|
عرار:
نبيل حداد مقدمة: من الممكن لأسلوب البوليفون أن ينجز بكفاءة العالم الخاص للعمل الروائي بأبعاده وآفاقه وبشخوصه وأحداثه ورموزه وإيحاءاته بل ببيئة بحقيقتيها الزمانية والمكانية. وقد يحقق هذا الأسلوب للعمل تكاملاً منشودا وتماسكاً بنائياً بين مفردات عالم العمل، بحيث يُرد فيه كل مكون مهما بدا صغيرا إلى هذا « العالم الخاص» الذي يشيده الروائي. ولطالما تكرر السؤال الآتي لدى دراسة أي عمل بوليفوني أو حتى قراءته: لماذا اختيار هذا الأسلوب لهذا تحديداً؟ ... بداية؛ يفترض في العمل الذي يقوم على تعدد الأصوات أن يناسب الأسلوب طبيعة الشخوص، كأن يكون معظمها منكفئ على نفسه ومنطو داخل عالمه بأحلامه الجميلة أو بأسراره البائسة. ولكن يظل لهذا الأسلوب كما نعلم مزاياه ومبرراته، وله أحيانا مخاطره وعثراته. إذا لم نتبين أن ثمة حكمة فنية ما وراء المراوحات بين إفضاءات الشخوص فيما بينهم وبين المتلقي، أو فيما بينهم وبين أنفسهم، أو بين الواحد منهم والأصوات الأخرى، والخشية أن يقودنا التساؤل إلى افتراض خطر مفاده أن هذه المراوحة في هذا العمل أو ذاك هي من قبيل التجريب وكسر الأساليب المتبعة لا أكثر، بل لنقل إن البوليفون لا يحضر هنا سوى للتجريب لذاته. ذلك أن هذا الأسلوب لا يناسب سوى الشخوص الروائية التي عادة ما تنطوي على جوانب لا تتكشف إلا من خلال صوت الأنا، أو تلك الشخوص التي تفرض البنية الحكائية في العمل أن تفيض بما يثقل عليها، بينها وبين نفسها، حول حدث أو حول شخصية ما تكون مثار الجدل، ومن ثم يتم اختيار الشخوص التي تتحدث بأسلوب البوليفون بقدر كبير من الحذر، وبدرجة شديدة من الحرص؛ فعلى سبيل المثال؛ في رواية «ميرامار» (1966)، وهي إنجاز يكاد يكون نموذجيا للرواية البوليفونية العربية، نلاحظ أن نجيب محفوظ قد قصر الأصوات البوليفونية على أربع شخصيات فحسب من بين سبعة أساسية، والسبب على ما يبدو كون هؤلاء الأربعة هم فرسان المرحلة التي تجري فيها أحداث الرواية، واستُبعد الثلاثة الباقون وظلوا خارج الدائرة البوليفونية اكتفاء بالمكان أرضية تتجتمع فوقها كل الشخوص الرواية؛ لأن الثلاثة المستبعدين من الدائرة مهمشون تاريخيا في الواقع السياسي خارج الرواية في تلك المرحلة. من مثل زهرة الفلاحة التي رأى البعض فيها رمزا للوطن المهمش المطموع فيه، أوماريانا صاحبة الفندق اليونانية التي كانت تنتمي لمجتمع كاد يختفي من المدينة الكوزموبولوتية، الإسكندرية، مسرح الأحداث، ثم طلبة مرزوق، سليل طبقة الإقطاع التي ضربتها الثورة ولم يعد بقاياها يملكون سوى التواري عن الأنظار. (1) تقوم حركة القص في «الحورانية»– جزئياً – على أسلوب البوليفون لكن الأمور لم تجر في بطبيعة الحال، على ركيزة واضحة يستند إليها توزيع الأصوات بين الشخوص من جهة والراوي الغائب من جهة أخرى؛ فلئن افترضنا أن ذروة الأحداث الدرامية (ولا نقول الحدث المركزي) هي جريمة مقتل المحامي اليساري صلاح عثمان، فسنجد أن بعض الشخوص ممن قد أخذوا أصواتهم الخاصة ضمن أسلوب البوليفون، قد ذهبوا بأكثر من اتجاه خط درامي لا علاقة عضوية له بالحدث الدرامي