د. محمد عبدالله القواسمة تتمثل الحقيقة في غزة بمهاجمة الجيش الإسرائيلي من البر والبحر والجو جميع مدن القطاع، انتقامًا لما حدث له في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ قام بهدم البيوت على رؤوس سكانها وتدمير المدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمستشفيات والمخابز، ومنع الطعام والدواء، وقطع الماء والكهرباء عن مواطني غزة في أبشع هجمة بربرية في الإبادة والتطهير العرقي عرفتها البشرية، حيث ترك الأطفال والنساء تحت الردم، ومنع رجال الدفاع المدني والإسعاف من الوصول إليهم. وفي محاولة لإخفاء هذه الجريمة وتغييب الحقيقة لجأ الاحتلال إلى تسخير آلته الإعلامية في الكذب والتزييف، وبث سردية اختلقها بوجود قوى المقاومة ومراكزها في الأماكن المدنية، وعلل جرائمه بحقه في الدفاع عن النفس، مع أن هذا الحق ليس له، بل للذين وقعوا تحت احتلاله طوال 75 عامًا، ولم يكتف بذلك بل وقف في طريق كل من يكشف عن جرائمه ويرفض ما يقوله، وبلغ حدًا في معاداة الحقيقة بتدمير المؤسسات الإعلامية، وقتل الصحفيين وعائلاتهم، وتعريض بعضهم للاعتقال والرقابة. فقد أعلن منتدى الإعلاميين الفلسطينيين أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر مؤسسات إعلامية كثيرة في غزة، منها: وكالة شهاب، ومكتب صحيفة الأيام، ومكتب اليوم الإخباري، وشركة «إيفينت» للخدمات الإعلامية، ووكالة معا وسوا، وإذاعة القرآن الكريم، وإذاعة بلدنا وغيرها. أما الصحفيون فبلغ عدد الذين استشهدوا في قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول حتى الآن، أي في شهرين ونصف تقريبًا 90 صحفيًا. وهو عدد، كما ترى مؤسسة منتدى الحرية، التي تدافع عن حرية الصحافة ومقرها واشنطن أنه يفوق عدد الإعلاميين، الذين قتلوا في حروب كثيرة: ففي الحرب العالمية الثانية التي استمرت ست سنوات (1939-1945) قُتل 69 صحفيًا. وفي حرب فيتنام التي استمرت 20 عامًا (1955-1975) فقد حياته 63 صحفيًا، وفي الحرب الكورية التي دامت ثلاث سنوات (1953-1950)، قُتل 17 صحفياً، وفي الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير/ شباط 2022 قُتل 17 صحفيًا أيضًا. هال دومينيك برادالي، رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين، العدد الهائل من الصحفيين الذين قُتلوا في الحرب على غزة فقال:» أدافع عن حقوق الصحفيين منذ أكثر من 50 عامًا، ولم يسبق لي أن رأيت دولة تقتل هذا العدد الكبير من المراسلين في مثل هذا الوقت القصير». لقد تعمد العدو قتلهم مع أنهم يضعون إشارة «صحافة» على ملابسهم. ويتمتعون بالحصانة بموجب القوانين الدولية، وقتلهم يعد جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي. حتى إن منظمة مراسلون بلا حدود طلبت من المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم الحرب المرتكبة ضد الصحفيين خلال العنف الإسرائيلي في فلسطين. أما عن استهداف عائلات الصحفيين بالقتل خلال تلك الفترة فنذكر، على سبيل المثال، أن الجيش الإسرائيلي، دمر في 13تشرين أول منزل المصور الصحفي بوكالة الأناضول علي جاد الله في غزة، وقتل أفرادًا من أسرته منهم والده وإخوته. كما استشهد في 25تشرين أول عدد من أفراد عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح في قصف المنزل، الذي نزحوا إليه في مخيم النصيرات وسط القطاع، من بينهم زوجته وابنه وابنته وحفيده البالغ من العمر سنة ونصف. وأدى القصف الإسرائيلي في 31 تشرين أول لمنزل عائلة محمد أبو القمصان في مخيم جباليا إلى استشهاد 19 شخصًا من العائلة، بينهم والده واثنتان من أخواته. كما استشهد في 6 كانون الثاني والدا مراسل الجزيرة مؤمن الشرافي، وعدد من أشقائه وأطفالهم بقصف الاحتلال منزلهم في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة. مع تلك الجرائم التي اقترفتها إسرائيل بحق الصحافة والصحافيين فإنها لن تطمس الحقيقة؛ ولن ينتصر نقيضها الكذب؛ فالحقيقة تملك قوة ذاتية، قد يستطيع أعداؤها إخفاءها لكن إلى حين، فلا تلبث أن تنجلي كالشمس ليحاسب من حاول تغييبها، ويعود الحق إلى أصحابه. هكذا بعد مدة قصيرة من العدوان بدأت الحقيقة تتوهج؛ فهبت المسيرات والتظاهرات في أنحاء العالم حتى في قلب العواصم التي تدعم العدوان. لتكشف لا ما يجري من جرائم في غزة فحسب، بل لفضح هذا الكيان الغاصب أيضًا بما يتصف به من السادية والبربرية والعنصرية والاستعلائية والغطرسة والنظرة الدونية للبشر. وهذا يُظهر ما تمثله الصهيونية من خطر ليس على الفلسطينيين فقط، بل على شعوب الأرض قاطبة، وعلى البشرية جمعاء أيضًا. فعلى ضوء ذلك يجب أن ينتبه العالم إلى هذا الخطر السرطاني الذي يتهدد المصير الإنساني، كما يجب عليه أن يدين كل أشكال القمع والقتل للصحافة والصحافيين، ويحاسب الكيان المحتل على ما اقترف من مجازر.