|
عرار:
إبراهيم خليل فقدت الدراساتُ الأدبية، واللغوية العربية، علمًا من أعلامها البارزين في التاسع من شهر آذار- مارس 2022 وهو الأديب المغربي الناقد محمد مفتاح(1). الذي وُلد في الدار البيضاء عام 1942 وأحرز شهادته الجامعية الأولى في اللغة العربية وآدابها في العام 1966 وفي العام 1967 أنهى دراسته في التربية وعلم النفس، وتابع دراسته العليا إلى أن أحرز درجة الكتوراه- السلك الثالث، ثم دكتوراه الدولة في الآداب سنة 1981 وكان قد سبق إلى التدريس(مُعيدًا) في جامعة محمد الخامس في الرباط منذ العام1971 واستمرَّ إلى أن أحرز رتبة أستاذ. ومن مؤلفاته التي استحقَّ عليها الجوائز: ديناميَّة النص 1980 و سيمياء الشعر القديم (1982) وتحليل الخطاب الشعري – استراتيجية التناصّ. وتحقيق، ديوان الشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ (1989). ومجهول البيان، وهو تطوير لكتابه «سيمياء الشعر القديم» 1990 وكتاب « التلقي والتأويل - مقاربة نسقية « (1994) والخطاب الصوفي- مقاربة وظيفية 1997 و أخيرًا مفاهيم موسَّعة لنظريَّة الشعرية 2010. وعنايتُه بالبلاغة العربية القديمة، مع استئناف النظر فيها، وفي أصولها، في ضوء التوفيق بين النظرة المغاربية، والمشرقية، أوضح ما يتجلى في كتاباتِهِ. ويُعدُّ « كتابُـه التلقي والتأويل – مقاربة نسقية « (2) الصادر عام 1994 هو المرجع الأوفى دلالةً، والأوفر حظا، للتعريفِ بأفكاره الجديدة هذه. ففي الفصل الموسوم بعنوان « مبادئ الاسْتدلال « نجدهُ يتَتَبَّع ما جاءَ لدى البلاغي المغربي أبي المطرّف أحمد بن عميرة (656هـ) في كتابه « التنْبيهات على ما في التبيان من التمْويهات «. وهنا لا بد من توضيح ما يقصده هذا المؤلف- ابن عميرة- بالتمويهات، فهي التي عُني بالردّ عليها مما يعده أغلاطا مُسْتَشْنَعَة وقع فيها ابن الزمَلْكاني(651هـ) مؤلف كتاب « التبيان في علم البيان المطِلّ على إعجاز القرآن (2)». ويعزو أكثر هذه الردود إلى ما يشوبُ كتاب « التبيان « من رؤية تقليدية للبلاغة والبيان، البعيدة بعدًا كبيرًا عما يسميه المؤلف محمد مفتاح الرياضيات، والمنطق. فابن عميرة يُعد في نظره من البلاغيين، واللغويين، الذين تأثروا تأثرا كبيرا بالمدرسة المغاربية في الفلسفة، وعلم الكلام، وهي المدرسة الرُشْدية – نسبة لابن رشد 578 هـ- التي لا يغيب عنها الالتزامُ بالمنطِق الأرُسْطي. فابنُ الزمَلْكاني المذكور يستند في عزْوهِ إعجازَ القرآن الكريم - بيانـيّا - إلى الأدوات النحْوية، وهذه الأدوات لا يرتضيها ابن عميرة، مستندًا في رده لما يُسمى آلياتٍ منطقية. والفرقُ بين النحويّ، والمنطيقيّ، أظهر من أن يخفى. فالنحويُّ عند ابن عميرة يتحايل على تأويلٍ يصحُّ معه الإعراب، مع أن المعنى قد لا يكون مقبولا، ولا صحيحًا، مع صحة الإعراب، وقبولهِ، لدى النحاة. فهو – أي الإعراب- قد يكون صحيحًا والمعنى غيرُ صحيح، كقول القائل: الكأسُ في الشراب. فمن حيث الإعراب لا فرق بين هذا وبين « الشراب في الكأس «، لكن الملفوظ الثاني مقبول لأنه صحيح من حيثُ المعنى، والأول مرفوضٌ لأنه غير صحيح المعنى، مع أنه مقبول من حيثُ الإعراب. ولهذا يرى محمد مفتاح أنّ ابن عميرة في ردّه عمَدَ لتوظيف المنطق الأرسطي، بما فيه من مقاييس التصوّر، ومعيار التصديق. فهذا أحْرى بالقبول، وأجْدر بالاتّباع، من مذهب ابن الزمَلْكاني، ومَنْ نهَج نهجَه، واقتفى أثرَهُ. واستنادًا إلى هذا يصحِّحُ ابن عميرةَ أخطاءَ ابن الزمَلْكاني، ويمحّص الكثير مما علِـقَ بمفهومي الدليل، والمدلول، مشيرًا – في معظم الأحيان- لمسائل منطقية لا يدركها إلا المتخصِّصون. وهذا ينْسحبُ على مستويي القضايا الشرطية، والمحمولية(انظر ص 29- 33) ومما يستدعي النظر، ويسترعيه، أن ابن عميرةَ هذا يقف من الاستشهاد بالشعر، بصفته دليلا على أيضاح بعض ما يرد في القرآن الكريم، موقفَ الرافض المستخفّ بالشِعْر، المزْدَري للقريض، ويعدّ الاحتجاجَ به ركاكةً، وغايةً في التهافُت(ص 33) ؛ وذلك لأن الشعر، في رأيه، مبنيٌ على الخيالات، وهو- تبعًا لذلك - من الأقوال الكاذبة.(انظر ص 37) على أنَّ المؤلفَ - محمد مفتاح - لا يوضّح لنا، وقد وعدنا بالكثير الجمّ في هذا الفصل الموسوم بعنوان مبادئ الاستدلال، ما الذي يضيفه ابنُ عميرة للبلاغة العربية، ولعلميْ البديع، والبيان. سيّما وأنه يقررُ، في عبارة موجزة، وجملة مكثَّفة قصيرة، أن اختلاف منطلقات الزمَلْكاني عن ابن عميرةَ لا بدّ من أن يؤدي لاختلاف النتائج، فبعضُها مبني على أسُس من النحو، وبعضها مبنيٌ على أسُسٍ من المنطق المتأثر بكتابيْ ابن رُشْد: فصل المقال(حققه محمد عمارة)، ومناهج الأدلة(حققه أحمد شمس الدين وصدر عن دار بيضون ببيروت). ولو أنّ في وصْف ابن الزمَلْكاني بالنحْويّ وصفًا ينْطوي على مُغالطة كبيرة، ومبالغة أكبر. وقد التزم ابنُ البنّاء المراكشي(721هـ) في « الروض المريع – بفتح الميم - في صناعة البديع « النهج الذي يسميه المؤلف- مِفْتاح - بالرياضي تارة، والمنطقيِّ تارة أخرى. فهو، أي ابن البنّاء، يتّبع الاستقراء مرة، ومرة يتبع الاستنتاج، وفي بعض الأحايين يجمَع بين الاثنين: الاستقراء والاستنتاج. (انظر ص43) وبهذا يكون مؤلف الروض المريع ممثلا لتياريْ الرياضيات، والمنطق، في الدرس البلاغي، إذ يراهما القارئ في الكتاب « رأْيَ العين « بتعبير محمد مفتاح. (ص44) وفي تتَبُّع المؤلف لمقولات صاحب « الروض المريع « عن النسبة والتناسُب يغالي مغالاةً شديدَةً. وهذا في رأينا جليٌ، ومعروفٌ، ولا يحتاجُ توضيحه لصفحاتٍ كثيرة(من ص 45- 54) فتوظيف التناسب في الملفوظات من؛ إيجاز ومساواة وإطناب، أو حذف وزيادة، أو تقديم وتأخير، معروفٌ، ومتواترٌ ذكره في جلِّ كتب البلاغة التي ذكرها المؤلف(ص43) والتي لم يذكرها. وأما تأكيده أن ابن البنّاء المراكشي وظَّف في كتابه مفهوميْ « المشاكلة « و» الاختلاف « الواردين لدى أرسطو(322ق.