ماذا لو كان تأمُّلُنا –في إبداع الكاتب- أبعدَ، وأرقى، وأكثرَ جدوى؟ إننا –بحُسن استقبالنا للنص الأدبي- نصوغ إبداعا جديداً يُحيي جماليات النص بالد لالة، ويملك أن يبث فيها حرارة الرُّوح ، فنحظى أن نعيش في (أعماق الصورة ودلالاتها) لا في أطرافها حَسْب، إننا نَستنطق –بالتأويل والتأمُّل- كلمات اللغة، وتراكيبِّ بنائها الزاخرة بالحياة والمعنى. اللقطة الفنية: (اللقطة): التركيز المُكثف على زاويةٍ من المشهد الدرامي أو العمل السينمائي، تُلخص قصته، تُبرِّز العاطفةَ فيه بأقوى التجليات الدلالية، وأرقى المعاني، وأجمل الأدوات الفنية، في (لقطة) مُفعَمةٍ بالعاطفة، مشحوذةٍ بالمعاني السامية النبيلة التي ترفع القارئ من عالم المادَّة المحدود إلى دنيا (الرُّوح) المُرهفةِّ لأد قِّ الخلَجات، وأبسطِّ اللمحات. عنصرُ الحركة سمة تأمُّلات الكاتب العميقة، فهي لا تقتصر على الجسد، إنها تشمل التأويلَ الفلسفي، والإحساسَ العميق المُرهَف، وجماليات العمل الفني، غياب الحركة...موت، ف» الياسمينةُ التي تغفو على كتف السور تئنُّ وَجداً، لِّتأخر العاشقِّ الذي يُم سدُها كل صباح» ص 93. الرمز الفني غايةُ الكاتب التي يتمسك بجدواها، هذا الرمز ينتظم وجدان القارئ، ويُنظم ضرباتِّ قلبه، لقد خالف فيه توقع المُتلقي فأذهلَه! ففي لقطة (قرار)، العنوان يُشبه تعميم منشور رسمي: «في اللقاء الأخير انتحى الركن القصي مُجيبا بعد أن سألوه رأيه. –لا أبيع حنجرتي» ص 93، الدهشة والمفاجأة تهزان كيان المُتلقي، هذه الجملة ستصبح هتافا يدو ي به المظلومون سمعَ الأعادي: (لا أبيع حُنجرتي)،المقاومة، الإباء، الشرف، التحدي قِّيَمٌ عُليا ملَكت أبناءَ أُمَّتي، فهي هُويتِهم التي لا ينسلخون عنها. الأديبُ (ينتقي)، و»ينتخب ما يمكن أن يُفسرَ به الحياة ويهدي به السبيل... القاصُّ الماهر يساعدنا على اجتلاء بعض النواحي المجهولة والانبعاثات الغامضة في حياتنا. ولا يُتاح للقا ص أن يرسم لنا الصورة الواقعية، إذا عمد إلى تسجيل كل ما تقع عليه عينه من وقائع الحياة، أو كل ما يتذكره منها، ولكنه يتمكن من ذلك إذا أطلق خيالَه باحثا عن الأسباب والنتائج، مُنقبا عن الأفعال وما يُتوقع لها من ردود وأصداء». (ماذا لو) صار الطموح للعلاء سيرةً لأبناء أُمَّتِّنا في الحاضر والمُستقبل، كما كان سيرةَ أجدادنا السابقين، أصحابِّ العزم والمروءة، الشرف والأصالة، ومكارم الأخلاق؟ إذا القوم قالوا: مَن فتىً خِّلتُ أنني عُنيتُ، فلم أكسل، ولم أتبلَّدِّ (طرَفة بن العبد) سمير الشريف يُقاسي عناء الغربة، وينخر عظامه صقيعُ الوحدة بشعورِّه أنه أجنبيٌّ غريبٌ عن تراث أجدادنا العظماء السالفين: «في صقيع الوحدة، غزته أضواء المدينة، ضربت وجهه سكاكينُ العاصفة، نُدَف الثلج تستبطن جراحَ روحه الغافية، يد الماضي تدقُّ أبواب الذاكرة ومازال يتحسَّر على آخر وجبة كاد أن ينساها. ص 14. الكاتبُ يُشير بهذه اللقطة الفنية الموجزة إلى تجربةِّ أبناء الجيل الجديد، إذ انفصم عن جِّلْدِّ آبائه وأجداده الذي كان يُقيم عودَه سويا، ً يغذوه بالحياة، كنّى عن ذلك بـ(الوجبة)، كاتبنا يملك الإشارة إلى حياة أجيالٍ ببضعة أسطر، ويبث الحياة في اللقطة التمثيلية بتجسيد المعاني فيها: (ندف الثلج تستبطن جراح روحه الغافية)، (يد الماضي تدق