الأهم. أضف إلى ما سبق، أن للبوليفون وظيفة أساسية أخرى، بل لعلها الوظيفة الأهم؛ وهي التكامل في تقديم وجهات النظر المتضادة أو على الأقل متباينة - قبل لحظة التنوير- تجاه حدث أو شخصية ملتبسة بين الأصوات المتعارضة أو المتوافقة ولكن بشرط استحضار الصوتين المتعارضين؛ مما يفترض أن يكون لكل شخصية من المتحدثين موقفه أو وجهة نظره التي تختلف أو توافق وجهات النظر الأخرى، أما اقتصار الحضور على الأصوات من طيف واحد فلن يكون ثمة جدوى لهذه التقنية. وهذا ما وقع فيه مثلاً عبدالرحمن منيف في رواية «شرق المتوسط» (1972) حيث اقتصر البوليفون على شخصيتين، رجب من داخل السجن وأخته نفيسة خارج السجن، مما جعل هذا الأسلوب يقتصر على تكامل المعلومات وليس عليه وعلى اختلاف وجهتي النظر معا. ولا أعتقد أن التكامل في تقديم الأحداث من داخل السجن وخارجه يشفع لاستعمال الأسلوب البوليفوني؛ إذ لعل اللجوء إلى أي شكل من أشكال الرواة أجدى وأقل تكلفا. أما في «الحورانية» فلا أجد هدفا فنيا أدعى إلى اللجوء للبوليفون من الرغبة في التنوع من خلال لتجريب في خطاب هذه الرواية. ولكنه تجريب يأتي متأخرا عن زمانه. على أن الرواية قد أنجزت رسم العديد من الشخصيات بصورة فنية نابضة وحيوية. بل إن بعضها اكتسب عن جدارة شروط النمذجة بعيدا عن التنميط، فبدت هذه الشخصيات الحيوية تتمتع بقدر كبير من التحرر من قبضة الراوي، بل الانطلاق بحرية واسعة في تعاملها مما يحقق لها تمايزا خاصا بها وهو ما ساعد في امتداد هذا التمايز إلى الشخصيات المحيطة بها. وينطبق هذا بصفة خاصة على شخصية سليمه. ومن جهة أخرى، يسجل للرواية، في بنائها لعالمها الفني الخاص، كون جوانب رئيسة في هذا البناء يتم استحضاره من خلال استدعاءات الذاكرة، إن حساس يمين بالزمن حاد، ولا يخلو من بعد فلسفي، بل لعله وجودي، ومن خلال تأملاته، وإذا أردنا التبسيط نزعم أن هذا الإحساس، يتكشف من خلال خلواته بينه وبين نفسه: «استغرب يمين من سرعة الأيام التي تنساب بخفة عجيبة وتنهب العمر، تنفلت كالرمال من بين الأصابع المنفرجة .... كان يلعب مع أقرانه في تلك الفسحة بين الدور، وكأن الحياة نهار للمرح وليس للنوم، وما يحدث هذا السياق لا يعنيه ولو بقشرة بصل، أما اليوم فقد أصبح يدرك أشياء تمنى لو غابت عنه العمر كله» (18). على أن بعض مقاطع الوصف تقديم الشخصية، قد يكون متأثرا أو مستوحى من الكليشيهات اللفظية الشائعة في المسلسلات التليفزيونية؛ فها هو الراوي يتولى وصف شخصية المختار نديم الصباحي بأوصاف تناسب المناسبة، ومستوحاه من جوها وكان هذا أول من أتحف أهل القرية باقتناء جهاز التلفزيون، وأتاح فرصة الفرجة لجميع أهلها، ولا سيما في المناسبات العامة المهمة: «رجل ربعة. الشعر فاحم. بشاربين ملتفين ومشذبين بعناية، فيصبح مثل قبضايات الشام القديمة. فيه قوة لا تفوت من يتمعن في هيئته ويلحظ مشيته. يتعمد النظر كل حين بحدة، وقد ينفخ منخرية حتى ينصاعوا لتعليماته: «هيا تحركوا بسرعة ... جاء الدور للذين ينتظرون في الحوش هيا اخرجوا» (52). إن الحوار جميل، ووصف الشخصية معبر، ولكن المشكلة في «هيا» التي