يتواتر استخدام ألفاظ (فتى، فِتية، فِتيان، فُتوّة) في مصادر الثقافة العربية، للدّلالة على حداثة السن أو الشجاعة والاعتداد بالذات أو التحلّي بمكارم الأخلاق. وعلى الرغم من أنّ مفهوم الفتوّة في المجتمعات العربية الحديثة، قد تعرّض لإزاحة دلالية سلبية جرّاء ارتباط القوة البدنية بسوء الخُلُق، فإنّ هذا المفهوم قد ظل منذ العصر الجاهلي وحتى أواخر العصر العثماني، مقترناً بكثير من المواصفات الإيجابية. وقد أبدع روائيّ العربية الأكبر نجيب محفوظ، في تجسيد هذا المفهوم وتجلية أبعاده المادية والروحية والفلسفية والسياسية أيّما إبداع، من خلال رائعته (أولاد حارتنا)؛ فمتى برزت الحاجة الاجتماعية للفتوّة وكيف تطوّرت حتى بلغت ما بلغت؟ تزامن استيلاء البويهيين على بغداد وانحسار سلطة الخلفاء العباسيين (334 هـ)، مع تصاعد سطوة الشطّار والعيّارين إلى درجة أنهم صاروا يتقاضون أتاوات معلومة من الوجهاء والتجار لقاء ضمان أمنهم وأمانهم. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلها بعض الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة على امتداد قرنين وأكثر من الزمان، لاحتواء هؤلاء الزّعران الذين غدوا السلطة الموازية لأي سلطة تبسط نفوذها على بغداد بوجه خاص وعلى العراق بوجه عام، فإنّ شوكتهم ظلّت تقضّ مضاجع العامة والخاصة على حد سواء. لكن التحوّل الجذري الذي أصاب الشطّار والعيّارين في مقتل، تمثّل بمبادرة بعض الأهالي العراقيين الذين سئموا عجز الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة عن وضع حد لهؤلاء الزعران؛ فتصدّوا لهم وتحمّلوا مسؤولية حماية أنفسهم بأنفسهم، ونظّموا دوريات للحماية الأهلية، وتعاهدوا على نصرة المظلوم وقمع الظالم وإفشاء المروءة بين الناس. ويبدو أنّ هذه المبادرة الشعبية قد آتت أُكُلَها، حد أنها وُسمت بوسم (الفتوّة)، وصار لأعضائها وقادتها زي خاص يعرفون به. حتى إذا استلم الخليفة العباسي الناصر لدين الله زمام الحكم (577 _ 623 هـ)، لم يتردّد في استقطابهم والإفادة من نفوذهم الشعبي الواسع من جهة وبسط حمايته عليهم من جهة ثانية، حتى استحق لقب أعظم الخلفاء العباسيين بعد هارون الرشيد فعلاً؛ إذ فضلاً عن أنّ مدة حكمه قد بلغت سبعة وأربعين عاماً، فقد كان قوياً وحازماً وحكيماً جداً، حيث أقدم على تعريب الجيش العباسي الذي كان قد تفكّك جرّاء سيطرة العناصر الأجنبية عليه، وأعاد تنظيم جهاز المخابرات تنظيماً شديداً، حتى صارت أخبار الأطراف البعيدة تصله قبل أن يعلم بها ولاة الأطراف أنفسهم، ما جعل الناس يزعمون أن الجن يأتونه بالأخبار! ولم يكتف بذلك بل بادر إلى إشراع باب التوظيف لكل أتباع المذاهب المؤهّلين، فأنهى عقوداً من الصراع والتعصّب. ولعل من أبرز ملامح حسن طالع هذا الخليفة العباسي المظفّر، أنّ صلاح الدين الأيوبي قد حقّق له ما حلم به هو وآباؤه وأجداده؛ اجتثاث الخلافة الفاطمية وإعادة مصر والشام والجزيرة العربية إلى حوزة الخلافة العباسية. لقد أدرك الناصر لدين الله -خلافا لأسلافه الضعفاء- أنّ التصدي لأحوال الفوضى والفساد والإرهاب الداخلي والخارجي، لن يكون فاعلاً ومؤثراً إلا إذا توفر له الدعم الشعبي الواسع؛ فهو ومهما بلغت سطوته وسطوة جيشه لن يستطيع دحر عصابات الشارع ومؤامرات الحشّاشين ودعاة المذهب الإسماعيلي وتهديدات جيوش الفرنجة التي صارت قاب قوسين من بغداد! لكل ما تقدم، لم يتردّد الناصر في استقبال شيخ حركة الفتوة، وتناول كأس الانضمام للحركة من يده -وهو كأس ماء ممزوج بالملح لتأكيد تحريم الخمر واللهو والمجون- كما ارتدى الزّي الخاص بالفتيان، وكتب بذلك لكل الملوك والسلاطين والأمراء التابعين للخلافة العباسية. وسواء أكان الناصر قد انضم لهذه الحركة اقتناعاً أم أنه قد انضم لها تكتيكاً، فقد كسب بهذا الانضمام جيشاً شعبياً ضارباً إلى جانب جيشه الرسمي، وأكسب حركة الفتوّة سمعة وذيوعاً وهيبة جعلت أتباعها يَصِلونها بعهد النبوّة ويخلِطونها بالطرق الصوفيّة؛ ما دفع ابن تيمية لدحض بعض مزاعمهم ورسومهم، كما دفع ابن بطوطة بعد سنوات طويلة جداً، للاستطراد في وصف أحوالهم التي ازدهرت في بلاد الأناضول تحت مسمّى الأخيّات -نسبة إلى أخ- واستفاض في الحديث عن فتوّة أعضاء هذه الأخيّات وتنافسهم على صعيد استقبال الضيوف ورعايتهم.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-12-2023 07:44 مساء
الزوار: 260 التعليقات: 0