محمد ياسين شاعر الجنوح المؤقت والاقتراب من الحداثة
عرار:
إبراهيم خليل بعد ديوانيه (هي رغبةٌ.. لكنما) 2002 و(ما قالت الأفلاك) 2007 تصدر للشاعر محمد ياسين مجموعة شعرية جديدة بعنوان «جنوحٌ مؤقت» (الدار الأهلية عمان: 2016) فالشاعر الذي درس الاقتصاد يواصل الكتابة منذ سنوات، معبرًا في ديوانه هذا تعبيرًا لافتا للنظر عن علاقة الشاعر -عامة- باللغة، فهي، في جلّ الأحوال، لغة كتومة لا تفصح بل تخفي المرمى، وتخبئ المعنى، وكأنّ هذا الشاعر يريد تأكيد الرأي الذي يقول به كثيرون، وهو غلبة المجاز على لغة الشعر، لا الحقيقة. ففي واحدة من قصائده لا يخفي هذه العلاقة السرية بينه وبين اللغة: على حذَرٍ أعبُر البحرَ/ أجمع بعض الكلام وأعجنُه بدمي/ ثم أبني القصيدةَ سطرًا فسطرًا/ على شاطئٍ لا يُزار/ أخبئُ حرفًا يضيءُ/ وحرفين كادا يُسرّان أمرًا/ طواهُ الغيابْ/ وحرفاً يئنُّ، وحرفا يحِنّ، وحرفا يحارْ/ وأخْصِفُ بعْض المجاز / أواري به شمْسَها/ فهذا المدى من بريقٍ يغارْ ص(187- 188) فعلى الرغم من أن الشاعر، على وفق ما يقول، يبني قصيدته سطرا فسطرًا، إلا أنه لا ينثني يلجأ للمجاز. والمجاز، من حيث هو تحرُّر من علاقة اللفظ بمعناه الحقيقي، وإرادة المعنى المتخيَّر، يساعدهُ على إخفاء بعض ما فيه من: جنون تارة، ومن ارتيابٍ، وشكوكٍ، تارةً أخرى. وهذا يحيل الشعرَ في بعض الأحايين إلى بوح، وَهَذْي، يوهم الآخرين بما يرمي إليه الشاعر، أو يخيَّل إليهم أنّه يعنيه. ويومئ إليه، فالقصيدة لا تُظهر، وإنما تُخفي: لا ضيْر أن أرِدَ المجاز/ لكيْ أخبئ بعض ما بي/ من جنون وارتيابِ/ لا ضَيْر أنْ أجتاز عمرًا/ قُـدَّ من تعبٍ وأمضي/ مستردًّا ما تبقى في الغيابِ/ لا ضيْرَ أنْ أهذي، وتجنحُ بي طيور الليلِ/ تجنحُ بي إلى يسار الأرضِ/ للجهة التي ما جاسَها وجَلٌ، ولا/ خُطَّتْ بيوم في كتاب. وضوحٌ معْلن: فالذي يُسْتخلص من موقف محمد ياسين من معاني الشعر أنه كتابةٌ لا تخلو من غموض، ولذا لا ينبغي لمن يريد التواصل مع قصائده ذات « الجنوح المؤقت « من أنْ يتنبَّه لما بين السُطور، وما هو مخبوءٌ تحت قِشْرة النص. وهنا يجدرُ بنا أنْ نشير لقصيدة استهلَّ بها الديوان، وهي قصيدة « أنتِ بدايةُ الكلام». قصيدةٌ لا ينْسحِب عليها ما يؤكده في الشواهد المذكورة، فبدلا من أن يُهرع لجدليّة التجلي، والخفاء، نجده يُهرع للتجلي، والوضوح المعْلن، فالسيدة التي تتكلم هي الأم، والمتكلم فيها هو الابن، وتشير إلى هذا كلمة « أيا ولدي « وما يتوالى بوصفه قولا صادرًا عن الأمّ لا يخبئ، ولا يُخفي، بل يعِظُ، وينصح بما هو شائعٌ، وسائدٌ مألوف: أيا ولدي/ لا تهُنْ في مهبِّ الحياة/ ولا تبتعد عن مسار الصواب/ فما دمتَ في روْضة اللهِ تمضي/ ستكسِرُ حولك كلّ سهام الكروب/ أيا ولدي/ لا تكنْ عاصفا كالرياح(ص13) فهي تريده أن يكون ليّنا، خفيفًا، كالنسيم، لا عاصفًا مثل ريح، والأبيات - بصفة عامة - لا تعدو كونها نصائح، ومواعظ، فتريده ألا يهون، وألا يضعُف أمام مصاعب الحياة، وألا يرتكب من الأخطاء ما ينمّ على معصية، وألا يخرج عن طاعة الله، ومرْضاته. وهي بهذهِ المواعظ تحصِّنُه بالرضا الذي يُبْعد عنه، ويجنّبهُ، المصائب. فهو شعر يمكن وصفه بالنظم المباشر التقريري الذي لا ينسجم مع توْق الشاعر للمَجاز، والكناية، والاستعارة، والتعبير غير المباشر عن المعنى. وفي قصيدة أخرى نجده يبتعد قليلا عن لغة الواعظين، باعتماده بعض التراكيب التي يأتلف فيها اللفظ ذو المعنى، مع آخر له معنىً آخر، فينشأ منهما تعبيرٌ جديدٌ كصخرة المستحيل، أو أرجوان الزمن: وحيدًا على صخرة المستحيل أقمتَ/ وشيدتَ عرشًا يكلّله الغارُ / سطرتَ بالأرجوان زمانكَ/ طوَّعْتَه مُلكَ أمركَ/ أشهدُ أنك ما زلتَ/ ترفعُ راية نَصْرٍ/ تنادي/ يثير الصدى ما تبقّى من الحبِّ بي/ ثم أدنو إليكَ .. اردّ بكل فَخارٍ/ - أبي!! (ص21) فلسنا نجد إلا موقعين اعتمد فيهما ما وصفه سابقًا بالتعبير المجازي، القائم على إخفاء المدلول المباشر لصالح الإحساس، والشعور، فما عدا صخرة المستحيل، وأرجوان الزمان، نظمٌ يحتاج لما يعْدِلُ به عن النظم، ونثر لا يقترب به من لغة الشِعْر، الذي وصفه فيما تقدَّم من شواهِدِهِ. ويبدو أنَّ الشاعر محمد ياسين، الذي لا نعرف عنه إلا القليل، يخاطب عقيلته في إحدى قصائده، وهذا شيءٌ جديد، إذ قلما ينحو الشعراء في العصر الحديث هذا المنحى، مع أن الجاهليين، ومن تلاهم من الإسلاميين، كانوا يخاطبون الزوجة، ويردّون عليها اللوم، لما يتّصفون به من سخاءٍ، وإسراف، إلا ما كان من تكرار نزار قباني مخاطبته بلقيس. فالشاعر محمد ياسين ينعت (أم مالك) بأوصافٍ لا تكون إلا في الزوجة، فهي أنيسة عمره، وشريكة دربه الطويل الذي طوياه معا بالحب، وتعاونا فيه على الهموم، وأماطا عن جبهة العمر غبار المشقَّة. ولهذا هو وفيٌ لها وفاءً شديدًا لم يجنح، وإن فعل، فإن ذلك لا يعدو أن يكون جنوحًا مؤقتا، لا يدوم: أيا غادةَ الروجِ/ يا ألَقًا في سماءِ القصيدة/ يا هديَ من هامَ في البيدِ خلف السراب/ تعاليْ، فإني جنَحْتُ قليلا/ وخبأتُ بعضَ جنوحي(ص27) القدس مسجدًا وصخرةً: وقد يظنُّ القارئ، وبعضُ الظن إثم، أنّ الشاعر ياسين لا يهتم إلا بالشأن الخاص، ولا يعنيه ما يُعنى به الشعراء الذين يثيرون في شعرهم إشكالات النضال، والكفاح، والحنين إلى الوطن، لا سيما وأن في سيرته ما يشير إلى مكان ولادته، وهو رام الله، فلا ريب في أنه يحنُّ للوطن الذي سُلب، واحتلَّ، على أيدي النازيين الجدد من دعاة صهيون. وفي هذا المقام تستوقفنا قصيدة يستوحي فيها المشاعر، والأحاسيس، من القدس؛ مسجدا، وصخرة: أتوا من شتاتِ البلاد/ يجوسون أحلامنا/ يحصدون بقية آمالنا/ وها هي أسرابُهم في المدى/ كالجراد يغطّي سناء المدينة/ تحنّ لسجدة صبٍّ، بمسجدها/ إلى صخرة شرّف الله فيها/ لسور البراق لقديم(ص47) وهي قصيدة