|
عرار:
د. إبراهيم الكوفحي يعدّ مركز أبو ظبي للغة العربية، (في دائرة الثقافة والسياحة، بدولة الإمارات العربية المتحدة)، كما لا يخفى على المتابع، من أهمّ المراكز التي تُعنى اليومَ بشؤون لغتنا العربية ودعم ما يتصل بذلك من أعمالٍ ودراساتٍ ونشره على نطاقٍ واسع، ممّا له سُهمةٌ ظاهرةٌ في إغنائها وزيادة حضورها وفاعليّتها في شتّى مجالاتها المعرفيّة والإبداعيّة. ولعلّ أهمّ ما يهدفُ إليه هذا المركز، فيما يهدفُ إليه من خدمة العربية وآدابها، كما يتجلّى ذلك في عديدٍ من أعماله وإصداراته، ما يُلحظُ من اهتمامه بجمع ما تفرّق، وتوضيح ما غمض، وتقريب ما بعد..، ممّا يتعلّق بغير قليلٍ من التجارب والمنجزات الرائدة والأصيلة في ميادين اللغة العربية، بغية التعريف بها، وتقريب مآخذها من القارئ المعاصر، لتشكّل مع مرور الوقت وعياً عامّاً، يتجاوز حدود التخصّصية والدوائر العلمية الضيّقة، وذلك إلى الحدّ الذي يُسهم في جعل كثيرٍ من هذه المنجزات في نطاق المستوى الثقافيّ للمجتمعات العربية، وهو ما نحن في مسيس الحاجة إليه في أيامنا هذه خاصّة، لما نراه صباح مساء من زاويةٍ أخرى في وسائل التواصل المختلفة من ضخّ موادّ كثيرةٍ ومتنوّعةٍ أقلّ ما يمكنُ أنْ توصفَ به أنها موادّ مضلّلةٌ أو فاسدةٌ لا قيمةَ لها. هذا فضلاً عن دور مثل هذا الضرب من الإصدارات النّوعية في حفز الأجيال الراهنة على العودة إلى تلك المنجزات، وإغرائهم بقراءتها، ليكون التفاعل معها وانتفاعهم بها واستمتاعهم، على الوجه الأكمل. يأتي هذا الكتابُ الضخمُ «مائة رواية ورواية: رواياتٌ عربية أثرتْ القرنَ العشرين» الذي أربى على عشرين وأربعمائة صفحةٍ من الحجم الكبير، ضمن إصدارات هذا المركز للعام الحالي (2023م)، من سلسلته الطموحة (مائة كتاب وكتاب). ولعلّ من السهولة أنْ نتبيّن من عنوان هذا الكتاب ما يسعى إليه من محاولة تقديم هذا العدد الكبير من روايات القرن العشرين الماضي للقارئ العربيّ على صعيدٍ واحد، الأمر الذي يتيح له الوقوف على عديدٍ من التجارب والمنازع الشعورية والفكرية، والطرائق والأساليب المختلفة على مستوى البيان والتعبير والأداء والمعالجة، وهو ما يجعل الفائدةَ أكثر، والعائدة عليه أوفر، ولا سيّما وهو يتأمّل البدايات، ويرصد التحوّلات، ويعقد الموازنات، ويتبصّر المآلات. وهذه الروايات لم يجرِ اختيارها عشوائياً، بل ضمن رؤيةٍ واعية مدروسة، تقوم على أساس دور هذه الأعمال في إغناء حركة الرواية العربية، سواء على مستوى الموضوعات والقضايا التي تعالجها أو على مستوى الوسائل والأساليب اللغوية والفنية التي توظّفها، وذلك في نطاق آليّةٍ للاختيار جرى اتّباعها كانت من الحرص على تحقيق ما أمكن من الموضوعية، كما فصّل ذلك رئيسُ مركز أبو ظبي للغة العربية الدكتور علي بن تميم في مقدّمته البليغة التي جاءتْ موضّحةً لآليّات إخراج هذا العمل وبيان مقاصده الأساسية، إذ يقول: «يوقن مركزُ أبو ظبي للغة العربية بأنه لا توجد آليةٌ تحظى بالإجماع لاختيار ما يمكن الجزم بأنه أفضل الروايات العربية على الإطلاق، لكن توسيع دائرة القائمين على الاختيار، ووضع مجموعةٍ من المعايير والموجّهات للاختيار، ربما