|
د. عادل علي جودة لست أدري إلى متى يستمر الصمت أمام هذه الهجمة المسعورة وما مارسته من أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد شعبنا العربي الفلسطيني من قبل عدو غاصب يرى نفسه فوق القانون! ولست أدري كيف استطاع العدو أن يختلق أباطيله، ويطلقها على الملأ، فيُحدث هذا التأثير المدوي حتى صدقتها السياسة الأمريكية ورددتها، ولحقت بها القارة الأوروبية لاسيما «بريطانيا» التي سلبت فلسطين ومنحتها لعصابات بني صهيون وفي مقدمتها عصابة «هاشومير» وبديلتها «الهاجاناة»، حتى بات الكل منهم يردد أحقية الكيان الغاصب في الدفاع عن نفسه! فعن أي دفاع عن النفس يتحدثون، وكيف استطاعوا ـ أو تقبّلوا ـ قلب الموازين وعكس المفاهيم. وليس هذا فحسب، بل وصل الأمر أن يعلن سيد البيت الأبيض رغبته في تهجير أهل غزة تارة إلى مصر، وأخرى إلى الأردن، وثالثة إلى إنشاء دولة لهم في المملكة العربية السعودية، وذلك تمهيدًا لتحقيق رغبته التالية المتمثلة في شراء غزة، يا إلهي؛ يشتريها مِن مَن؟ وتحت أي قانون، ومِن أي شهر عقاري سيحصل على صك الملكية!، ثم وماذا بعد؛ هل سيشتري الضفة الغربية أيضًا!؟ وتبدو الإجابة واضحة أن «نعم» سيشتري كل فلسطين، بل سيتعدى ذلك إلى الكثير من الأراضي في الدول المجاورة والبعيدة، وهي في الواقع ليست عملية شراء، إنما هي عمليةُ سطوٍ إجرامية بكل ما تعنيه الكلمة. ولست أدري كيف يجهل رئيس الدولة الأعظم على كوكب الأرض قصة فلسطين العربية منذ فجر التاريخ؛ منذ أن عُرفت بأرض كنعان نسبة إلى العرب الكنعانيين، ثم الهجرات العربية العديدة، أو كما يطلق عليها التجمعات الفينيقية والكنعانية، من جنوب الجزيرة العربية، ثم دخول المسلمين إلى القدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لنصرة إخوانهم العرب أصحاب البلاد الأصليين وتحريرهم من حكم الغزاة الرومانيين؟! وكيف يجهل أن تاريخ العرب في فلسطين يعود إلى ما قبل ستة آلاف سنة، وتؤكد ذلك الكتب السماوية وبخاصة التوراة؛ أي قبل أن يهاجر إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مصر مرورًا بفلسطين والقدس الشريف، وقبل ألفين وستمائة سنة من ظهور الديانة اليهودية؟! وكيف يجهل أن القدس صارت مدينة في بداية العصر البرونزي حين بناها الكنعانيون، وأن أول من اختط مدينة القدس وبناها هم العرب اليبوسيون، وأطلقوا عليها اسم «يبوس»، ثم عُرفت بـ «أورسالم أو يوروسالم أو أورشليم أو يوروشليم»، وكلها تعني مدينة السلام، وكلمة «أورشليم» ليست عبرية كما يُخيّل إلى البعض، بل هي كلمة كنعانية آرامية (عربية)، أطلقها العرب على القدس قبل أن يكون لبني إسرائيل لغة، وعندما سمّاها داود عليه السلام «مدينة داود» لم يجد لها اسمًا غير الاسم الكنعاني؛ لأن اللغة العبرية لم تكن قد عُرفت بعد، فالتاريخ يؤكد أن حكم اليهود للقدس لم يدم أكثر من سبعين سنة متواصلة، وذلك في عهد داود وسليمان عليهما السلام، كما حكموها لفترات متقطعة لم تتجاوز أربعمائة سنة، وفي مقابل