«حدائق شائكة» رواية لصبحي فحماوي تمزج السرد بالسخرية المرة
عرار:
سعد الدين شاهين/ شاعر وروائي بياع الحنّون وناسج الحكايات، ومهندس الشخصيات صبحي فحماوي أو جبريل عرسال المقدود من صخر بلاده الكنعانية والمجبول بصلصالها الذي لا يفارق غبار ترابها ثيابه حتى وهو يؤسطر اسمه جبريل عرسال ويُقَطِّعه كنعانيا حسب رؤيته إلى (جبر ايل) و(عرش ايل) الكنعاني. مهندس الورد والأشجار والحدائق الغناء صبحي فحماوي يبدع في نوع جديد من الحدائق رغم تسميتها بـ»حدائق شائكة» إلا أنها لا تقل جمالا عن حدائقه الطبيعية التي يبدعها على الأرض وفوق التراب ليجعل من صحرائنا جنانا غناء، كما لا تقل عن جنائنه في مجمل كتاباته السردية القصصية والروائية السابقة والتي لن تكون حدائقه الشائكة آخرها.. فالمعروف عن كتابة صبحي فحماوي إنها تقع في مساحة السهل الممتنع الممزوج بالسحرية المُرّة والتهكم النقدي لسلبيات الحياة التي عرف دروبها وتخطى مزالقها بوعي من له قضية ويتمسك بها على حساب كل الاعتبارات الأخرى هي مساحة بين الفيء البعيد عن الظل وبين سطوع الشمس المقترب من الصهد، تحسبها عند كل واحد متيسرة ولكنها في مضمونها ترتكز على ثقافة وتجربة حياتية ومرجعيات؛ أحيانا تراثية، وأخرى ميثولوجية، وثالثة من مستنبته الفكري الذي يشتغل عليه بجدية، ليوصل ما يريد إلى القارئ، أو المتلقي لبعض الفقرات التي قد يسمعها خارج السياق. أتيح لي أن أطّلع على حدائق شائكة قبل طباعتها ورؤيتها النور بشكلها وغلافها المتداول الآن، فالروائي ابن الطبيعة، ومع أنه يعمل في هندستها، إلّا أنه يميل الى ما وجد في الطبيعة، وما وجد في تعاملاته من خلال عمله كمهندس، هو أجمل بكثير مما اصطنع على ظهر الطبيعة بفعل البشر رغم جمالياته. بل يعتبر أن ما ينشأ من تغيير لشكل الأرض بتكوين حديقة، هو تدمير للطبيعة بصورة أو بأخرى، وذلك لأنه عندما ينشئ حديقة، إنما يُفتت صخورها ويغيِّر طبيعتها بأدراج وتبليط وجدران ونوافير وتكوينات جديدة، ويخلع نباتاتها الطبيعية، ليزرع مكانها زهوراً ناعمة وأشجاراً مختلفة عن تكوين الطبيعة، وهذه فلسفة لا تتأتى إلا لمن لمس كل حالات التغيير بعد الأصالة.. ولعل لها عند الروائي صبحي فحماوي بُعدا في الدعوة الى الأصالة، التي بدأنا نفقدها ونتحسر عليها في أجيالنا الجديدة، مما يشكل أول مواصفات هذه الحدائق الشائكة ولا أدري فلعلني أكون مخطئا في هذا التأويل لكنني كقارئ أُعبِّر عما وصلني. في المقدمة ايضا لمست أن صبحي فحماوي يتحدث عن نفسه كسيرة مهنة ذاتية مغلّفة بأحداث وتجارب كثيرة من واقع رحلة الشتات والتهجير من بلدته في فلسطين الى مخيمات الشتات أولا، والتي ما يفتأ يتذكر معاناتها ويذكر بسخرية مُرّة بعض احداثها ومشاهدها بين الفينة والفينة، ويسلط الضوء على عيِّنات من البشر والشخصيات التي أجاد في تصويرها وتكاثرها من خلال تعامله السردي معهم أولا، وعن أشجاره التي غرسها طيلة فترة عمله الطويل في ميدان هندسة الحدائق، لتبادله الحب بالحب، إذ أنه يقول: « لا يرى الهواء الذي نعيش به من دون أن يهزّ أوراق الاشجاره.» وحين تراوده نفسه بالتوقف عن العمل بها يشتغل بالتأمل فيها، وممارسة عشقها؛ مثمرة، ومرطبة للجو، وبعبق رائحتها، وعمل الحدائق لها على صفحات الكتب ودلالات حالاتها ومراحل نموها. وكحاضنة لنصه السردي الروائي ابتدع الكاتب ما سماه مدينة ارم ذات العماد التي وضعها مكانيا