أبواب الذاكرة). التجسيد والحركة للمعاني يهبها حيوية الكائن الحي، ويقذف فيها خِّصالَ الروحَ الباقية الأصيلة السامية، التي تبقى مدى العصور، على اختلافها. أسلوب الإشارة إذ تُغني عن العبارة الصريحة ينتظم بناء الكاتب في إبداعه هذا، يصف فِّعلَ تلكَ الرُّوح المندمجة بأصالة إرث الأجداد، وتاريخهم المَجيد: «في ليلة العيد، لملمت أنفاسهم، وضحكاتهم، وغفت» ص 36، التركيز على صياغة الفعل بالزمن الماضي: (لملمت، غفت) دلالةٌ على إنجاز غايتها التي إليها تسعى: (تحقُّق وقوع الفعل) دلالة قدرتها على الوصول، وإحراز الهدف، إنها تجمع شتات إرث السَّلف، فترتاح بأنها تُقيم على أصالتهم، تنتمي إليهم، ولا تنسلخ عنهم بحال. العنوان: الكاتب يختار لإنتاجه الأدبي عنوان: (ماذا لو؟!) صيغة السؤال تستفز المُتلقي للإجابة عن تساؤلات النص الأدبي، إن الكاتب يقترح على القارئ مشاركته في الإبداع، باقتراح الحل الأنسب، بتأمل إيحاء الكاتب، والإضافة فوقه، لإعلاءِّ البناء، (ماذا لو؟) هذا السياق التركيبي يحمل طابع (الرَّجاء) في اقتراح مَخرجٍ من الأزمة الحضارية التي تتحد ى هُويَّة الأمُّة، تعدُّد الاقتراحات وتنوعها دلالةُ خصب وتألُّق فِّكرِّ الباحث الأصيل المُجدِّد. الواحدُ منا لا يُلغي الآخر، لقد وحَّدتنا المِّحن: فإن يكُ الجِّنسُ يا ابن الطلح فرَّقَنا إنَّ المصائبَ يجمعن المُصابينا (أحمد شوقي) فـ(مدفنٌ) واحد (مقبرة) واحدة جمعت عظامنا، على اختلاف توجهاتِّنا، وفلسفاتنا، ومذاهبنا، وانتماءاتنا الحِّزبية والسياسية: «اجتمعت الجثث في المدفن الجماعي بعد أن أتعبتها المسافات، رائحة التراب المُبلَّل بالمطر تلتصق بأجسادها، ديدان تتجمَّع مُسرعة على غير هدى، على قيد صحوٍ تبادلوا الحوار. -لا تقترب، وضعنا الاجتماعي لا يسمح، كنتُ من متقاعدي الدَّرجة الخاصَّة، تجاوز راتبي الخمسة آلاف. -الحق معك، راتبي لم يصل الثلاثمائة. ردَّ الثالث بغيظ - باعدت بيننا الحياة وساوت بيننا بنزع أجهزة التنفس، لماذا لا نُطلِّقها صرخةً مُدَوية؟» ص 13. غيرَ أنَّ الهدف واحد، هو صناعةُ تمثال المجد والنصر والبسالة، صناعةُ الحياة الجميلة (رمز البقاء والاستمرار: الإيجابية حتى من آثار الدمار)، وهذا هو التحدي: «ينزل الصبية بخطواتٍ حذرة من أطلال بيوتهم، يتنفسون رائحة الموت، يلتقون في هيكل الشارع بلا كرات، يجمعون القذائف ويصنعون تمثالا « ص.11 كتابةُ الأديب إحياءٌ للكلمة، إيقاظ لمسيرة النضال والفداء والتضحية: «الشهيد الذي سُجن في إطارٍ مقابل الباب الرئيسي، طعنه الملل، نزل معتمداً على ساقه المُصابة، بلَّل خِّرقة، وصعد، يمسح الغبار عن أطراف الصورة» ص 19، ميزة فن الكاتب الأقوى هي: العناية بالتفاصيل الدقيقة، ذات الدلالة العميقة، (سُجن في إطار مقابل الباب الرئيسي): لقد غدت صورة الشهيد (رمزاً) يوحي للجيل القادم بسيرة سلَفِّهم، التي لا ولن تزولَ عنهم، ستبقى بألقِّها ووميضها (يمسح الغبار عن أطراف الصورة)، والغبار إنما يعلق ب(أطراف الصورة)، ولات له أن يبلغ (صميم) أو (عمق) أو (أصل) الصورة، لأنها حقيقة لا وهم ولا خيال! التصنيف الأدبي: الوعي العالي بحقائق الكون في فِّكر الأديب - إضافةً للإحساس الصادق بالمشاعر الإنسانية الدفاقة - يستغرقان التشكيل الفني، للتعبير عنهما