ذلك حكم العرب القدس لأكثر من أربعة آلاف ومائة وخمس وستين سنة، إضافة إلى أنهم هم الذين أنشؤوها، أما بقية الفترة التي تقرب من ألف وثمانمائة سنة ـ من عمرها الذي يتجاوز الستة آلاف سنة ـ فقد كان الحكم فيها لغزاة من الآشوريين، والفرس، واليونان، والرومان، والصليبيين، وبذلك يكون الحكم العربي للقدس هو الأصل وغيره هو الاستثناء؛ إذ تواصل الوجود العربي في فلسطين في كل تلك الفترات دون انقطاع حتى يومنا هذا. لذلك كله يهتف الشعب الفلسطيني بثقة وثبات أن «لا، وألف لا»، للتنازل عن أي شبر من أرض فلسطين، لأننا ببساطة شديدة مؤتَمَنون، ولنا شرف الرباط في أرض الرباط، وإلا عاقبنا التاريخ، وعاقبتنا الأجيال القادمة، لأننا نكون قد وضعنا أول بصمة خزيٍ وعارٍ في جبين أمّتنا على مر العصور، ولكن حاشا وكلا، بل إننا ماضون في النضال والكفاح بكل الوسائل حتى انتزاع حقنا مدركين أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وفي إطار ما يُختلق من أباطيل، يسائلني البعض بنبرة العاتب أين دور «المثقف» العربي والمسلم مما يجري في قطاع غزة وفي الضفة الغربية؟! وأين حراكه في إطار دحض السردية الإسرائيلية وما تشتمل عليه من تزوير وتشويه؟! وهنا أقف مستغربًا حيال مفردة (المثقف) فإلى أي مثقف يتجه السؤال؟! فالمثقفون كثر، لكن ثقافاتهم تختلف باختلاف ضمائرهم، ووفقًا لحصيلة تجارب بيئتهم وخبراتها، ونهجها، وتعاملاتها، وكلِّ ما ينتج عن الأحداث التي تتعرض إليها؛ فالثقافة في بلدٍ يمتلك الأمان، تختلف اختلافًا كبيرًا عن ثقافة بلدٍ يعاني الفقر والحرمان، وتختلف كذلك من بلدٍ يمتلك القوة ويستخدمها في التوسع والاستبداد، عنها لدى قوم تكالب عليه المجرمون فتجرعوا مرارة التشرد والضياع. وباختلاف تلك الثقافات يختلف المثقف، حتى في البلد الواحد تختلف معايير الثقافة، فمثقف السلطة يختلف عن مثقف الشعب، لكن تبقى الركيزة الأساسية للمثقف متمثلة في مدى استعمال المرء لفكره في سبر أغوار المشهد الذي يعيشه. ومن هنا نشير إلى أن المثقف نوعان؛ «المثقف المزيف أو المرتزق» الذي يُسخر علمه في تحقيق ما يلبي هواه لتحقيق مصالح دنيوية تفقده ضميره، وتلبسه ثوب الذل والهوان، و»المثقف الحر» الذي يرفض رفضًا قاطعًا أن يردد شعارات الآخرين دونما بحثٍ وتقصٍّ، وهو المؤمن بحقوق الآخرين ويُسخر قلمه وصوته لرفع الظلم عن الإنسان دون النظر إلى عرقه، ولونه، ومعتقده، ولسانه، ومنحه ما يليق بإنسانيته من حرية، وعدل، وكرامة، وأمان. وكلي يقين أن «المثقف الحر» يدرك تمام الإدراك الدور المنوط به، على اعتبار أن لديه الحقيقة الدامغة والثقة واليقين، ولديه الكلمة الصادقة النابعة من إيمانه بأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن القضايا العادلة لابد لها وأن تنتصر طال الزمان أو قصر، ولديه أيضًا الجرأة الكافية للبحث عن الحقيقة، ونشر الوعي، ودحض ما يراه من أباطيل. وفي إطار ما يجري لأهلنا في غزة، فقد رأينا بأم العين أمثلة حية على ما يُحدثه «المثقف الحر» من تأثير تشرئب إليه الأعناق، وأراني في هذا الصدد أوثق التحية للمثقفين الأحرار أمثال الإعلامي الماجد خالد المالك، والناشطة رُلى الحروب، والسياسي حسام زملط، والناشطَيْن محمد حجاب وباسم يوسف، وغيرهم من المثقفين الأحرار من غير العرب أو المسلمين الذين بمواقفهم الثابتة النزيهة تمكنوا من إيصال الرسائل المؤثرة أمثال «سي جى ويرلمان» الذي أبلى بلاءً حسنًا في إماطة اللثام عن الجرائم التي يرتكبها الكيان الغاصب وأباطيله التي ما انفك يختلقها ويُغلفها بفبركات إعلامية مفضوحة لا ينخدع بها إلا من فقد البصر والبصيرة. بالإضافة إلى العديد من الكتاب والأدباء الذين يعبرون عن مواقفهم الحاضنة للقضية الفلسطينية العادلة، والداعمة للشعب الفلسطيني، ويثرون بأقلامهم الملتزمة ميادين الفكر والثقافة والأدب، إسهامًا منهم في مناصرة شعبٍ لم يزل يعاني القتل، والتدمير، والحرمان، منذ ما يقارب الثمانية عقود. وأراني هنا أدعو «المثقف الحر» أن يطرق مختلف الأبواب الإعلامية النزيهة، وألا يُصاب بالإحباط جراء ما يوجهه من تقييد للحسابات أو إقفالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما منصة فيسبوك التي ما انفكت تكمم الأفواه، وتُسكت الأقلام، وتُغمض العيون، عبر حجب الحسابات عن بعضها البعض، ونحن بكل أسف لا حول لنا ولا قوة في ظل عجزنا عن ابتكار وسائل وقنوات بديلة لا تخضع لسيطرة الآخرين على إعداداتها. أدعو «المثقف الحر»؛ العربي وغير العربي، المسلم وغير المسلم، أن يقوم بأداء رسالته في إظهار الحق ونصرته ليعلم الداني والقاصي أن النضال الفلسطيني ليس إرهابًا، إنما هو نضالٌ كفلته القوانين الإنسانية لاسترداد الأرض الفلسطينية من مغتصبيها، وانتزاع حق الشعب الفلسطيني في نيل حريته وكرامته، وتطهير أرضه ومقدساته، وإقامة دولته المستقلة على تراب وطنه. أدعو «المثقف الحر» لتفنيد ما يدعيه الكيان الغاصب (كذبًا وافتراءً) أنه يدافع عن نفسه، إنما يواصل تنفيذ جرائمه التي تعكس مسيرته في ارتكاب المجازر على امتداد عشرات السنين، ولو أردنا تعداد تلك المجازر التي ارتكبها على مرأى العالم وسمعه لما كفته مساحة النشر بدءًا بالمجازر التي ارتُكبت عام 1938م على أيدي «عصابة الإنسل» في حيفا والقدس وغيرهما، وصولًا إلى المجازر التي لم يزل هذا الكيان الغاصب يرتكبها اليوم على إثر ما تعرض له في السابع من أكتوبر 2023م على أيدي رجالنا البواسل في قطاع غزة المحاصر، ولكونه لم يجرؤ على مواجهة الرجال راح يلتزم القصف الجوي والبحري ويُحدث كل هذا التدمير على رؤوس المدنيين الآمنين، وكل ذلك يجري ليس فقط بمباركة دولٍ تدعي المناداة بالديمقراطية والعدل وحقوق الإنسان بقيادة أمريكا ومعها عدد من الدول الأوروبية، وليس فقط بتقديم الدعم اللوجستي من حاملات طائرات وقنابل وصواريخ، إنما أيضًا بمشاركة حقيقية بجنود النخبة لديها في محاولاتهم التي فشلت أمام شعب يملؤه اليقين بأنه صاحب حقٍّ ينشد العدالة. أدعو «المثقف الحر» أن ينادي