د. محمد حسين السماعنة
كانت الزرقاء عام ألف وتسعمائة وستين مدينة صغيرة تحبو على أطراف الحياة حيث ولد الشاعر صابر الهزايمة، وحيث أنهى دراسته الثانوية فيها. وصابر الهزايمة شاعر أردني يغرف الشعر من بحر زاخر بالشعرية المتصلة بنبض صادق وخيال محلق، ولسان عربي مبين بليغ فصيح. وكانت الجامعة الأردنية موئله الأول حيث تخرج فيها عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثمانين حاملا شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها بعد أن تتلمذ على يدي الرعيل الأول المؤسس الباني، ليعمل مدرسا لمادة اللغة العربية في كلية الأميرة منى للتمريض، وفي عدد من الكليات الجامعية العسكرية، ومدارس الثقافة العسكرية في الجيش الأردني.
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين حصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي من جامعة آل البيت ليعمل في الجامعة الهاشمية سكرتيرا لتحرير مجلة الهاشمية الثقافية، ثم مديرا لتحريرها، فمديرا لدائرة النشاط الثقافي والفني فيها، وعمل محررا لأكثر من برنامج ثقافي في التلفزيون الأردني ومقدما لأكثر من برنامج.
كتب صابر الهزايمة عددا من الأغاني الوطنية، وصدر له ديوانا شعر هما: أناشيد للوطن عام 1993، ورسائل إلى عمان عام 1994. وله مؤلفان: المنهج النقدي في القرنين الثالث والرابع الهجريين. والتناصّ في الشعر العربي. وقد شارك صابر الهزايمه في عدة مهرجانات شعرية عربية، وحصل على جائزة شاعر الجامعات العربية عام1980.
هذا هو صابر الهزايمة في ترجمة الحرف التي تخبئ الروح والحياة خلف سطور تختصر العمر والحرف والصوت، وأما على طرف قريب من القلب، مفعم بالحب، فإن صابر الهزايمه يقف على منصة التتويج المستحق شاعرا فحلا صاحب حرف وطني المحيا والنبض عربي الدم والقلب مخضبا بالجمال والإبداع، وهو يداري عبرة من انكسار الدمعة على ألم الصاعدين إلى الشمس، ويهدهد شهقة من خوف عليهم وقلق وغضب وحب، ويسحب من راحة الحزن بعض الكلام الشفيف عن المرحلة في شعر مليء بالماء.
وحين تضج في صدر هذا الفتى الأسئلة تشهق في روحه أغنيات الحب والغضب والحرب في قصائد من دحنون وسنبلات ورفض وجمال. ويبني صابر الهزايمة، ابن زحر عاشق عمان، القادم على بحور الخليل من قلب القصيدة المعبأة بالأصالة ونَفَس الشعراء القدامى إلى حومة القصيدة المعاصرة- قصائده بدفقات ملتهبة من صور مدهشة مبنية بحذر وفق عمود الشعر حينا، وبتمرد الغموض المعاصر المتكئ على البحر الجديد حينا.
وتزهو قصائده وتشرق بموسيقى تلبس ثوب الوزن ونظام البحر الصارم الذي يفيض بها بجمال وشعرية وغنائية باسمة الوجه، وجمال نسج وسبك وحبك.
وقصائد صابر الهزايمه شهقة شعر خضراء ندية تدندن في صدر اتسع لجرح عميق ممتد من رأس مسندم إلى جرح القدس وأخواتها حتى أطراف الصحراء المثخنة بجراح الغزاة.
وهي أغنيات حب للإنسان والمكان يوزع روحها شاعر عاشق مدنف بحبه موزع الروح والخفقات بين عمان وزحر والقدس وإربد وبلاد العرب، وهي شهقات شاعر يعرف أبواب الشعر ومطالعه، ويمسك بزمام القصائد بثقة وهدوء؛ فهو يعرف كيف يحر بها عيني المتلقي، ويشنف بها أذنيه، ويراقص بها نبضات قلبه بما يسعده ويرضيه ويمتعه، ويقنعه، ويؤثر فيه، ويداعب خياله، ويرضي ذائقته.
ويلفت النظر في شعر صابر الهزايمة تنوع بحور قصائده، وجودة مطالعه فهو شاعر يزهو بامتلاك شعرية مطبوعة غير متكلفة ولا منحوتة، وتظهر قدرته واضحة على بناء المطلع المدهش، وامتلاكه لمفاتيح الشعر التي تجعل القصيدة وهي تخطر في ثياب الوزن والبحر والايقاع مريحة للعين والأذن والقلب كما الأغنية، وكيف لا تكون كذلك وأناشيده للوطن أغنيات،
ويلفت النظر في شعره أيضًا حضور المكان واستحضاره، فهو يكاد لا يغيب عن قصائده فهو حبيبه الذي يحزن لحزنه، ويألم لألمه.
وهو شاعر وطني مخلص منتم للأردن حريص عليه متيم بحبه، وحب مدنه.
وهو شاعر عربي محب لوطنه العربي الكبير متابع لما يجري على أرضه وما يواجهه العربي من تحديات، فبلاده العربية كلها في عينيه ممتزجة بدفق قلبه، يرصد نبضها حبا وحرصا.