يضمنان حدّاً مقبولاً من الموضوعية، وهذا ما حرصنا عليه. فقد اختير لهذا الغرض أربعة عشر ناقداً من كبار النقاد العرب، يمثّلون مدارسَ واتجاهاتٍ مختلفةً، وكلّهم ممّن قدّم إسهاماتٍ مهمّةً في مجالٍ في مجال نقد الرواية ودراستها. وطُلب إلى كلّ منهم اختيار ما يراه أهمّ 75 رواية عربية، واختيرت الروايات التي يتضمّنها هذا الكتاب، وهي مائة رواية ورواية، ورتّبت بناءً على مقياسٍ كمّي لا يقبل التأويل، وهو الأصوات التي حصلتْ عليها كلّ رواية من مجموع اختيار النقّاد الذين اضطلعوا بهذه المَهمّة». وإلى جانب هذا الجهد المُضني في عملية اصطفاء الأعمال الروائية العربية المتميّزة، التي تمتدّ على مساحة قرنٍ كامل، لمبدعين ينتمون إلى معظم الأقطار العربية، ابتغاءَ توفير أكبر قدرٍ من المصداقية والسداد في الحكم النقديّ على هذه الأعمال، فقد راح الكِتاب، كما يقول رئيس المركز، يخطو خطوةً أخرى، باتجاه تحقيق أهدافه ومقاصده الثقافية والأدبية والفنية، وذلك إذ مضى يسير وفق منهجٍ لاحبٍ في معالجة الروايات المختارة، من شأنه تقديمها للقارئ العربيّ كالفستق المقشّر، بدءاً من التعريف بصاحب العمل، إلى تقديم «حيّثياتٍ تشرح جوانبَ تميُّز كلّ روايةٍ ومواطن جمالها وما تمثّله من إضافة، إلى جانب تعريفٍ موجز بالرواية، ونصّ قصير منها، وهو ما يؤدّي في نهاية الأمر إلى تقديم تعريفٍ وافٍ وواضحٍ بها، بلغةٍ يسيرةٍ ودقيقة، تناسب القارئ العام والمختصّ على السواء». وفي السياق ذاته، وممّا يُذكر لهذا العمل كذلك، ما يطالعه القارئ في مستهلّه، قبل التولّج في عالم الإبداع الروائيّ، من مقالةٍ ضافية، للناقد العراقيّ المعروف محسن جاسم الموسويّ، أستاذ الدراسات العربية بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية، التي جاءت تحت عنوان» تحوّلات الرواية العربية في القرن العشرين»، حيث نجده في هذه المقالة يتتبّع رحلة الرواية العربية، بدءاً من انطلاقاتها الفطيرة، وانتهاء بما وصلت إليه من استواءٍ ونضج، مشتبكاً في خلال ذلك مع كثيرٍ من المسائل والقضايا الفكرية والنقدية، ولا سيّما فيما يتعلّق بجذور الرواية العربية واتجاهاتها ومدى مواكبتها للروايات العالمية، الأمر الذي من شأنه أنْ ينصِبَ للقارئ غيرَ قليلٍ من الصّوى في طريق تلقّيه لروايات هذا الكتاب، في إطار المادّة التعريفية بها، على نحو ما أسلفنا آنفاً من منهجية تقديمها. لا مرية في أنّ مثل هذه المجاميع الروائية، تغدو اليومَ من الضرورة بمكانٍ، نظراً لِما قطعته الرواية العربية في هذا العصر من أشواطٍ واسعةٍ في ميدان التجريب والإبداع، ووفرة النتاج وتنوّعه، إذ لا يخفى على المتابع لأدبنا العربيّ الحديث، في شتّى أقطاره، ما حقّفه الفنّ الروائيّ من ذيوعٍ، وما بلغه من مكانةٍ بارزة بالقياس إلى غيره من الفنون الأدبية، مما يرجع إلى طاقاته وإمكاناته اللغوية والفنية الهائلة، القادرة على تجسيد التجارب الحياتية المعقّدة في هذا العصر، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. وهو ما ألمع إليه على نحوٍ دقيق الدكتور علي بن تميم، وذلك حيث يقول في تقديمه لهذا السفر النفيس: «ولم يعدْ ممّا يُختلف فيه