بعد أن صدرت للقاص محمد مشّة مجموعة من القصص القصيرة، بدءاً من مجموعته القصصية «حبك قدري» عام 1984، و»همسة في زمن الضجيج» عام 1989، و»الولد الذي غاب» عام 1995، و»مولاي السلطان قطز» عام 2000 م، و»بائعة الكبريت» عام 2008 م، و»شبابيك» عام 2017، و»عصافير المساء تأتي سراً» عام 2019 م، يُطل علينا بمجموعته الجديدة الصادرة حديثا عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن في 96 صفحة من القطع المتوسط، تضم بين دفتيها خمساً وعشرين قصة تنوّعت عناوينها رغم وجود الخيط الدقيق الذي يجمع هذه القصص جميعا، فلا شك أن القاص قد أراد أن يلفت نظر المتلقي باختياره لعناوين قصصه، فعنوان المجموعة الذي هو عنوان لأحدى قصص المجموعة مع حذف مفردة شارع من عنوان القصة، هو المدخل الذي من خلاله يمكن الولوج منه لباقي قصص المجموعة، فعنوان المجموعة يحمل دلالات عدة بل يفتح أفق القراءة أمام المتلقي، فهو خطاب مقصود ويحمل في ذاته دلالة، فلم يأتِ اعتباطاً، فالعنوان في هذه المجموعة يدل على المكان، المكان الشعبي، فهنا يعيش الناس البسطاء، الذين يركضون وراء لقمة العيش، في هذا المكان ترى صور الفقر بكل أشكاله، الحياة الشعبية، المهن، اللباس، الحركة، المشاهد الكثيرة والمؤثرة، وقد اعتمد القاص في معظم قصصه على المشاهد الحركية التي تصوّر حياة مجموعة من الناس، يعيشون ضمن إطار واحد، حتى عنوان المجموعة جاء عمودياً ليشعر المتلقي بالاختلاف، بالإضافة إلى الغلاف الذي ظهر معظمه باللون الأصفر الذي يدل على المرض والجدب والجفاف والفقر وغيرها من المفردات، كل هذه دلالات لينتقل بنا القاص إلى حياة المخيم، حياة الفقر وشظف العيش، «مساء عودتهم مثقل بمرارة الإهانة والجوع والتعب. الكثيرون يعودون بلا عمل. تحزن نساء المخيم. ينتظرن موعد الطعام، والطعام كل يوم العدس ومشتقاته» ص6 فالقاص يصف الحالة الاجتماعي من خلال وصف بعض المشاهد اليومية في المخيم، والقاص محمد مشة من الأدباء الذي اهتموا في قصصهم ومجموعاتهم القصصية بتصوير الحركة في المخيم، حركة الناس، حركة الأشياء، حركة الحيوانات، فالبعد الاجتماعي يكاد يسيطر على معظم قصص المجموعة، بطل القصص «أحمد» نراه يتنقل من قصة إلى أخرى، ففي قصة «الذي سرق لساني» يصف لنا القاص الخوف من خلال بطل القصة الذي يركض وراء رجل ليكتشف أنه يركض وراء امرأة، ويزداد خوفه، وهو يسمع في الظلام الذي ليس له نهاية، زئير أسد، وفحيح أفعى، وينتهي الأمر به عندما يرى ظلا يشبهه على الحائط فيسرق فمه ولسانه ويظل معلقاً على الحائط « ابتسم ظلي مني سخرية، ثم قال : لقد كان هذا فمك، قبل أن تقوم بتأجيره لي. وقد أصبح الآن لي ثم قام بقطع لساني... وبقيتُ معلقا على الحائط.» ص 11 فالغرائبية التي ينتهجها القاص في الكثير من النصوص سمة تُميز هذا العمل وترفد العمل بالكثير من الدلالات والرموز. وربما كان ما يميّز هذه المجموعة عن غيرها من المجموعات القصصية السابقة ما لجأ إليه القاص من توظيف ما يسمى بالأنسنة، فقد اهتم القاص بما يسمى في النقد الحديث بمصطلح الأنسنة، فنرى القاص يأنسن الكثير من أبطال قصصه فاللوحة تتكلم في قصة «ذات الرداء الأحمر»: «أنا! كيف سأخرج من سجن اللوحة، وأخرج لسانه استهزاء بي، ثم أضاف: بل اذهب أنت. هل أنت خائف؟ قلتُ: نعم ميتٌ من الخوف، قالها صديقي وأضاف: وأنت ألست خائفا؟ - أوشكُ التبوّل في سروالي خوفا. أعتقدُ أني قلتها بصوت مسموع، فضجت ضحكة صديقي من اللوحة حتى كاد يسمعها رجل الأمن.» ص24 وأنسنة الجماد والحيوان وإبراز مشاعر الخوف والرعب عند هذه الحيوان وهو يحاول الفرار من بين يدي الجزار والمنولوج الداخلي الذي دار في نفس هذا الخروف وهو يفرُ من زاوية إلى أخرى ويرى إخوته يذبحون بدم بارد في قصة «خرفانستان». قصص هذه المجموعة تصور الواقع الإنساني لمجموعة من الناس، لفئة أدمنت الفقر والتعاسة، تصور مجتمعاً ما بكل ما فيه من قيم وقواعد ومعتقدات ففي قصة «كوراستان» نشاهد القاص وهو يصور لنا مشهداً من مشاهد الفقر الذي يعيشها مجموعة من الناس، فالطفل الذي كان يطمح لشراء كرة بخمسة قروش، واجتهد ونال وساماً ليكمل ثمن الكرة من جيب والده الفقير يجد أن الكرة أصبحت بستة قروش، فالقاص أراد أن يعكس لنا ظروف المجتمع وما يمر به من صراعات وألم نتيجة الفقر المدقع، وهناك الكثير من الكتّاب العالمين الذين تناولوا فكرة الفقر في أعمالهم، على سبيل المثال الكاتب الروسي دوستويفسكي أحد أهم الكتاب الذين تناولوا حياة الفقراء؛ حيث أنه كتب عدة روايات تحدث فيها عن الفقراء ومن أشهرها رواية الفقراء، والروائي الفرنسي فيكتور هوجو كتب رواية البؤساء، ورواية عناقيد العنب للكاتب الأمريكي جون ستاينبيك، رواية الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري... وغيرهم كثير . وفي قصة (لوحتان وامرأتان) يستمر القاص في رسم مشاهد الفقر والبؤس، وبجمل فعلية قصيرة جداً، يُدخلنا القاص إلى جو البطل المهزوم نفسياً، موضحاً حالة بطل القصة، مصوراً لنا مشاهد ولوحات تُعبر عن حالة الفقر والبؤس، ويُنهي القاص لوحته الأولى ببطل القصة وهو يدس نفسه بالفراش ويحلم بلقاء الفتاة (لا أسم لي) ثانية «عاد إلى غرفته اليتيمة المظلمة. تذكّر أن لا إنارة فيها. دسّ جسده في الفراش. وراح يحلم بلقاء (لا اسم لي) ثانية.» ص 42 تنوّعت لغة وأساليب السرد لدى القاص ما بين السرد بجمل قصيرة ولغة بسيطة، إلى توظيف الحوار في الكثير من النصوص، والمنولوج الداخلي لرسم بعض الشخصيات وإظهار الانفعالات النفسية لها «شارع سقف السيل» ليست مجرد لوحات رسمها القاص بريشته التي تقطر حزناً لما يرى ويشاهد، بل هي حكايات من عمق الواقع المعاش، قدمها القاص « محمد مشة» بأسلوب وقوالب جديدة غير تقليدية خالية من التعقيد تحتاج إلى القليل من الجهد لفك رموزها أحياناً، وفي معظم هذه النصوص كان القاص يترك مجالاً للمتلقي للمشاركة والغوص في تفاصيل تلك النصوص، ويظل شارع سقف السيل هو العنوان الأبرز في مجموعة اتخذت من وصف الحالة الاجتماعية، بما فيها من همٍ وفقر الموضوع الأكثر أهمية والأكثر وضوحاً.