م) وابن سينا (428هـ) وشروح ابن رشد(578هـ) فقد جاء هذا التأكيد في كلمة موجزة، ليست بالكافية قطعًا، بدليل ما وعد به المؤلف من عودة للحديث عن ذلك في الهامش ذي الرقم(40) لكنه للأسف لم يعُدْ. ومن نافلةِ القوْل، وتحصيل الحاصل، أنَّ البلاغة العربية- أساسًا- نشأت، من حيث هي علمٌ بالكلام، وفنونه، وأساليبه، للإجابة عما أُثير من أسئلةٍ عن إعجاز القرآن، لذا كان كتاب أبي محمد القاسم الأنصاري المعروف بالسِجلْماسي(704هـ) نسبة لسجلماسة وهي مدينة في المغرب « المنْزَعُ البديع في تجنيس أساليب البديع « (حققه علال غازي وصدر عن مكتبة المعارف بالرباط1980) خطوةً أخرى على هذا الطريق المهْيَع، والسراطِ الموطّأ المتَّبع. فمؤلفه يحدد غايته منه: « بالوقوف على لطائف معاني القرآن، ومعرفة وجوه إعجازه» و « تنقية البلاغة العربية من فساد التقسيم، وفوضى التجنيس « ( ص61) ومما يشير إليه محمد مفتاح، وينبه عليه، أن السجلْماسي يحيلنا مرارًا إلى كتاب « المقولات « لأرسطو (322ق. م)، وكتاب « الشعر « و « الجدَل « وهما لأرسطو أيضًا. ويذكر، فيمن يذكر ممّن تأثر بهم، ابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن) 428 هـ والفارابي (339ه) وهما إلى الفلسفة أنسب، وبالعلم ألصقٌ وأقرب. ومع أنَّ المؤلف يحدد، فيما يحدده من وسائل التصنيف، والتجنيس، لدى السجلْماسي، وسيلتين اثنتين، هما : الاستعارة والكناية، إلا أنه يضيف إليهما وسيلة أخرى ثالثة هي المجازُ المرسل (انظر ص 63). ومن العرض التفصيلي لآراء السجلماسي في كتابه السالف ذكرهُ يتَّضح أنَّ ما أضافه للبلاغة، ولعلمي المعاني، والبيان، لا يتعدى، في أحسن التقديرات، بعض التعديلات الشكلية على تصنيف ما هو معروفٌ من ألقاب البديع والبيان. فالتخييلُ عنده نوع عالٍ ينْدرج تحته كلٌ من التشبيه، والاسْتعارة، والمجاز. وتحت التشبيه يندرج كل من التشبيه المفرد والتمثيلي والضمني وهكذا... ويرى المؤلف- محمد مفتاح- في هذا التصنيف تطبيقا لما يقوله أرسطو من أن الأجناسَ العُليا لا يدخل بعضها، ولا يُرتّب، تحت بعض. وقوله « الجنس العالي – كالتخييل- لا يترتب تحت شيء أدنى منه منزلة، ولا تحت جنْس آخر عالٍ « (ص 62) فمع أن الاستعارة تخييل ، والتمثيل تخييل، والمجاز تخييل، فإنه لا يسوغ أنْ يوضع التخييل مثلا تحت الاستعارة، بصفته فرعا لها، ونوعا منها. وهذا شيءٌ- في ما نظن ونحسبُ - واضحٌ في مصادر البلاغة العربية عمومًا منذ أن وضع أبو الحسين إسحق بن إبراهيم بن وهب (335هـ) كتابه « البرهان في وجوه البيان (3) « المنسوب خطأ لقدامة بن جعفر(337هـ) بعنوان « نقد النثر» وهو الكتاب الذي حققهُ، ونشره عبد المنعم خفاجي، وقدَّم له عميد الأدب العربي طه حسين بمقدمة شكّكَ فيها بنسبة الكتاب لقدامة، بَيْدَ أنه لم يرجح نسبته