كثيراً، في ظلّ التحوّل المستمرّ لموقع الأنواع الأدبية من الاهتمام، أننا نعيش (زمنَ الرواية)، لا على مستوى العالم العربيّ فحسب، بل على مستوى العالم بأسره». ولعلنا نتبيّن دقّة هذا الكلام في سياقات الحديث عن أهمّية الفنّ الروائيّ وموقعه بين سائر الأجناس الأدبية، بالنظر إلى ما نطالعه هاهنا وثمّة من عباراتٍ متسرّعةٍ، لا تثبت على نظرةٍ محقّقة، على شاكلة قول بعضهم: إنّ (الرواية ديوان العرب)، في مقابل قولة القدماء المعروفة: إنّ(الشعر ديوان العرب). وأقولُ لا تثبتُ على نظرةٍ محقّقة، لأنّ العرب الأوائل حين قالوا قولتهم تلك، كان الشعر هو الجنس الأدبيّ الأبرز لديهم، إنْ لم يكن الأوحد، فكان بديهيّاً أنْ يحور إليه ويستنطقه كلّ من أراغ أنْ يعرف أحوال العرب في مناحي حياتهم المختلفة، بَيْدَ أنّ هذه العبارة، أعني (الشعر ديوان العرب) لم تعدْ صالحةً أو من الدقة اليوم، لأنّ الشعر لم يعدْ الجنسَ الأدبيّ الأوحد، كما كان سابقاً، فقد تعدّدت الأجناس الأدبية التي من شأنها أن تصوّر أحوال العرب في العصر الحديث، وتعبّر عن عميق أفكارهم ودقيق عواطفهم ومشاعرهم..، ومثلما لا يصحّ القول إنّ الشعر ديوان العرب، في زماننا هذا، فإنه لا يصحّ بحالٍ كذلك أن يقال مثلاً إن الرواية ديوان العرب، أو القصة أو المقالة أو المسرحية..، إلى غير ذلك من القوالب الأدبية الشائعة، التي تنهض بتلبية حاجات العرب في البيان عن أحوالهم المختلفة، الظاهرة والخفية، على مستوى الفرد والجماعة في آن، وذلك أنّ (ديوان العرب) يتمثّل في هذه الأجناس الأدبية كلّها، بحيث لا يجوز أنّ نغضّ من دلالة أيّ جنسٍ منها على هذا الديوان، وإنْ كانت هذه الأجناس الأدبية بطبيعة الحال ليست سواءً في أهمّيتها وحضورها وانتشارها. وفي ختام هذه الكلمة التعريفية بهذا المجموع، القائم على أساس فكرة اختيار الأعمال الروائية التي كان لها تميّزها الواضح في مسار حركة الرواية العربية، سواء ضمن حدودها القطرية أو العربية بشكلٍ عامّ، فلعلّ من الأهمّية التنويه هاهنا بالجهد المؤسّسيّ أو الجماعيّ، الذي راح يميّز هذا العمل، مما يفسّر غير قليلٍ مما نراه على الصّعد كلّها من جودة وإتقان. ففضلاً عن الجهود الكبيرة التي بذلها النقاد العرب المتخصّصون بشؤون الإبداع السرديّ ممن اضطلعوا باختيار الأعمال وتحليلها ونقدها وتقديمها للقارئ العربيّ العام في صورتها الميسرة..، فثمة جهودٌ أخرى من وراء ذلك، بغية إخراج الكتاب في أحسن صورة وأبهاها، اضطلع بها نقادٌ وخبراء كبار أوكلتْ إليهم متابعة الإشراف على مراحل إخراجه من نواحيه المختلفة: العلمية والمنهجية والفنية، حيث يأتي في طليعتهم، إلى جانب رئيس مركز أبو ظبي للغة العربية الدكتور عليّ بن تميم: من مصر/ الدكتور صلاح فضل (رحمه الله تعالى)، ومن العراق/ الدكتور محسن جاسم الموسويّ، ومن السعودية/ الدكتور عبد الله الغذّاميّ، ومن الأردن/ الدكتور خليل الشيخ. وهنا نتبيّن، بلا شك، أهمّية مثل هذا العمل النقديّ المؤسّسي، بالقياس إلى غيره في بابته من الأعمال النقدية الفردية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-10-2023 08:07 مساء
الزوار: 336 التعليقات: 0
|