وهو لا يفتأ يذكر الأردن وحبه له وخوفه عليه، وحزنه لما يمر به، وغضبه على الفاسدين، فها هو يعلن ولاءه للوطن واستعداده الدائم لبذل روحه فداء له في قصيدة «روحي فداهُ»:
روحي فداهُ فما لَهُ الأردنُّ؟
ما زالَ يرعفُ جرحُهُ ويئنُّ!
قَلِقاً كأنَّ الريحَ تحتَ إهابِهِ..
أرِقاً ولا فجرٌ يلوحُ فَيطمَئِنُّ
ينأى ويدنو مُطرِقاً مُتَوَجِساً
وأكادُ من خوفي عليهِ أجنُّ
ظمآن؟ لا عِشنا إذا لم نروِهِ
دمَنا وتـهتنُ من دمانا المُزنُ
حيران؟ خارطةُ الطريقِ قلوبُنا
والروحُ سُكنى والصدورُ مِجنُّ..».
وهو لا يفتأ يذكر حبه للأردن المرتبط بالأقصى، يقول في مقطوعة» وَطَنٌ»:
وَطَنٌ يُعَلِّقُ في المجازِ رؤاهُ..
ضاقت عليكَ حُدودُهُ وسَماهُ
وتحبُّهُ.. حبَّ الوليدِ لأُمِّهِ..
والروحُ رَهْنُ ترابِهِ وفِداهُ..
وطَنٌ على أبوابهِ احتشدَ العِدى
ومِنَ العَجائِبِ نهجُهُ وخُطاهُ..
والأردنيون والأقصى وقدسُهُمُ
والضفتان ِ بهم روحٌ وأبدانُ..
ويعاهد الأردن على أن حبه له لن يفتر ولن يقل أو يضع على الرغم من المعاناة والبين والكبد، وما فعله الفاسدون، يقول في قصيدة «عهد..»:
مِنْ سالفِ العَهدِ يا أردُنُّ للأَبدِ..
إنّا على العهدِ رغمَ البينِ والكَبَدِ
إنّا على العهدِ أن تبقى لنا وطناً
بالروحِ نفديهِ والأموالِ والوَلَدِ..
رغم الذي رهنوا رغم الذي ارتهنوا
رغم الذي نهبوا من ثروَةِ البَلَدِ...
فاستكرشوا نَهَشوا واستقرشوا بَطَشوا
غنّوا وكم رقصوا
وينذر ويحذر من القادم المؤذي، والواقع المتردي؛ فهو يطلب من يوسف أن يفتيه فيما رآه من عجاب: نار تجتاحه وتغرس أنيابا مسمومة في جسده، وذئاب ودم يرعبانه في كل منام، وأساور في معصمه، وعسس يعفره بالتراب، وغلالة من السواد على البيوت من أوغاد يعيثون خرابا، وآلاف من الجوعى، ووطن يغضي ناظريه عن قاتليه ويضمهم، يقول في قصيدة « يا يوسف الصدّيق»:
يا يوسف الصدّيق هاتِ وأفتني
فيما رأيتُ.. وقد رأيتُ عُجابا..!!
تجتاحني نارٌ وتغرسُ في الحشا
مسمومة ً مسنونةً أنيابا..!!
ما نمتُ أرعبني منامي كلّما
حاولتُ أمطرني دماً وذئابا..
جفّت? ينابيعُ المدينةِ والصدى..
شقَّ الصدى صدري وأزجاني سرابا
إني رأيت أساوراً في معصميَّ..
وساقني عسسٌ وعفّرني ترابا..
وحظيت عمان بمكانة عالية في شعر صابر الهزايمة، فقد أكثر من ذكرها والغناء لها، وجعلها عتبة لأحد ديوانيه «رسائل إلى عمان «حتى استحق أن يلقب بشاعر عمان، المدينة التي خصها بأكثر من قصيدة، ولم يتوقف عند أبوابها إلا كعاشق محب، يقول في قصيدة «ما بالُ عمّان؟!»:
لامَتكَ عمانُ؟! منها اللّومُ مسموحُ..
عمانُ عاصِمَتي والنبضُ والروحُ..
عـمـانُ يا ولدي جيناتُها بدمي...
كم في دمي عصفت منها التباريحُ..!
لو مرةً غَضِبَت.. أو مرةً عَتبت...
فالقلبُ في تلفٍ والجفنُ مقروحُ..
رُغم الذي فَعَلت واستَوطَنَت وَطَغَت
واستكْبرَت وجَنَت فيها التماسيحُ
واستبدَلَت وجَفَت حَرفاً وقافيةً..
واستَعجَمَت.. لَحَنت والضادُ مذبوحُ..!!
.. أدري بها انكفأت عن كلِّ بارقةٍ
جيّاشةٍ أملاً.. والجرحُ مفتوحُ..!!
وتوزع نبض صابر الهزايمه حبا بين مدن
الأردن، وغنى لقريته زحر في قصيدة فاضت عاطفتها على الموسيقى يقول:
من قصيدة لم تكتمل لقريتي زحر بعد غياب امتد سنوات ظالمه..
زحر ُاعذريني جئتُ اعتذرُ..
روحي فدى عينيكِ يا زحرُ
يا جنةَ الدنيا وزينتها
قلبي بنارِ الشوقِ ينفطرُ
يا قرَّةَ العينين كم أرقت
عينايَ بعدكِ واشتكى النظرُ
هذا بعض من فيض إبداع صابر الهزايمه عاشق عمان، عاشق الشعر، الشاعر الأردني العروبي، المتمسك بجودة القصيدة ووتر الشعرية النقية.