بشطب اتفاقيات أوسلو التي لا أراها إلا طعنة شرسة أنزلت العديد من المآسي على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والمأساة الأولى تتمثل في الاعتراف بشيء اسمه (دولة إسرائيل)، والمأساة الثانية أنها أفقدتنا ما تبقى من الأرض بسبب تلك المغتصبات التي امتدت في أرضنا امتداد السرطان في الجسد، والمأساة الثالثة أنها باعترافها بدولة الاحتلال مهدت السبيل لإبرام اتفاقيات سلام وتطبيع مع عدد من الدول العربية، والمأساة الرابعة تتمثل في تشكيل «السلطة الفلسطينية» وإلزامها بما يسمى «التنسيق الأمني» الذي يقف عائقًا أمام النضال الفلسطيني في الضفة الغربية. أدعو «المثقف الحر» أن يسخر قلمه لتوضيح أن هذا النضال الذي يواجه الأطماع الصهيونية يجب أن ينتصر وألا يُواجَه بالخذلان، وإلا فسنعيد قراءة «أكلت يوم أكل الثور الأبيض». أدعو «المثقف الحر» أن يُبرز معالم هذه الهبة الجماهيرية من قبل الشعوب كافة، بما في ذلك شعوب الدول الأوروبية التي يُقدّم قادتها الدعم الكامل لجيش الاحتلال، تلك الهبة الجماهيرية التي تُعلن استنكارها وتنديدها بما تقوم به عصابات الاحتلال من قتل للإنسان وتدمير للبنيان، ومطالبتها بوقف هذا العدوان السافر وتوفير أسباب الحياة الكريمة للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وحتى في الأراضي المحتلة منذ عام 1948هـ الذين يعانون من العنصرية أشد المعناة. أدعو «المثقف الحر» إلى دوره المهم في إبطال مقولة أن المقاومة الفلسطينية لا تمثل الشعب الفلسطيني، والتأكيد على أن الشعب الفلسطيني يشكل الحاضنة الدافئة للمقاومة التي يتبناها أبناؤه ويدين لها بالانتماء والولاء، ويرفض رفضًا قاطعًا وصفها بالإرهاب، وبذل فكره ووقته لإفساد المخطط الصهيوني الرامي إلى تشتيت الشعب وتقسيمه إلى فصائل وجماعات تمامًا كتخطيطه لبث الفرقة بين الشعوب العربية على قاعدة فرّق تسد. أدعو «المثقف الحر» أن يسهم في تداول ما تعرضه وسائل الإعلام الحرة من الجرائم المحرمة وفقًا للقوانين والثوابت الدولية التي يرتكبها الجيش الفاشي في قطاع غزة والضفة الغربية لاسيما استهداف الصحافيين، والمصورين، وسيارات الإسعاف والمسعفين، وفرض حصار إضافي على الإنسان في قطاع غزة؛ فلا ماء ولا دواء، ولا وقود، ولا كهرباء، إضافة إلى خداعاته البائسة التي يطالب من خلالها الشعب بالهجرة من الشمال إلى الجنوب حيث الأمان حسب ادعائه، ومن ثم يلاحقهم بقنابله المدمرة والحارقة. وأخيرًا أدعو «المثقف الحر» أن يُسخّر قلمه لرفض أشكال الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وبريطانيا، لجيش الاحتلال الذي يستخدمها في مواصلة جرائمه النكراء ضد غزة الأبية والضفة الغربية عبر حرق الشجر، وتدمير الحجر، وإبادة البشر دون تمييز بين شيخ وامرأة وطفل. وهنا أختم مؤكِّدًا أن «المثقف الحر» سلاحه الكلمة ورسالته الانتصار للحق. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-02-2025 08:36 مساء
الزوار: 54 التعليقات: 0
|