على خارطة طريق الحرير، وولّد في قلبها ميدان حركته وانطلاقها من حي اللوتس وفندق اللوتس. المدينة والحي الذي صنع فيه شخصيات روايته، وأجاد في تفصيل تحركاتها. كما كان بارعا في توليد الحكايات والقصص والشخصيات العنقودية التي ما يكاد ينتهي بقصته مع أحدهم، حتى يسلمك إلى قصة أُخرى، لشخص آخر له علاقة وتشابك مع الذي قبله، لتجد أن كل شخصيات الرواية من منطقة حول فندق اللوتس في مدينة ارم ذات العماد التي نشأت على رمال مدينة قديمة لا نعرف عنها أية مواتصفات، فأبدع في تكوين مواصفات لهذه المدينة التي توسعت وامتدت، لتصبح مدينة عصرية. وبينما هو يسرد القصص تجده يضع يده على مفاصل الفساد المجتمعي والرسمي ويعري بعض الشخصيات واحيانا ينسب فساد ثرائها ووصولها ربما الى جمعيات او ماسونية ص28. ويحرص صبحي فحماوي في نهاية كل قصة أن يربطها بقضيته المحورية فلسطين، ويصور كيفية ضياعها.. ويشبه ضياع فلسطين تماما بالمخطط الهندسي الذي يرسمه عند بدء عمله مع زبائنه الكبار لهندسة حدائقهم، لتصبح غناء في ظاهرها، ولكن في خلفياتها المخفية هي حدائق شائكة، رسمت بعناية، كمخططات احتلال فلسطين، حدائق شائكة ص 29 يبدأ الروائي صبحي فحماوي حكاياته مع الحدائق الشائكة بطريقة سحرية من أجواء حي اللوتس.. وأما إرم ذات العماد، مكان اللجوء وما يدور فيهما من تطورات اجتماعية، بعضها مباغت والبعض الأخر مستهجن، فرضته الطفرات الاقتصادية، التي غمرت مدينته المفترضة ارم ذات العماد بأجواء السياسة والحروب المستعرة هنا وهناك، وأثرها على التجارة والاقتصاد والحياة الاجتماعية لعالمنا العربي من المحيط الى الخليج بأسلوب تهكمي ساخر ناعم احيانا ومواجه احيانا أخرى.ص6.. حين يصف طريق الحرير تظنه مرتاحا لذلك، ولكن فجأة تنقلب الراحة الى رفض واستهجان (واقيمت في محيطه محيط مدينة غزة الفلسطينية يقصد.. بنية تحتية من مدارس ومختبرات علمية ومعاهد مهنية، ومراكز أبحاث، ومحطات لاطلاق الصواريخ البالستية) واخرى لاطلاق طائرات درونية الكترونية مسيرة. وهذا إفصاح آخر في تأويل مقصد الروائي من الحدائق الشائكة التي يرمي منشئوها الى أن تكون ولايات هجرة أُخرى للفلسطينيين في الصحراء، التي بفضل جهودهم الجبارة اصبحت مسيجة بكل هذه الأنواع من الحدائق الشائكة.. بالفعل ان كل قصة من قصصه هي بمثابة حديقة شائكة في هذا العالم الجديد لقد اشتغل فحماوي على رمز طريق الحرير التي قُذف اللاجئون بها في مخيمات، بعد ان طُردوا من وطنهم الهادئ الجميل، ليصبح هذا الفلسطيني في طريق كل العابرين الى مصالحهم الخاصة، دون النظر لهؤلاء المتناثرين الآن في طريق الحرير، الأمر الذي فرض على هذا الفلسطيني التكيف رغم كل مقاصد الاخرين، بحيث استطاع أن يقتحم طريق الحرير ويضع نفسه بقوة على خارطتها في شخص الكنعاني جبريل عرسال.. وبهذا السرد، يراهن صبحي فحماوي على أن الفلسطيني أينما حل فإنه يُعمِّر ويزرع ويثمر ويطرد الحشرات والزواحف ويجعل الأرض جنة، حيثما حل وارتحل.. (وهربت الافاعي المتعودة على قسوة الصحراء من دبيب الحركة وانسابت نحو مغارات الجبال البعيدة وصارت تطير في سمائها طيور الحمام العاشقة بين الأغصان الخضراء التي نبتت حديثا) ص7 وما هي الا عدة سنوات على الاقامة في مدينة ارم ذات العماد، حتى تكاثرت بيوت حضارية وقصور فخمة في جهة المدينة الغربي بدأت تنتشر وتتمدد في مناطق واسعة جميلة في هندستها ولكنها