توحي بما لديه من توْق لبيت المقدس، ومسجدها الأقصى، وصخرتها المشرفة. بيد أن القصيدة ليست بقوة قصيدته عن الأم، أو الأب، أو الزوجة، أم مالك. ولا هي بقوة قصيدتيه اللتين تحدّث فيهما عن مذهبه الشعري القائم على جدلية الإخفاء، والإظهار، أو الحقيقة والمجاز، فلا يستقيمُ قوله شرّف اللهُ فيها لسور البراق، أو لسجدةِ صبٍّ لمسجدها، فإلى صخرةٍ شرّف الله فيها، فالعبارات تبدو مفككة، تفتقر إلى التماسك، والترابط، وحتى للانسجام. وهذا ما تجنَّبه في قصيدة بعنوان « على بُعْد حرب « ففيها مقاطع أشار لكلٍّ منها بأحد الأرقام المتسلسلة من 1- 5 ففي الرابع منها يبشِّر بالنصر: هو الانتصارُ / لشعبٍ تناثر ملءَ الجهاتِ/ وما مرّ من جهةِ الحربِ/ لكنه الانتصارْ/ هو الإنهيارُ لمن قال: عودوا/ ومن كان في رقعة الليل/ بيدقَ شُؤْوم يُدار(ص70) وهذا الحسّ النضالي، شبه الثوري، يعاوده في قصيدة أخرى، بعنوان «قممٌ بوجه الريح» ولا ندري ما الذي يعنيه بهذه القِمَم، إلا أن يكون قد أراد المقاومين الين يتصدون للاحتلال في فلسطين، وفي غزةَ على وجه خاص. فالشاعر يقول بلسان هؤلاء المقاومين: إنهم كتبوا أسماءَهم في سِفْر البطولات قبيل أن يرتقوا شهداءَ في الأعالي، يطاولون بهاماتهم، وجباههم المرفوعة، نجومَ السماء البعيدة: بغزةَ/ قلنا الذي لا يقال/ كتبنا بسفر البطولة أسماءَنا وارتقينا/ بغزة كان الشموخ لنا والإباء/ وعزّتنا طاولت أنجمًا لا تطال/ صعدنا على دمنا/ نوقظ الفجر من غفوة/ نطرق الأْفق بأشلائنا/ ونشقّ المدى كيْ يلين المحالْ. شهلا الكيالي: وثمة شيءٌ آخر لافتٌ للنظر، وهو رثاء الشاعر محمد ياسين للشاعرة شهلا الكيالي(1942- 2006)، فهي شاعرةٌ فقدها القراءُ، ومحبو شعرها في 26/ 11 / 2006 فمن دواوينها «خطواتٌ فوق الموج» 1992 و» كلمات في الجرح» 1985 و» انقطعت أوتارُ الصمت» 1987 و» وجهي الذي هناك» 1997 ولها نحو ستة كتب للأطفال، بعضها قصص، وبعضها أشعارٌ وحكايات. وإلى هذا يشير محمد ياسين في رثائه الحزين، قائلا: تركتِ الذي سوفَ يبقى/ بليلِ الحياة مضيئا/ يجدِّدُ فينا الحياة/ مواقف عزٍّ، وشعرًا تدفَّق بالحب/ للأرض للأوفياءْ/ فكان الردى حافلا بالمعاني/ وكان المدى طافحا بالبريق. نقول هذا، ونحن لا نطمئن لاستخدامه، ولا نأنس، لكلمة الردى، لأن هذه الكلمة توحي بمعانٍ غير المعاني التي يريدها الشاعر، فهو كالذي لا يعترف بأن الشاعرة تموت، ولكن كلمة « الردى « تتضمَّن معاني الموت في الحرب، أو في مأساة، كالذي يتردى عن حائط، أو ما يشبه ذلك، لذا قيل في مهاوي الردى، أما موت الشاعر أو الشاعرة، وهما يتركان ما يخلدان به، فلا يوصف بالرَدى. لذا قال الشاعر: ومن رام موتا شريفًا فذا. علاوة على أن الشاعر، في رثائه للكيالي، يتظاهر بمظهر الشاعر القديم الذي لا يفتأ يتحدث عن الوفاء، والعزّ، والكبرياء، ولو ذكر إلى جانب ما ذكر شيئا عن الكرم، والبذل، والسخاء، لقلنا