وصياغتهما على أكمل وجهٍ، وأجمل هيئة. التشكيل الفني لا يقتصر على جنسٍ أدبيٍ واحد، بل هو يوائم بين أجناسٍ عديدة، بسلاسةٍ وانسجام، أسلوب القَص هذا مناسبٌ لروح العصر الحديث... القصة هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة، التي لا تهتمُّ بشيء أكثرَ من اهتمامها باستكشاف الحقائق من الأمور الصغيرة العاديّة المألوفة». القصة القصيرة وحدة مستقلة لها كيان ذاتي، لا يمكن تجزئته إلى بناء ونسيج»، إنها أشبه (بالومضة)، (اللقطة) التي تحظى أن توحي بـ(المعنى الكلي) باستخدام إشارات بسيطة، بالغةِّ الدلالة، واسعة الامتداد عبر الزمان القديم والمعاصر، قد تتجلى في: (مشهد تمثيلي، صورة، حكاية، تأمُّل فلسفي). فنُّ قاصنا موجَزٌ غايةَ الإيجاز (قصص قصيرة جد اً)، تصل في بعض اللقطات إلى جملة سؤالٍ حسْب: «هل اشتاق المسيرُ للخطى أم اشتاقت الخطى للطريق؟» ص 28، ومثل ذلك: «ماذا أصاب المدينة التي يفتش الحائرُ فيها عن حيرته؟» ص 31، أو جملة مشهد: «خرج من كادر الكاميرا في المقابلة الأخيرة، لِّيلحق ضميرَه الهارب» ص 35. هذه الجمل تفتح في ذهن القارئ الأريب آفاقا واسعةً للتأمُّل، فتُضيف موهبة القارئ إلى موهبة الكاتب، لِّنحصلَ على عالَمٍ رَ حْبٍ من التأويلات...واسعٍ يمتد دون حدود. (تداخل الفنون) سِّمةُ فن كاتبِّنا، كتابُه لا يقتصر على جماليات القصة وحدَها، إنه يجمع –إلى فنيات القصة- سماتِّ فن: الحكاية، الشعر، التاريخ، الرَّسم،...، يأخذ الكاتبُ من هذه الأجناس الأدبية السمات التي تخدمُ إبداعَه، ولا يلتزم بكافة شروطها، يستوقفنا عنوان: (حكاية)! الكاتبُ يعمَد إلى مفاجأةِّ المُتلقي، الحكاية تمتدًّ في العديد من الصفحات، الشخوصُ فيها كثيرة، الزمان محدَّد، والمكان يحتلُّ مساحةً أساسية وهامة من بنية الحكاية، إلى جانب الأحداث وتطورها، إلى حدٍ تصل فيه إلى الذروة، لإحداث العقدة، ثمَّ يكون الحل. لكن (حكاية) سمير الشريف -في هذا الإبداع- تمثلها أسطرٌ معدودة، تصف وفاة امرأةٍ تدين برسالةٍ تؤمن بها، وتُقيم على تلقينِّها للأجيال القادمة، يختم الكاتبُ (المشهد) بقوله: «رحمَ اللهُ امرأة كانت وطنا ، وعجزت الكلمات أن تكتبَ حكايتَها»ص5 ، كم تُعيد هذه الجملة إلى ذاكرتنا قولَ نزار قباني: (إنَّ الحروفَ تموت حين تُقالُ).. التعبيرُ يُقصر عن جلاءِّ الصورة المَهيبةِّ العُظمى. تمكَّن كاتبنا –بهذه الومضات، اللمعات، اللمحات، التي تثير انتباه القارئ- من إحياء (تاريخ الأمُّة) في الوجدان، والذي عمدَ إلى جلائه بأقوى الصور، وألحَّ على تقريبِّه بأشدِّ العواطف فعاليةً، لِّيسمو –القارئ- برؤاه الرَّاقية إلى عالم المُثل العليا، إذ يستوحيها وجدانه المُلهَم الفطِّن، ويستنتجها تفكيره الإبداعي، فميزتَها ألا تأتي مباشرةً، بل بمزيدٍ من الإمعان والتأمُّل وحوار النص الأدبي، لِّما في البحث والكشف عن المجهول من لَذةٍ ومُتعة، القارئُ يتلقى -في هذا الإبداع- سؤالا ، فهل يُحسِّن الجواب «أمام الشماعة التي تؤجلين عليها أمنياتِّك، وتُعلقين ما تبقى منكِّ،
وقفتِّ بخشوع. تنهدتِّ قبل أن تزفري بحُرقة: -هل خلقتُ لأنحني، أم أنحني لأعيش؟ وظلَّ الجوابُ مُعلَّقا» ص 38.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-11-2023 08:03 مساء
الزوار: 487 التعليقات: 0