الشَّاعر الدُّكتور إبراهيم الكوفحي... ذوَّاق للفنِّ والجمال
عرار:
محمد عبد الكريم غريز
أن تكونَ ذوَّاقًا للشِّعر ليس بالأمر السَّهل، وعندما أقول ذوَّاقًا أعني قدرة المتلقِّي على تمييز جيِّده من رديئه عبر الأذن الموسيقيَّة سماعًا أو الَّلحن لسانًا، وهذين الأمرين يجعلان من محبِّي الشِّعر وقرَّائه أن يقع في اختياراته لمن يقرأ، وذات يوم سعدتُ بتسلُّم نسخة من (الأعمال الشِّعريَّة) للشَّاعر والنَّاقد والأديب والمٌحقِّق صاحب الحسِّ والذَّوق الرَّفيع، وأستاذ الأدب والنَّقد في الجامعة الأردنيَّة الأستاذ الدُّكتور إبراهيم الكوفحي، وما إنْ تلقَّفته حتى شرعتُ بقراءة أشعاره الَّتي نسجها بريشة فنَّانٍ مبدعٍ، بارع في اختيار المفردات الجزلة الَّتي تحمل مدلولات جماليَّة وفنيَّة بأبعادها، ذات وقع خاص تُؤثِّر في قارئها، ممَّا تَدفعه ليواصل ما بدأه حتَّى ينتهي من قراءة آخر بيت من أعماله. في عام ألفين وتسعةَ عشر صدرتْ أعماله عن دار الإسراء للنَّشر والتَّوزيع بطبعتها الأولى، والَّتي اشتملت على تسعة دواوين شعريَّة، وقد جعلها في كتاب واحد يحمل عنوان (الأعمال الشِّعريَّة)، وهذه الدَّواوين: (الفأس والجحيم، منبع الأحلام، في رُبى(الخُلْدِ)، وصيحةٌ في (وادي عبقر)، وأضواءٌ شاردة، وليالي العوالي، وصور، ونقوش قديمة.. على صخور (أبَّان)، وتحت شجرة التُّوت (مجموعة للأطفال)). إنَّ الشِّعر لغةُ الأحاسيس والمشاعر، والشَّاعر مؤلفًا للحياة وللكلمات الَّتي يختارها بعناية ليصف بها عوالمه الدَّاخلية ورؤاه الفلسفيَّة، ومن بين العديد من الشعراء الَّذين أثروا في عالم الأدب في العصر الحديث، يبرزُ الشَّاعر الأستاذ الدُّكتور (إبراهيم الكوفحي) بأعماله الشِّعريَّة الرَّائعة الَّتي تشكِّل مصدر إلهام للكثيرين. تنوَّعت أعماله الشعرية بين الأشعار الوطنيَّة والحبِّ والحزن والحنين والشَّوق والطبيعة وما إلى ذلك، استطاع إبراهيم الكوفحي أن يلامس من خلالها قلوب القُرَّاء بعمقِ كلماتِه وجاذبيَّتها، إنَّه يقدِّمُ صُورًا بديعةً ورموزًا معبِّرةً تأخذُ القارئَ في رحلةٍ داخل عالمِه الشِّعري. ومن بين أشعاره، يمكن الإشارة إلى ديوانه (في رُبى الخُلْدِ)، وهو عملٌ يستعرضُ فيه إبراهيم الكوفحي تفكيره العميق في رثاء محبِّيه بَدءًا من أبيه ثمَّ أخيه محمود يليهما رثائه في الأديب أبي فِهر محمود محمد شاكر، والدُّكتور حُسني محمود، والشَّاعر حبيب الزيودي، ويتناوله بطريقة تجمع بين ألم الفقد وأمل الِّلقاء في جنَّات الخُلْدِ، وهذه القصائد تجسِّد قدرة الشَّاعر على الوصول إلى أعماق الإنسانيَّة وتسليط الضَّوء على جوانبها المعقَّدة الَّتي جعلت من الإنسان الفاقد يتألمُ ويتوجَّع رغم انقضاء زمن على الفقد، ويظهر ذلك جليًّا حين رثى أباه في قصيدته (أبي) بقوله: «سلامٌ عليكم..، في رُبى (الخلدِ) موعدٌ/ لنا، وكلانا ليسَ للوعدِ يُخْلِفُ» ومن ذلك ما قاله في أخيه محمود حين كان فاقدًا للوعي إثرَ صعقةٍ كهربائيَّة في غربته معبِّرًا عن ألمه ومتأمِّلًا من الله أن تعود عافيته وذلك في قصيدته (أخي محمود): إنِّي أكابدُ كلَّ يومٍ (صعـــقـــــــــةً)/ وأبيتُ ليلي مع سَعالي البيدِ/ ما عُدْتُ أحتملُ المُصابَ، وإنَّني/ جبلٌ أدكُّ صواعقي ورعودي» علاوة على ذلك، يتجلَّى إلهام الشَّاعر في أعماله الإبداعيَّة التي تتناول مواضيع الحبِّ والعواطفِ والوصايا والحنين والشَّوق بصورة جماليَّة مؤثِّر، حيثُ وظَّفَ لغةً ملموسةً وصورًا رمزيَّةً لِيعبِّرَ عن أعمق مشاعر الإنسانِ، ويتجلَّى ذلك في قصيدته (وصايا إلى ولدي ليث) من ديوانه (منبع الأحلام) قائلًا: يا (ليثُ)، إنَّكَ قد كَبُرْتَ، فهذه/ بعضُ (الوصايا) من أبيكَ الحادبِ/ عُذرًا، فأنتَ من النَّباهةِ والذَّكا/ لكنْ رأيتُ الأمــــــــــــــــرَ ضربةَ لازبِ/ أبُنيَّ، كُن ليثًا..