|
مهدي نصير لم أعرف جمال قاسم عن قُربٍ إلا عام 2024 وهو يودع هذه الدنيا، حيثُ رحل جمال قاسم يوم 28-9-2024 بعد صراعٍ مريرٍ مع المرض، التقيتُه مرتين في اربد، ولكنا تحدثنا كثيراً بعد هذين اللقاءين، وكان يرحمه الله قد طلب مني في شهر حزيران 2024 أن أشاركه حفل توقيع ديوانه «لا أكتب الشِّعر» ولكنه رحل قبل ذلك، لروحه الرحمة الواسعة والمغفرة بإذن الله. في ديوانه هذا قرأتُ شاعراً حزيناً حالماً يبحث عن طريقٍ ليقولَ ما في روحه وما في عقله، وكأنه كان يدرك أن نهايته قريبة لذلك كانت نصوصه تطفح بالتذكر والحنين والغياب. قصيدة جمال قاسم قصيدةٌ تفعيليةٌ صارمةٌ وسلسةٌ وطازجةٌ وتعتني بالتفاصيل والأماكن عنايةً عاليةً، وتنهل هذه القصيدة من كلِّ الأشياء التي تحيط به وتنهل أيضاً من ذاكرةٍ خصبةٍ مليئةٍ بالرحيل والترحل والحكايات، لذلك كانت معظم قصائدهِ سردياتٍ كثيفةً لحياته أو ما عاشه منها، يقول جمال قاسم في كلمة الغلاف للديوان: «قد يكون ثمَّةَ ساردٌ يتوارى خلف نصي الشِّعري، يغريني ويحثُّني على الحكايةِ واستحضار جدَّتي شهرزاد في القصيدة». بشكلٍ عام: أخذت قصيدة جمال قاسم في هذا الديوان أشكالاً متعدِّدةً سأقسمها وأصنفها لغايات هذه القراءة إلى العناوين التالية: أولاً: كما قلتُ سابقاً كانت قصيدة جمال قاسم في هذا الديوان قصيدةَ تفعيلةٍ صارمةٍ وكانت أيضاً تستند في موسيقاها على قافيةٍ بعيدةٍ وغير مباشرةٍ وغير ثقيلةٍ وكأنها كانت تحاولُ أن تربط مقاطع القصيدة بخيطٍ خفيٍّ وجميل، نقرأ ذلك في قصيدته «إلى الغد»: «في الطريقِ إلى الغدِ دربٌ معبَّدةٌ بالرؤى وتصاويرُ راقصةٌ واعدةْ، لا تُبدِّلْ خطاكَ على درجِ الرغباتِ على سُلَّمِ الريحِ تعويذةٌ وخطىً شاهدةْ.....» ص7 ويتابع القصيدة وتكون القافية (واعدة، شاهدة، باردة، صاعدة، خالدة) نهايةً لكلِّ مقطعٍ فيها، وتتكرر هذه القوافي البعيدة والسلسة أيضاً في كثيرٍ من قصائد الديوان بحيث يمكن اعتبارها سمةً من سِمات قصيدة جمال قاسم. ثانياً: السِّمة الثانية لقصيدة جمال قاسم وهي سمةٌ مرتبطةٌ بالسرد الشِّعري الذي يعيه الشاعر، وتبرز في الحوار بين شخصياتٍ واضحةٍ ومبهمةٍ في متن قصيدتهِ سردياتٌ وحكاياتٌ تُفضي وتُخفي كثيراً من الذكريات، نقرأ بعضَ ذلك في مقاطع من قصيدة «لأُمي»: «سرتُ إليهِ.. وصلتُ فقال: تغيرتَ! قلتُ: تركتُ يدي فوقَ جُميَّزةٍ في نسيمِ البلاغةِ، ثمَّ سلكتُ طريقَ الغوايةِ في الشِّعرِ... وأنتَ؟ فقالَ: تعالَ لنلعبَ... ثمَّ غاب بكيتُ وأجهشتُ حتى ذبلتُ وذابت خطايَ وذاب الوجود أنا عائدٌ من أقاصي سُدايَ إلى شُرفةٍ من صبايَ إلى وجهِ أمِّي» ص13. ثالثاً: القصائد السردية الطويلة والمتشعبة والتي يستحضر فيها الشاعر المخيم وفلسطين والجزائر التي أقامَ بها حيناً من الزمن وكانت حاضرةً بكلِّ ألقها وحزنها، نموذج على هذه القصيدة السردية: قصيدة ملحٌ على شفتي، والقصيدة التي حملت اسم الديوان «لا أكتبُ الشِّعر»، نقرأ من قصيدة «ملحٌ على شفتي»: «في القليعةِ مقهىً على أُهبةِ الطرقات يقدِّمُ ما اعتصرتهُ الحكايةُ في كأسِها الساخنةْ المدائحُ أندلسُ الأغنياتِ لمن غادروا باحثينَ عن اللهِ في كسرةِ الخبزِ والطرقِ الممكنةْ... أخبرني واحدٌ: كسْبُنا في هدوء الرياحِ قليلٌ وتزدادُ خيباتُنا... تيبازةُ اليومَ حالمةٌ بسناها بأرضٍ تُعلِّمنا كيفَ يأتي الغزاةُ على موجةِ الماءِ كي يشربوا ماءَنا ثمَّ يلعنهم ملحُنا ورمالُ الشواطئ مندحرين العواطفُ جيَّاشةٌ يا سُعادُ... بائعُ الجورنالِ على دفَّةِ الكُشكِ في الكورِ مبتسمٌ كالظهيرةِ يعلمُ أني غريبٌ (غريبٌ بمعنى المسافةِ) كان يحدِّثني عن أبيه وعن ثورة البحرِ ضدَّ الغزاة يقولُ: فلسطينُ أختُ الجزائرِ والمستعمرُ الأجنبيُّ سيرحلُ حين تقرِّرُ أرضُ البلادِ وتعلنُ ثورتَها كنتُ أتركه يتحدَّثُ...» ص26-35 ويتابعُ الشاعر هذا النشيج وهذا الحنين وهذا الجدل المحتدم في سرديةٍ تشتبكُ بها أرضُ فلسطين بأرضِ الجزائر وثوار فلسطين بثوار الجزائر. رابعاً: هناكَ شكلٌ آخرُ لقصيدة جمال قاسم في هذا الديوان وهو ما يمكن أن أسميه قصيدة الومضة القصيرة – وكأنها استراحة الشاعر من وجع السرديات التي تسكنه وتسكن قصيدته - والقائمةِ على حالةٍ شعوريةٍ محدَّدة وبسيطةٍ ويوميةٍ وذاتِ مفارقة، نقرأ ذلك في أكثر من قصيدة في الديوان، وكنموذج لذلك نقرأ قصيدة «الصباح الجميل»: «الصباحُ جميلٌ... ككأسٍ من الشايِ ساخنةٍ وشهيٌّ كقطعةِ جاتو فرنسيةٍ بكريما الشوكولا بهيٌّ كإطلالةِ الوردِ في شُرفةِ البيتِ نحو المدى وسعيدٌ كأبنائيَ الضاحكينَ على هيئتي وبريءٌ كطفلي الصغيرِ يُخاتلُني حين يخطفُ مني الموبايلَ ويضحكُ منتشياً الصباحُ رضاً لا أحسُّ بطعم الهزيمةِ هذا الصباح فالقصيدةُ أجَّلتُها للمساء» ص 37. خامساً: الحنين يسكن في كلِّ قصائد هذه المجموعة: حنينٌ غامضٌ للطفولةِ وللمخيم وللناس البسطاء لحارات المخيم وباعتها المتجولين اللذين يحمل كلٌّ منهم حكايته التي تستحث الشاعر ليتذكر ويسرد حكايته معهم، نقرأ هذا الحنين الجارف منبثاً في كلِّ قصائد الديوان، نقرأ من قصيدة «سأزورُ عيدي» هذا النشيج المتوتر والذي تحسُّ أنَّ الكلماتِ به ترتجف وترتبك وتخاف: «سأزورُ حارتيَ القديمةَ مرَّةً في كلِّ عيدٍ.. أسمع التكبيرَ والتهليلَ في الطرقاتِ أقبضُ فرحةً فرَّتْ على عجلٍ هناكَ أُعيدُ ترتيبَ المدى بين الأصابعِ... باعةٌ متجوِّلونَ على الطريقِ وشلَّةً كنا... نبتاعُ البليلةَ/ نابتَ الفولِ المزيَّنَ... بسطةُ الهنديِّ مدهشةٌ كلوحةِ كاندينسكي... لوحةُ الهنديِّ خارطةٌ لأفراحٍ مؤجَّلةٍ على باب المخيَّمِ... العيدُ في الحاراتِ أجملُ ذكرياتُ طفولةٍ منسيةٍ مسبيةٍ في الريحِ عالقةٍ على الوجدانِ مثلَ حمامةٍ علقتْ برفِّ حمائمٍ... أزورُ حارتيَ القديمةَ مرَّةً في كلِّ عيدٍ لا لشيءٍ.. إنما أشتاقُ للَّغةِ البريئةِ... لعلي أستطيعُ قصيدةً حملتْ رسائلها سنونوةٌ وحطَّتْ عند شُبَّاكي» ص85. سادساً: القصيدة التي حملت اسم الديوان «لا أكتب الشِّعر»، وهي قصيدةٌ سرديةٌ طويلةٌ ومركَّبةٌ وتشكِّلُ أكثر من ربع حجم الديوان، وتحمل هذه القصيدة عنواناً فرعياً هو «سيرة مهاجر» ويطوف بها الشاعر باحترافٍ ووعيٍ وحذاقةٍ ومعرفةٍ بتاريخ وميثولوجيا هذه الجغرافيا والديموغرافيا العربية البائسة، فهو يطوف بنا باديتنا وصحراءَنا الأولى عبر أساطيرها وشعرائها وتعاويذها وطقوسها (يحضر امرؤ القيس وعناة ومريم وتحتمس وآلهةُ الشرقِ وتحضر حوران والجليل والنيل وغزة وفلسطين والمدن الساحلية العربية وتحضر اللغة العربيةُ تلك الهويةُ العميقة لهذه الأمة)، سؤال الهوية كان حاضراً ومؤرِّقاً وجارحاً وفاضحاً وينبضُ بقوَّةٍ وغزارةٍ في هذه القصيدة الملحمة، نقرأ من هذه القصيدة: «ما الهويةُ؟- قالت فتاةٌ مُدرَّعةٌ بالصدى – قلتُ: ما تحملينَ برحمِ الحكايةِ من قادمٍ يتحوَّلُ قالت: وما قد مضى ؟ قلتُ: إرثُكِ ذاكَ المخيطُ المُطرَّزُ بالزعفرانِ وبالسوسنِ الجبليِّ وأهزوجةٌ رقصتْ تحت شُرفةِ سيِّدِ قريتنا... والهويةُ ؟؟ قلتُ: غدٌ قادمٌ يتخطى الصدى بُرهةٌ تحملُ الحلمَ في رحمِ ثورةْ» ص110 ويواصل الشاعر تجواله في هذه السردية الكثيفةِ العميقةِ والباحثةِ عن صبَّارة الجدَّةِ الساردة، نقرأ هذا المقطع من هذه الجدلية الشعرية العالية: «قالت (الجدَّةُ): هناكَ ببابِ المغارةِ شاهدتُ موتاً (هو الموتُ يحيا على موتنا) كنتُ شاهدةً كيف تقصفُ طائرةٌ للغزاةِ الحياةَ بأكملها البيوتَ الحجارةَ سُكَّانها والشبابيكَ رفَّ الحمامِ الحواكيرَ أزهارَها قتلوا كلَّ شيءٍ هناكَ... البشرْ والشجرْ والحجرْ المواتُ انتشرْ صمتت برهةً عقدتْ سُبحةً في أصابعها: منذ سبعينَ عاماً تركتُ خُطايَ بوادي المغارةِ ما بين صُبَّارتينِ وعلَّقتُ أمنيةً في الدوالي» ص 113. هذه القصيدة ليست قصيدةً غنائيةً أو ايدلوجيةً أو شعاراتيةً وتحتاج لأكثر من قراءةٍ للدخول إلى مناخاتها، فجمال هنا لا يكتب شِعراً بل ينزفُ سرداً جارياً ويبحث مع جدَّاتهِ العتيقات الخالدات عن هويته الضائعة ويحاول أن يجيب ولا يستطيع على سؤالنا الذي يصرخ فينا صباح مساء: لماذا انهزمت هذه الهوية مع كلِّ هذا الخصب الذي شكَّلها عبر التاريخ؟؟ جمال قاسم شاعرٌ حقيقيٌّ مليءٌ بالدهشةِ والحزنِ ومليءٌ بالشعرِ العميق الذي كان رفيقاً لأوجاعهِ وأحزانهِ وأفراحهِ القليلةِ والصغيرة وربما كان الشِّعرُ أكثرَ هذه الأفراحِ حزناً في قلب جمال قاسم، ولا أملكَ الآن إلا أن أدعو بالرحمة الواسعة والمغفرة بإذن الله لروح هذا الشاعر النبيل الذي غادرَ القصيدةَ قبل اكتمالها والحياةَ باكراً قبل أوانها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-02-2025 09:12 مساء
الزوار: 46 التعليقات: 0
|