لمحة عن كتاب «روافد الإيقاع الداخلي في السرديات الشعرية» للدكتور صالح الخزاعلة
عرار:
الناقد محمد رمضان الجبور من الكتب الصادرة حديثاً كتاب في النقد الأدبي بعنوان (روافد الإيقاع الداخلي في السرديات الشعرية «شجرة الكون» أنموذجاً للشاعر جميل أبو صبيح) وهو جزء من أطروحة دكتوراة في الجامعة الهاشمية للدكتور صالح خزاعلة، والكتاب جاء في تسعين صفحة من القطع الصغير، وقدّم له أ. د. ناصر شبانة بمقدمة أضاءت الكثير من جوانب ومفاصل هذا الكتاب، ويأتي هذا الكتاب كعمل نقدي يستحق الوقوف عنده طويلاً، ليس لأنه يبحث في بنية قصيدة النثر الحديثة فحسب، بل لأنه يحفر بعمق في جمالية موسيقاها الخفية التي تسكن تحت جلد النص وتنبض بإيقاعها الخاص، رغم غياب التفعيلات والأوزان المعروفة. د. صالح الخزاعلة ينطلق من استقراء واعٍ لقصائد الشاعر الأردني جميل أبو صبيح، ويختار من مجموعته «شجرة الكون» أنموذجًا تطبيقيًا لتفكيك البنية الإيقاعية الداخلية في القصيدة النثرية الحديثة، وهو يسعى في هذا العمل النقدي سعيٌاً حثيثاً لإعادة الاعتبار للإيقاع، لا بوصفه وزنًا أو قافية تقليدية، بل كعنصر شعري متجاوز، يتكثف في الصور، ويتجلى في التكرار، ويتراءى في الصمت بين الجمل كما في موسيقى اللغة المحكية. ومن خلال الدراسة يُبرز د. صالح بعمق قدرة الشاعر جميل أبو صبيح على توليد الإيقاع من داخل اللغة، عبر استحضار مكونات متعددة منها: التكرار بأنواعه: تكرار الحروف، تكرار المقاطع الصوتية، تكرار الألفاظ، تكرار الأسماء، وتناوب الصور، وانزياحات المعاني، والتنويع في الإيقاع الصوتي، والتقطيع البصري للجمل، بحيث يتشكل النص كما لو كان لوحة تشكيلية تتحرك فيها الكلمات بتموجات موسيقية خفية، ويُظهر الناقد قدرة أبو صبيح على خلق مشهد شعري متكامل، حيث تغدو اللغة بيتًا للمعنى، والمعنى نغمة تسري في أوصال النص. «الشمسُ قنديلي/ والسّماءُ بيتي/ وأنا أفترشُ الرمل بين قبرين/ أتكئ على حجر/ أراقبُ شجرة الكون/ لا جبال في الفضاء/ لا نسائم ليل/ ما سوى رياح كونية/ تعبثُ بأغصان الشجرة/ أغصانٌ من كريستال وبرق/ وسماءُ مرايا مصقولة/ وشموس في المرايا/ تهدهد أجنحة الليل «ص 38» قراءة الناقد د. صالح الخزاعلة لقصيدة «شجرة الكون» غنية بالرؤى، حيث رصد كيف تتشابك الصور الكونية والأنثوية والرمزية، وتتشكل عبرها بنية إيقاعية تتجاوز الصياغة الخارجية إلى بناء داخلي ينبض بالحياة، وظهر ذلك في استعراضه للعبارات المتكررة: «وأنا بين قبرين»، «رأسي على حجر»، «السماء رمادية»، التي تشكّل ما يشبه اللازمة الموسيقية، تَشدّ النص إلى مركز ثقله الدلالي والنفسي، وما يميز هذا البحث النقدي وهذا الكتاب ، أنه لم يكتفِ برصد الإيقاع، بل حاول تفكيك الروافد التي تغذّيه، مثل: السرد، والانفعال، والذاكرة، والمشهدية، والرمز، والحركة، والصورة الشعرية ، فهو لا يتعامل مع الإيقاع بوصفه زخرفًا بلاغيًا، بل كجوهر شعري، وكأحد أشكال الوعي اللغوي العميق، القادر على تحويل النص إلى كائن حي ينبض بالحياة. من العناوين التي توقف عندها الناقد د. صالح الخزاعلة الصورة الشعرية وعلاقتها بالموسيقى الخفية، مؤكداً أن الصور ليست مجرد زينة جمالية، بل تحمل إيقاعها الخاص، الذي يتولد من الصراع بين الثبات والانفلات، وبين الحركة والسكون، وبين الحضور والغياب. ولعل أبرز مثال على ذلك، الصورة الكبرى للقصيدة: «شجرة الكون»، والتي تتحول إلى رمز وجودي، تنمو فروعها بين الحياة والموت، بين الحلم والواقع، وبين قبرين. إن هذا الكتاب لا يُقرأ كدراسة نقدية أكاديمية فحسب، بل كبيان شعري مضمر، يتتبع خيوط الجمال المنسوجة في قصائد الشاعر الأردني جميل أبو صبيح، التي اختار منها الخزاعلة أنموذج «شجرة الكون» لتكون مرآة لما يسميه بـ «الإيقاع الداخلي»، ذاك الإيقاع الذي لا يُقاس بالمقاطع العروضية، بل يتجلى في تجاويف اللغة، وفي انسياب الصور، وفي خفقات المعنى، إننا أمام قراءة تستبطن النص، وتستخرج ما فيه من موسيقى باطنة، لا تطرق الآذان بقدر ما تخاطب الحواس الباطنة. وقبل أن نختم نقول أن كتاب «روافد الإيقاع الداخلي» شهادة فنية وأكاديمية على عمق التجربة الشعرية لأبي صبيح، وعلى أهمية الإنصات لصوت الشعر الداخلي، ذلك الذي لا يُقاس بالتفعيلات، بل يُقاس برجفة الإحساس، وارتعاش اللغة، واتساع المعنى، ليس مجرد تحليل لنص شعري، بل هو احتفاء بالشعرية المعاصرة في أحد تجلياتها الأكثر شفافية وعمقًا، فقد نجح الدكتور صالح الخزاعلة في أن يجعل من «شجرة الكون» شجرة نقدية تنبت فروعًا من التأمل، وتثمر أفكارًا جديدة في النقد الأدبي، وتعيد الاعتبار لصوت القصيدة الهادئ الذي لا يُسمع، بل يُحسّ، ويُرتشف كالموسيقى في لحظة صمت.