|
عرار:
غسان إسماعيل عبد الخالق قرّاء الملحق الثقافي لصحيفة الدستور الغرّاء، وفي ضوء مقالي السابق (مدخل علمي إلى نظرية الفوضى في الأدب)، طلبوا مني طلبين؛ أن ألخّص لهم أبرز ملامح النقد الثقافي وأن أورد لهم نموذجين تحليليين في ضوء نظرية الفوضى. أما بخصوص المطلب الأول؛ فيسعدني أن أُجمل للقرّاء الأعزاء، أبرز ملامح النقد الثقافي على النحو التالي: * لأن الأدب لم يعد امتيازا حصريا للنخبة المتخصصة، فإن النقد الأدبي لم يعد المنهج الوحيد لدراسة الأدب. * إعادة الاعتبار للثقافة بوصفها امتيازا للجمهور، ومن ثم الإعلاء من شأن المقاربات غير الأدبية والعابرة للتخصصات. * الموضوعات الثقافية المقصودة بالدراسة تشمل: الحكايات الشعبية، برامج المذياع، المسلسلات التلفزيونية، أفلام السينما، الملصقات والمطويات، البيانات السياسية الرسمية وغير الرسمية، بوصفها ممارسات دالّة أي مُنتجة. * الأدب المحض والنقد الأدبي المحض، هما أسطورتان أكاديميتان. * إيلاء دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات النسويّة العناية اللازمة، كونها تمثل مظهراً بارزاً من مظاهر الممارسات المعرفية المنتجة. * تشخيص الدور الإشكالي الذي تضطلع به تكنولوجيات الاتصال، وبخاصة فيما يتعلّق بترسيخ الثقافة السمعيّة والبصريّة على حساب الثقافة المكتوبة، وما قد يترتب على ذلك من أُميّات وشفويّات جديدة. وأما بخصوص النماذج التحليلية؛ فإن من البديهي أن تتجه أنظارنا صوب أبرز مدونتين شعبيتين في الأدب العربي القديم: السيرة الهلالية وألف ليلة وليلة، بوصفهما مثالين استثنائيين قابلين للدراسة التطبيقية، في ضوء نظرية الفوضى. على الرغم من كل ما تنطوي عليه السيرة الهلالية من تلفيق وانفلات زماني ومكاني، فإنها تمثل نموذجًا للكيفية التي يمكن وفقها لرفّة جناحي الفراشة، أن تؤدي إلى مآل حضاري مأساوي، جرّاء عدم اقتدار النمط المدني الناعم على مواجهة النمط الصحراوي الغاشم. ومن المؤكد أن هذا المآل ما كان ليخطر ببال الخليفة الفاطمي المستنصر (427 - 487هـ)، وهو يعطي شارة البدء لعدد من القبائل المشاغبة في صعيد مصر، للانقضاض على الغرب الإفريقي العربي المسلم، انتقامًا من والي تونس المعز بن باديس الصنهاجي، الذي أوقف الدعاء له وراح يدعو للخليفة العباسي مجددًا في عام (440هـ). وسواء انطلقنا في فهمنا هذا، من الاعتقاد بأن الخطوة التي أقدم عليها والي تونس هي رفّة جناحي الفراشة الأولى، أم أنّ الخطوة التي أقدم عليها الخليفة الفاطمي هي رفة جناحي الفراشة الأولى، فإنّ النتيجة واحدة وهي: تدمير الحضارة العربية الإسلامية في الشمال الإفريقي العربي المسلم، ممثلاً بتونس الخضراء بوجه خاص وفي القيروان بوجه أخص. إنّ أخطر ما يمكن للناقد استخلاصه من الحكاية الإطارية الناظمة لسيرة بني هلال، يتمثل في تصاعد الوعي العنجهي الصحراوي، وتنصيبه بطلا في الوجدان الشعبي، فضلا عن انتحال كل المسوغات له، كي يطيح بالوعي المدني الناعم، ممثلاً في بنات والي تونس الذي راهن على استمالة شيوخ القبائل الغازية، عبر تزويج بناته لهم، لكنهم أصروا على اجتياح تونس على الرغم من ذلك. إنها مغناة الذكورة الغاشمة في أوج تسلّطها على الأنوثة الناعمة، وهي مغناة تقتات وتتصاعد بعدد من الحكايات الفوضوية الثانوية الداعمة للحكاية الإطارية، مثل حكاية أبي زيد الهلالي، أو ذياب بن غائم الزغبي، أو الجازية. كما يمكن الشروع بها بدءًا من أية حكاية فيها، بل ويمكن إضافة ما يوافق أهواء الرّاوي