في داخلها حدائق شائكة تسكنها الحكايات الغريبة.. إن رواية «حدائق شائكة» هي مجموعة لقطات حياتية يومية لمدينة ناشئة، تشكل كل لقطة منها مشهدا متشابكا من الأشواك الضارة التي يشير لكل حديقة منها بدلالة من دلالات الفساد، أو الرفض.. فهو حتى بعد أن دفع في بدايات عمله الرشوة شتلة من الأشتال تحت ضغط جشع المسؤولين عن بلدية المدينة وإرهابهم بالمخالفات المالية والمعنوية، الا ان صاحب المشتل يصر على فساد آخر انه لن يدفع المخالفة حتى لو كتبها المأمور..إنها مدينة الرشوة التي ينخرها الفساد وتلوث البيئة، وسوء استخدام السلطة، والفساد بالتعيين، حسب معايير جمال المرأة طالبة الوظيفة، ليصل الى مقولته (لو كان المعيار الجمال ورأس المال لما استطاع البنك ثقب جيوب الناس الغلابا والسيطرة على السوق ص39) إن صبحي فحماوي يجيد في روايته هذه في رسم وتصوير تفاصيل المجتمع من بدايات تكوينه في مدينته (إرم ذات العماد التي جاءها لاجئا بفعل احتلال بغيض قدّر له أن يترك ارضه ووطنه ويسيح في الارض إعماراً، من خلال عمله في هندسة الحدائق وربما وبعقله الباطن اختار تسمية مدينة اللجوء ارم ذات العماد، رجوعا الى قرية عاد وثمود التي نزلت قصتها في القرآن الكريم، وتحكي عن اناس عمالقة سكنوها ولم لا يكون هؤلاء اللاجئون عمالقة بقاماتهم وانجازاتهم في هذه المدينة التي أُجبروا على اللجوء اليها ولذلك اجتهد. مع ان الروائي صبحي فحماوي قسم روايته الى عناوين فرعية، وكل عنوان له قصته الرئيسة، إلا أنه أبدع في لظم هذه القصص جميعها في خيط حرير واحد، لتبدو نسيجا واحدا متسلسلا يحكي قصة جبرايل عرش ايل (جبريل عرسال) في محيط فندق اللوتس ومدينة ارم ذات العماد على طريق الحرير.. وفي هذا رمزية واضحة لقضية اللجوء من فلسطين نحو الشرق. وينمنم صبحي سردياته بعبارات موحية وآراء فلسفية لما يفكر به من قيم وافكار رفضه للعبودية والاستغلال فيقول مثلا حين طلب منه ان يراجع السيد فلان (مع انني اعترض على كلمة السيد فلان، لانني اعتقد انه ما دام هناك سيد فمعناه أنه مميز عن العبد..أي أنه يوجد في مجتمعنا عبيد، رغم أن زمن العبودية ولّى ص30) ومن الاراء المضافة أيضا: «الدنيا واسطات. « كما لا يتوانى أن يعالج مسائل اكبر من ذلك مثل مسائل معاملة الدول الغربية لأبناء دول العالم الثالث، ولماذا لا تكون المعاملة بالمثل اذ إن الغربيين يدفشون ابواب حدودنا بأرجلهم ويدخلون، بينما نحن نغرق في الاجراءات والانتظار الطويل على أبواب سفاراتهم ودفع التأمينات والتأكيدات والشهادات والانتظارات، قبل الحصول على تأشيرة الدخول الفيزا. وهكذا نجد أن بيّاع الحنّون - كما أسماه عمه- يدعو بفلسفة الى العمل الجاد المتفاني في كل وقت وعدم اضاعة الوقت والجهد في ما يوفر طاقته فيقول في ص46: «اتعب نفسك، واستهلك أعضاء جسدك، فاذا متّ، فلا تمت وأعضاؤك لم تُستهلك بعد ) كما أن له اراء في التسميات، ويرفض ما درج منها على لسان المناضلين مثلا ابو فلان وأبو فلان، بينما قديما كانوا يسمون بآبائهم وليس بأبنائهم فيقال ابن خلدون ابن بطوطة ابن رشد وهكذا ص..47 كما أن له فلسفة في الموت والحياة، فيقول: « مأساة الانسان انه يدرك موته منذ ولادته، ولذلك فهو يهتم بحياته المرتبطة بموته، ليصل إلى أن الانسان يُجري تخفيضا لزمن إنجازاته، لينجز الكثير الكثير خلال عمره، وعلى العكس فهو يطيل زمن حياته ص112» ولأن فحماوي يعرف هدفه تماما، ويتقن دوره للوصول اليه، لم تشغله كل المغريات التي واجهته مع عينات عديد من النساء اللواتي اتيح له ان يتعامل ويقيم معهن علاقات رفضها هو بإرادته، عند حد التعامل المهني فقط.. فمن كريستينا التي وقعت في مكتبه ولم يهتز لرفعها حين وقعت عن