لابن وهب. وتبعًا لهذا يُعدّ ما اختاره المؤلف محمد مفتاح من نماذج سبق ذكرها مدوَّنةً غير شاملة لعلوم البلاغة والبيان، ولا كافية، كي نتوصل، بالقراءة الإبداعيّة الجديدة، لتصور جذري يؤدي لانقلاب الرؤى انقلابا يسوِّغ ما ندعوهُ إعادةَ نظر. والذي لا شك فيه، ولا ريب، أنَّ مصادر البلاغة العربية التي يزخر بها تراثنا حدَّ الامتلاء، ابتداءً من: البيان والتبيين (255هـ)، وبديع ابن المعتز(296هـ) مرورا بكتب قدامة(337هـ) وابن وهب (335هـ) والعسكري(395هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني(392هـ) وابن رشيق القيرواني(456هـ) وابن سنان الخفاجي(466هـ) وعبد القاهر الجرجاني(471هـ) وأسامة بن منقذ(584هـ) والسكاكي(626هـ) والقزويني(739هـ) والعلوي(749هـ) صاحب الطراز، وابن عميرة، وابن البناء المراكشي، والسجلماسي، ممن ذكرهم محمد مفتاح، أوْ لم يذكرهم، تحتاجُ لإعادة النظر، واستئناف القراءة، في ضوء ما يصفه المؤلف بالتلقّي، أو التأويل من المنطلق الرياضي، أو المنطقي، فقد جاءت الاستنتاجات، على الرغم من هذا الاستقراء الناقص، مهمَّة جدًا. إذ تبيَّن لنا، وللمؤلف، أنَّ ما ينبهر به بعض الدارسين من آراء غربية مُسْتجدَّة عن الاستدلال، أو التناسب، أو التصنيف، والتجنيس، ليس بالشيء الجديد المبتكر، الذي ينْبهر له الدارس, فما خُدع به بعضنا، وظنوهُ من أفكار البلاغيين الغربيين المعاصرين، نجده فيما سبق إليه ابنُ البناء المراكشي وابن عميرة والسجلماسي. وهو شيء لم ينفردوا بالحديث فيه، وإنما هو موجودٌ في التحليل الأصولي، والبلاغي. وإنما وقع هذا الانبهار بما يقوله الغربيون، لأننا لم نَسْتَطع قراءة هذا التراث قراءةً إبداعية جديدة، إلا فيما شذّ وندَر. ولا ريب في أن قراءة محمد مفتاح للنماذج الثلاثة المذكورة من هذا الشيء الذي شذَّ مثيله، وندَر نظيرهُ. يُذكر أنَّ الراحل أحرز عددًا من الجوائز منها جائزة الفيصل، وجائزة صدام حسين، وجائزة سلطان العويس، وجائزةُ أفضَلِ كتابٍ في المغرب لعام 1994 عن « التلقّي والتأويل «موضوع هذا المقال. رحم الله المؤلف محمد مفتاح، وأثابه عما كتبَ، وألفَ، وأضاءَ، الثواب الذي يستحقهُ، إنه لا يضيّع أجْرَ المحسنين. *** يذكر من باب تشابه الأسماء أن ممثلا مغربيا يتكرر ظهوره في المسلسلات التلفزيونية التاريخية اسمه محمد مفتاح لذا وجب التنويه. حققه أحمد مطلوب وخديجة الحديثي وصدر ببغداد 1964 عن دار مكتبة العاني. حققه حفني محمد شرف، وصدر في القااهرة عن دار مكتبة الشباب ، بلا تاريخ، انظر كتابنا في نظرية الأدب وعلم النص، ط1، بيروت: الدار العربية للعلوم(ناشرون) 2010 ص 22 - 23 للمزيد انظر كتابنا: واقع الدراسات النقدية العربية في مائة عام، ط1، عمادة البحث العلمي، عمان، 2013 ص 142 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 30-04-2022 01:05 صباحا
الزوار: 739 التعليقات: 0
|