جاءت من رجل، يُفترض أنه شبه أمي، في حين أن زوجته تقول لابنتها قبل هذا الموقف بصفحتين أو ثلاث: «لازم تأكلي يُما يا سليمة: حيلك مهدود»؛ (48) هنا تبدو المشكلة بشكل مقابل، في كلمتي «لازم» و «يُما»؛ فالحوار يظل الوسيلة الأنجع لرسم معالم الشخصية، والفوضى في الحوار قد تنال من ريشة الرسام وتأخذها إلى وجهة غير محسوبة. (2) ثمة قضية أساسية أخرى: كيف قدمت «الحورانية» صورة البيئة التي تجري فيها الأحداث وتتحرك فيها الشخصيات؟.. نشير أولاً إلى أن الرواية اشتبكت مع البيئة بطرق سردية ثلاث متعارف عليها في الخطاب القصصي؛ وأول هذه الطرق هو التصوير الفني، بحيث يكون البعد البيئي، زماناً كان أو مكاناً أو إنساناً، جزءا عضويا من اللحمة الفنية لنسيج العمل، وبطريقة لا افتعال فيها ولا تقصد، ولعل الاقتباس الآتي يمكن أن توضح ما نذهب إليه: «تبخر كل أمل بصديقة أو رفيقه تتردد عليها [يعني سليمة] وتتحدث إليها، خاصة بعد تلك الحادثة البعيدة التي تحاول أن تمحوها من ذاكرتها [تهجمها على الصبي] لكنها ما تنفك تتهيأ لها كل حين، كانوا أطفالاً يلعبون في ساحة مستوية بين الدور. شمس أيلول تتلألأ فوق رؤوسهم بسماحة ولطف نسمات لينة تفلت من ربيع كان ذات يوم، وترطب الأجواء لتسمح للأطفال باللعب حتى الثمالة، شجرة كينا كبيرة تمد فروعها بفجور إلى حافة السماء ... عندما يدوس أحد الأطفال الأوراق الناشفة يصدر صوت يشبه الخشخشة، لم يكونوا في سن واحدة، من الرابعة حتى الثامنة، حسني ابن موزع الغاز أكبرهم، ممتلئ برأس كبير وأسنان متنافرة كأنها أقطاب مغناطيس ... يشاكس من هم أصغر منه سناً وقد يتنمر عليهم»... (49). يستحضر النص السابق موقفا نموذجيا، من الممكن أن يتكرر في كل بيئة، ويشير إلى نموذجين، من الصبية، نموذج عدواني يمثل الصبي حسني، ونموذج يتسم بقوة الشكيمة أو «الجدعنة» بحسب الوصف الشعبي تمثله سليمة. تقود الطبائع الصبيانية إلى موقف متكرر كل حارة ...اشتباك الصبية أثناء اللعب. أما حضور شجرة الكيناء فهو ليس من النوافل أو لغرض استكمال المشهد والتوثيق لذاته؛ بل عنصر مكمل لوصف المكان، وجزء من البنية الوجدانية للموقف، فالشجرة كبيرة تمد فروعها بفجور إلى حافة السماء، لماذا الفجور؟ لأن العبارة ببساطة تقرن ضخامة الشجرة وطغيانها على ما حولها بضخامة حجم الصبي وتنمره، أما الخشخشة الصادرة من دوس الأقدام على ورق الشجرة؛ فلعها إشارة إلى ما سيلحق بالصبي المتنمر من هوان، فالوصف هنا لا يبدو ترفا لفظيا؛ بل لجعل الطبيعة تشارك الشخوص مشاعرها، وتواكب توجهاتهم النفسية، بحيث ينبئ المشهد الخارجي - رغم محدوديته - بما ستقود إليه المشاعر الداخلية المحتدمة من فعل ورد فعل. من الممكن القول إن الأسلوب الأكثر استعمالا في رواية المحاكاة العربية الحديثة، والواقعية بشكل خاص، هو أسلوب المراوحة في السرد بين التصوير والتسجيل؛ والتصوير، كما هو مسلم به أساس الأسلوب الدرامي، ومن الصعب أن يكتسب العمل القصصي شرط النوع الأدبي دونه. أما التسجيل فإنه في العادة يأتي بشكل واحدة من آليتين؛ إما آلية التوثيق لذاته، أي بمنأى عن سياق التطور الدرامي بحيث يمكن الاستغناء عن هذه المقاطع التوثيقية دون أن يتأثر البناء أو تتعثر حركة التطور الدرامي، وإما أن يحضر التوثيق دون تقصد، بآلية تجعل منه جزءا منطقيا من البناء تعزز تطور وتعمق من مجراه وتوسع من أفقه وفضائه. ولطالما حفلت الرواية العربية في طورها التأسيسي بأعمال تقوم جزئياً، أو حتى كلياً على واحدة من هاتين الآليتين في السرد أو زاوجت بينهما؛ إن «سارة» للعقاد (1938) مثلاً، تقوم في معظم من مكوناتها السردي والوصفي بل والحواري، على التسجيل، بمعنى أن المؤلف بدا وكأنه يضع الفكرة أمامه ثم يحاول أن يصوغها درامياً فيخفق في معظم الأحوال. ويمكن القول إن جبران قد سبقه في هذه الآلية في «الاجنحة المتكسرة» (1912) ولكن بأسلوب مختلف؛ فظلت اللغة - رغم شعريتها - في خدمة الفكرة المسبقة. في حين أن المازني في «إبراهيم الكاتب» (1931) وبصرف النظر عن تقولات عبد الرحمن شكري حول علاقتها بأعمال روائية أخرى، تقوم أساساً على التصوير، والبيئة وحين تحضر البيئة ومعطياتها، فإن ذلك يأتي عبر رؤية الشخصية المحورية ومتشحاً بمشاعرها. هذا عن الأعمال التأسيسية التي ظل تأثير أساليبها السردية التي اختطتها قائما إلي يومنا هذا، وهو ما يجعلنا نلتفت، من هذه الزاوية فحسب، إلى طرائق السرد في «الحورانية». (3) إن رواية مجدي دعيبس لا تخلو، في اشتباكاتها مع البيئة، من هذه المراوحة بين التصوير والتسجيل؛ فنرى أن رسم ملامح بعض الشخوص بدا متأثرا بمناخ العصر في طوره الانتقالي؛ فتحرر من التقصد التسجيلي. يتحدث الأستاذ صلاح عثمان المناضل الشيوعي العتيق في حوار مركب مع يمين عن شخصية مناضلة ويقدمها بكنيتها فقط: «أبو يمنى» وهو ذو تاريخ نضالي حافل في سبيل عقيدته الشيوعية: «يا سيدي أبو يمنى من الرفاق الذين عرفتهم منذ زمن بعيد، التقيت به أول مرة في سجن المحطة ثم فرقتنا السجون. كنت إذا خرجت من السجن أسأل عنه لأجده مسجوناً، وكذا إذا خرج هو من السجن... درس [أبو يمنى] الهندسة المدنية في بغداد، وهناك تعرف على زوجته القادمة من الموصل لدراسة الاقتصاد في العاصمة. تحابا وقررا الزواج...». (172-173). هكذا يلامس المتحدث وبأسلوب رجل القانون الرصين حقبة حساسة من تاريخ الأردن، بطريقة فنية مركبة؛ بمعنى أن أبا يمنى لا يقدم نفسه، ولا يحضر مباشرة طيلة صفحات الرواية، إنما يقدم عن طريق صلاح عثمان، ولا يحضر إلا من خلال حديثه عنه، ومع هذ تقدم له صورة قلمية نابضة، تمتد للبعد التاريخي للحركة الشيوعية في المجتمع الأردني، ويتقاطع هذا التقديم مع بعد اجتماعي آخر في الرواية، وهو ظاهرة البحث عن الدفائن. فكما نفهم من حديث صلاح مع يمين، فإن أبا يمنى يهدي مريده «صلاح» قلادة من تلك الدفائن التي آلت بطريقة ما لأبي يمنى، وتكون هذه القلادة من ثم سبباً في مقتل حاملها المحامي حين يتربص به ويقتله (كريم) وهو متصعلك طامع في القلادة الثمينة. ومن خلال كريم هذا تحضر موجات الفكر الأصولي التي اجتاحت المنطقة ممثلة بالأفغان العرب بعد عودتهم إلى بلادهم الأصلية، ليؤسسوا الجماعات الأفغانية بعد انتصارهم على المشروع الشيوعي في أفغانستان، وبعد