الكرسي امامه.. لم يتحرك لنشلها كما توقعت، علما انها معزومة عنده، مما جعلها تعاتبه بشدة على عدم الأخذ بيدها، لتنقطع العلاقة بينهما، الى اخت عشتار وهي لينا، التي تسكن فلّة شمال مدينة النعيم، حيث دعته الى الفيلا الخالية، ولكنه داخليا اجاب نفسه: انا مالي ومال هالشغلات؟ انا لا يهمني إلا ما أتقاضاه من أتعاب عملي... (معك قرش، تساوي قرشا.. ومن لا يملك لا يساوي ص40) والأمثلة على ذلك عديدة الى نادية الياسري التي خاطب نفسه وهي تحاول اغراءه انا مالي ومالها؟ انا مهندس حدائق، ولست مهندس غرام ص 115». وفي الواقع أن صبحي فحماوي وهو يعرض قصص النساء اللواتي تعامل معهن كزبائن عمل إنما عرض عينات متنوعة تكشف ما يعتمل داخل المرأة من أمور نفسية، تعكس اثر المال أولا، وأثر انشغال الزوج عنها ثانيا، وأثر اختلاطها المفتوح مع المجتمع ثالثا... وأمور أخرى كثيرة، ليس آخرها ما كانت تقوم به السيدة الخمسينية بهية زوجة السيد نزار بريكي، التي كانت تعمل على تخريب كل النبانات في الحديقة وتكرر هذا العمل لان زوجها التاجر، المتجاهل لوجودها في البيت، لم يسألها ولو مرة واحدة عن السبب، مما أغيظها اكثر ص125 يصل التهكم والسخرية المرة مواصيلها في اسلوب صبحي فحماوي النقدي لكل مؤشرات الحياة التي يمر بها لماما خلال السرد، فمثلاً يعطى عنوانا لالتقاء بشخص فيكون العنوان (شارع الشهيد فلان) لينبري فورا للقول: سبحان الله! كل هذه الشوارع للشهداء، ولكن لا معارك، ولا انتصارات ص103» وفي حديثه مع اليهودي الذي حاول الايقاع به في قضية تطبيع اقتصادي زراعي بين يسخر ويقول حين طلب منه التوقيع: (ترى من يوقع من ؟ومن يقبض من ؟) قال قابل للتفاوض قال ؟ ص104 وفي الرد على تطبيع البعض (كنا نمارس تطبيع الجحوش الصغيرة التي كانت ترفض أن نعتليها.. نجدها ترفص، وترفص، وترفص، حتى توقعنا.. ولكن بعد عدة محاولات للتطبيع والتكرار، يتطبّع الحمار فيصبح قابلاً لحمل الغُلب والمرار ص100» وهنا يشير فحماوي الى موضوع الفرق بين اليهودي والاسرائيلي وانه لا مانع لديه من التعامل مع اليهودي كدين وليس على استعداد للتعامل معه كاسرائيلي.وسبق له أن كتب عن ذلك رواية بعنوان؛ «صديقتي اليهودية». حدائق شائكة خليط بين الرمز والواقع، بين المفترض والواجب، بين المقبول والمرفوض، بين الفساد ورفض فكرته، بين العلم والجهل، بين القيم وتغلب عادات مكتسبة جديدة فرضتها الطفرة في عالم تغول المال..ورغم انها متخصصة في عالم الحدائق التي تبدو جميلة، الا انها كشفت عن تغول الشوك في داخل أسيجة هذه الحدائق، لتبدو شائكة لمن يدخلها.. إنها رواية المجتمعات الناشئة في عالم تتخبطه الأحداث السياسية والارهابية وهي عمل إضافي من أعمال صبحي فحماوي الإبداعية، ولن تكون اخرها، لأنه يقول إنه أوشك على الانتهاء من روايته الثالثة عشرة وهي بعنوان «هاني بعل الكنعاني.» فإلى هناك.. تحية. الكلام يطول ولكنها قراءة أولية محرضة للقارئ ليكون له رأيه الخاص.
المصدر: جردية الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 05-11-2021 11:10 مساء
الزوار: 972 التعليقات: 0