إنه شاعر تقليدي بجلِّ ما في الكلمة من معنى. بيد أن الشاعر ياسين أنقذ قصيدته هذه في المقطعين 5- 6 فترك فيهما للمتكلم أن يتخلى عن تلك التقاليد في الرثاء ميَمِّمًا وجهه شطر العراق تارة، وشطر القدس، وفلسطين، واللد - مسقط رأس الشاعرة الكيالي - تارة أخرى، وفي هذا يجد القارئ إشاراتٍ غيرَ مباشرة لهيام الفقيدة بعراق العروبة، عراق التصدي المتين للصهيونية، والإمبريالية، الأمريكية، والرجعية العربية: عراق الثورة، وصدام حسين: أيمّم شرقا لأرض العراق/ وأسأل عنك/ فيدفق دجلةُ بالخير والحبّ/ يرتعش النخلُ/ يعلوه نفْحٌ من الذكرياتِ/ تضيءُ الشوارع شوقا إليك/ يعجّ المدى بالطيوف/ وأسمع همسًا بليل العراق/ يردِّدُ شهلا. وها هنا أيضا لا نأنس لاستخدام الشاعر هذه اللهجة في العراق الحزين، والعراق الذبيح، فمثل هذه النعوت لا تليق بشعر يمجّد العراق الأبيّ. ولا نجد ما يشجّع على استحسان كلمة الطيوف، وهي جمع طيف التي اعتدنا على جمعها أطياف. وإنْ كانَ هذا مقبولا قياسًا على ضيف تجمع ضيوف، وأضياف. إلا أن اللغة- في نهاية المطاف- يُراعى فيها الذوق أكثر من القياس، وإن كان الصرفيون والنحاة يغلّبون القياس على غيره، فقيل: إنما النحْوَ قياسٌ يُتَّبع. والشاعر لا يضنّ على الفقيدة بصورة أخرى هي صورة البيت الذي ما فتئ يدعو الشاعرة للعودة إلى المنزل الذي أخْرجت منه ظلما، وقسرًا، فالبيوت، أو المنازل (لك يا منازلُ في القلوب منازلُ)
تحنُّ إلى أهلها مثلما يحنّ الأهل إلى البيوت: ألمح بيتا على بعد فجر/ ترفّ القصيدة سعيا إليه/ تحوم بشوق عليه/ تردّد شهلا. وكنا نؤثر أن يقول الشاعر في البيت الأخير: يردّد، لا تردد، فيكون البيت هو الذي يردد، لا القصيدة. إذ لو فعل هذا، لكان بفعله قد أنْسَنَ البيت، وبثّ الحياة فيه، وجعله توّاقا لعودة من غادروه قسرًا، وقهرًا، عام 1948. صفوة القول هي أن الشاعر محمد ياسين، على ضوء الإشارات التي توحي بها هذه القراءة، شاعر يحاول الاقتراب من الحداثة، لكنه يواجه في سبيل ذلك بعض الصعوبات التي يمكن أنْ يتجاوزها بيُسْر، فذخيرته من المعرفة بالشعر تؤهله لتحقيق ذلك، والمضيِّ في تجاربه خطوةً أخرى أكبر بعدًا، وأطول شأوا. *تنبيه: تكرر لدى الشاعر استعماله كلمة (سويا) بمعنى معا، أي: together في عبرنا التخوم سويا، وهذا خطأ شائع، لكنه فاحش. فالسوي هو الذي يتمتع بسلامة العقل والبدن، ولهذا جاء في القرآن الكريم قوْله: (فتمثل لها بشرا سويا). أي لا يختلف عن الإنسان في شيء. وقال: (آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاث ليالٍ سويا) قال المفسرون: أي: صحيح الجسم، معافى، لا تعاني علة، أو آفة تمنعك الكلام. وفي الدارجة يقولون فلان غير سوي، أي: في عقله لُطف. وبديل هذه الكلمة معًا: أي: عبرنا التخوم معا.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 20-09-2024 06:48 مساء
الزوار: 109 التعليقات: 0