تخلي «المجاهدين» أي الحكام الجدد عن خدماتهم. وبذلك تنجح الرواية إلى درجة معقولة في إنجاز منظومة بشرية متنوعة المستويات الثقافية. منظومة مختلطة أفرختها الظروف العامة، سواء على مستوى الوطن، أو المنطقة، أو حتى على المستوى الكوني، فتبدو الأمكنة المحددة بحجم الحورانية، واسعة لتتسع قضايا عالمية وإشكالات سياسية كبرى تسعى بنفسها إلى هذا المكان الضيق الذي لا يجاوز حجمه الإنساني (ولا أقول المكاني) حجم «زقاق المدق»، الذي تفاعلت فيه - كما ذكرنا في دراسة سابقة - أحداث الحرب الكونية الثانية وتبعاتها على العالم كله. بقيت إشارة لعلها ضرورية، ونحن نتحدث عن أساليب الاشتباك بين العالمين الموضوعي الخارجي والفني الخاص بالرواية. أعني النزوع التعبيري الثالث في خطاب الرواية، وهو الجنوح أحيانا إلى التوثيق لذاته، إذ كثيراً ما كانت تحضر بعض الحقائق أو الأحداث (العامة أو الخاصة بالشخصيات) وتكون مهمة في ذاتها، بل قد تكون ضرورية في التأريخ السياسي أو الاجتماعي أو حتى القيمي لمجتمع ما، ولكنها تحضر هنا وكأنها شاهد تاريخي فحسب على عادة اجتماعية أو حدث سياسي أو تكوين نمطي لأحد النماذج البشرية التي عرفتها المرحلة التي تجري فيها وقائع الرواية دون أن يكون لهذا الحدث أو الواقعة الفائضة علاقة عضوية بالدينامية الفنية الداخلية لحركة السرد. وسأكتفي بالمواقف الاتي مثالا على ذلك: «اجتمع الخمسة في بيت يمين بناء على طلب صايل، كان محمود الساري أول الحاضرين، عندما وقف في وسط الغرفة بدا مثل غمامة صحبت ضوء الشمس بكتفيه العريضتين وقامته الفارعة ورأسه الضخم وجبهته مترامية الأبعاد وشاربه الكث، جلس على طرف فرشة الصوف وأخرج من جيبه علبة الهيشي الحديدية اللامعة. ببطء وحذر واضحين هيأ ورقه «الأوتومان» الرفيقة بين الإبهام والسبابة ثم تناول مقدارًا صغيرا من العلبة، مده ثم سواه على طول الورقة المنثنية بين إصبعيه. جعل حافة الورقة تلامس طرف لسانه حتى بللها، ثم ثناها على الطرف الأخر، فالتصقت به بفعل اللعاب، برم أحد طرفي السيجارة ليسده، فجأة صاح كصوت الرعد الهادر، «يمين» الشاي «(59). ومع أن هذا الوصف طريف، ويقدم صورة نابضة لممارسة تناول السيجارة وإعدادها البدائي عند أهل الريف حتى عهد قريب؛ فإن هذا الوصف التفصيلي الذي يستغرق صفحة كاملة لا يقدم و لا يؤخر في دينامية الحدث الدرامي. وقد يبدو مسليًا ولكنه يظل من باب توثيق أساليب الحياة لغاية التوثيق لذاته، ولئن جاوزنا متطلب التطور الدرامي، وعددنا هذا النص سعيًا لإنجاز صورة متكاملة لعادات القوم، فإنه يبقى من وجهة نظري أداة تسجيلية جاوزتها منذ زمن تقنيات الرواية الحديثة والجديدة على حد سواء. **** بقي أن نقول، فإن هذا العمل، بصرف النظر عن بعض الملاحظات التي يمكن أن تحسب عليه، يظل محققًا لشروط النوع، بل لعله يستحق أن يكون علامة في مسيرة الرواية الأردن، وتحديدًا تلك التي الأعمال التي تسعى إلى إيجاد موقع ما بين ما يمكن أن يسمى بالرواية الريفية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 04-07-2024 10:00 مساء
الزوار: 91 التعليقات: 0
|