانا». وبعد؛ فإن «من سيذكر ما لم يحدث، عمان: الآن ناشرون وموزعون، 2020، 273 صفحة» للدكتور رامي العزب، رواية غنية بالتفاصيل والأفكار والقضايا، وهي على الرغم من تشعبها إلا أنها جاءت متماسكة، وكتبت بلغة جميلة، تستدعي العديد من الدراسات، وتميزت بما أثارته وتثيره من أسئلة وتفكير ومراجعات. وهي تعد بمستقبل مشرق لروائي أحسب أنه نجح في مغامرته الأولى، لينضم إلى كوكبة الأطباء الأدباء الذي رفدوا الساحة الأدبية بإبداعاتهم وروائعهم، ومنهم: من مصر: الشاعران إبراهيم ناجي وأحمد زكي شادي، وكل من القاصين والروائيين: يوسف إدريس، وعلاء الأسواني، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد المخزنجي، ومصطفى محمود، ونبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، ومن سوريا: الروائيان عبدالسلام العجيلي، وهيفاء بيطار، ومن السودان: الروائي أمير تاج السر، ومن العراق: الروائي أحمد خيري العمري، ومن السعودية: الروائي منذر القباني، ومن الأردن: الروائية آية الأسمر، والقاصون هشام البستاني، وعيسى حداد، وميسون حنا، وعلي الخرشة، والشاعران عمر حيدر أمين، وعصام العمد، وغيرهم كثير. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 30-07-2021 12:13 صباحا
الزوار: 1163 التعليقات: 0
|