وجمهور السامعين لها، من خلال إعلاء نموذج أبي زيد الهلالي مثلاً، والغض من نموذج ذياب بن غانم أو العكس من ذلك. وباختصار فإنها نموذج لنظرية الفوضى حينما تعمل سلبًا. وإذا كانت (سيرة بنى هلال) تلخص رفّة جناحي الفراشة بدءًا من الانتقام الشخصي وصولاً إلى الهدم الحضاري العام، فإنّ (ألف ليلة وليلة) تلخص رفّة جناحي الفراشة بدءًا من الانتقام الشخصي وصولاً إلى السلام العام. أو هي بعبارة أخرى تمثل رفّة جناحي الفراشة، بدءًا من جحيم الشك وصولا إلى نعيم اليقين، اعتمادًا على الاعتبار بالمغزى ودون أن تراق قطرة دم واحدة. وأعني بالجملة الأخيرة (دون أن تراق قطرة دم واحدة)؛ نمط العلاقة التي قامت بين (شهريار) و (شهرزاد) منذ أول ليلة شرعت فيها بالسرد، وحتى آخر ليلة اختتمت فيها سردها المذهل. ولا أشمل بها - طبعا - ما سبق هذا السرد من مجازر. وسواء انطلقنا في تحليل ألف ليلة وليلة من لحظة إقدام (شاه زمان) على قتل زوجته الخائنة وحاشيتها الفاجرة، بوصفها رفّة جناحي الفراشة الأولى التي أدّت إلى كل ما أدّت إليه في (ألف ليلة وليلة)، أم انطلقنا في هذا التحليل من لحظة اطّلاع (شهريار) على خيانة زوجته بوصفها رفّة جناحي الفراشة الأولى التي أوصلته إلى (شهرزاد)، فإن النتيجة واحدة وهي: الانهيار التام لليقين داخل (شهريار) بإمكانية وجود الوفاء البشري ممثلاً في المرأة/ الزوجة/ الحبيبة المخلصة. إن هذا الانهيار الدامي لليقين، لا يقتصر على الثقة بإمكانية وجود المرأة العفيفة فقط، بل يمتد ليشمل انهيار الثقة بإمكانية وجود الحقيقة؛ فالمرأة المخلصة والحقيقة المطلقة مسمّيان لوجه واحد في ألف ليلة وليلة. إن رفّة جناحي الفراشة الثانية التي تتكفل بإحداث الإزاحة المطلوبة باتجاه إعادة بناء اليقين، تتمثّل في تطوّع (شهرزاد) لإنقاذ بنات جنسها وإعادة الاعتبار لهن، عبر مئات الحكايات المتوالدة المبتورة بانبلاج الصباح، المتألّقة بهبوط الليل، المنفلتة من عقال الزمان والمكان، والمنتظمة بمحرّك رئيس هو ضرورة إعادة بناء قناعة الذات، بإمكانية وجود الحقيقة بغية استعادة ثقتها بالآخر المتّهم. ومع ضرورة التذكير بالفارق النوعي الذي آلت إليه (ألف ليلة وليلة)، بما في ذلك مآل (شهريار) و (شهرزاد)، فإن نظرية الفوضى تعمل على صعيد الإطار العام للحكاية بإيجابية متتابعة، على وقع الأطر الثانوية التي تبدو ظاهريًا، ضربًا من التلفيق الفوضوي؛ فهي أيضا قابلة للحذف والاستثناء، كما يمكن البدء من أي منها، دون أن يخلّ ذلك بمغزى الإطار العام. بل يمكن إضافة غيرها شفويًا أو كتابيًا؛ سواء أكان السارد هو الراوي المجهول أم (شهرزاد)، وسواء أكان المتلقي هو (شهريار) أم القارئ الضمني. وبغض النظر عن مرجعياتها الهندية أو الإيرانية أو العراقية أو الشامية أو المصرية، فإنها تمثّل معادلًا سرديًا لنظرية الفوضى؛ إذ يتبدّى لنا السّرد ظاهرًا بوصفه خبط عشواء عارمًا في فضاء التداخل بين الماضي والحاضر، وبين المعقول واللامعقول، وبين الإنس والجن، وبين الواقع والخيال، وبين الفروسية والدناءة، وبين الحياة والموت، لكنه يتراصف باطنًا بوصفه نسقًا سرديًا عامًا، ينطوي على عدد من الأنساق السردية الجزئية، باتجاه ترسيخ حقيقة واحدة: إن المرأة بوصفها معادلاً موضوعيًا للحقيقة موجودة، وإذا لم يسعفنا الحظ للالتقاء بها (المرأة/ الحقيقة)، فهذا لا يعطينا الحق في نفي وجودها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 09-07-2023 08:00 مساء
الزوار: 155 التعليقات: 0
|