كإسمكَ، فالدُّنا/ في عصرنَا..، هي للقويِّ الـغــالبِ ونظَمَ أيضًا في ابنته (رؤى)، حيثُ المشاعر الأبويَّة الحانية الخائفة من الفقد: «أحبُّكِ يا زهرةً من (أبانَ)/ فكم لكِ من لمسةٍ حانيـــــةْ/ وكم لكِ من بسمةٍ حلوةٍ/ تهشُّ لها الرُّوحُ...كالعافيةْ» وإلى جانب ذلك، نجده ينتقل في أعماله إلى عالم الطَّبيعة، حيث عشقه الأبدي كما عشقه لأبنائه الَّذين لم ولن يفارقهم، فنجده يصف الجمالَ الخلَّاب للمناظِرِ والأماكن الطَّبيعيَّة ويستخدمُها كمصدرٍ للإلهامِ والسَّكينة، ومن أشعاره ما نظمه في (وادي الغَفَر) بقوله: «سرِّحِ الطَّرفَ.. (بوادِي الغَفَر)/ وتمتَّعْ بلذيذِ المَنظَرِ/ لَبِسَ العُشبَ...ثيابًا حلوةً/ ناعِمَ العطْر.. بهيجَ الزَّهرِ» ليس هذا فحسب، بل كان للأطفال نصيب من نظمه البارع، حيثُ أفرد لهم ديوانًا خاصًّا تحتَ عنوان (تحتَ شجرةِ التُّوت)، وجاء اهتمامه بهذا الشَّكل الخاصٌّ من الأدب؛ لأنَّه يساعدُ في تطوير مهاراتِ الُّلغة والتَّفكير لدى الأطفال ويشجِّع على حبِّ القراءةِ والإلقاء، فنلحظ في ديوانه هذا قد نوَّع في موضوعات مهمَّة في حياة الأطفال، منها: حبِّ الوطنِ، والصَّداقة، والمثابرة والاجتهاد، وذكريات الطُّفولة، وخلق الصِّدق وما إلى ذلك؛ لتنمو كقيم ثابتة وراسخة في أذهانهم، والَّتي تميَّزت بسهولة الُّلغة والأفكار المناسبة لفهمهم، وهذه الأشعار تتناسب والفئة العمريَّة للمرحلة التَّعليميَّة الأساسيَّة، وأرى أنْ تحظى بعناية إدارة المناهج في وزارة التَّربية والتَّعليم لتُضمَّن في المناهج الدِّراسيَّة تحت بند (قيمٌ وأخلاق)، وممَّا نظمه في هذا الدِّيوان قصيدته (أجمل شيء..)، يقول في مقدِّمتها: «أصْحُو من نومِي/ مع صوتِ آذانِ الفجرِ/ فأصلِّي.. وأُسبِّحُ مثلَ الطَّير/ أدعو ربِّي/ من أعماقِ القلبِ/ أنْ يحفَظَني.. دومًا/ وينوِّر لِي دَربي» سار الشَّاعر الدُّكتور إبراهيم الكوفحي على نهج القدماء ملتزمًا بوحدة القافية والوزن في جلِّ قصائده، في حين نجده ينظم في قصيدة التَّفعيلة لكن في جزء يسير من أعماله، لا ليثور على القديم؛ بل لينوِّع ما بين القديم والجديد، فهو شاعر تقليدي يعشق التُّراث، وتجديدي في نظمه على قصيدة التَّفعيلة، وهو بمثابة قبوله لهذا النَّوع، برع في اختيار الألفاظ الجزلة والقويَّة الَّتي تحمل مدلولات رمزيَّة وإيحائيَّة يدركها المُتلقي والقارئ الجيِّد للتُّراث، يتمتَّع بحسٍّ مرهفٍ، وذو أذن موسيقيَّة عذبه، نظم في بحور خليليَّة عشرة ضمن الدَّوائر العروضيَّة الخمس (المُجتلب والمؤتَلف والمختلف والمُشتبه والمتفق)، وهي:(المتقارب، والبسيط، والطَّويل، والرَّجز، والوافر، والرَّمل، والسَّريع، والكامل، والخفيف، والمُتدارك)، نوَّع فيها ما بين التَّام والمجزوء والمشطور، وهذا دليل معرفته التَّامة بعلم العروض والبحور الخليليَّة، وتمكُّنه من توظيف البحور والأوزان بموسيقاها الدَّاخليَّة والخارجيَّة وفق خبرته وتجربته البارعتين. بهذا، في جعبتي حديثٌ كثير لم ينتهِ بعد، ورغبتي في الكلام عن شعريَّة الشُّعراء في العصر الحديث لا يحدُّه حدّ، ويظلُّ الشَّاعر إبراهيم الكوفحي واحدًا من الشُّعراء الكبار في الأدب العربي الحديث، الَّذين برعوا في نظم الأشعار بشتَّى الموضوعات، والَّتي تمثِّل إسهامًا مهمًّا في تطوير الشِّعر العربي والثَّقافة الأدبيَّة، والَّتي تستحقّ أن تحظى باهتمام النُّقَّاد والباحثين.