قراءة في كتاب «العصبية في المجتمع الرقمي» للدكتور نديم المنصوري
عرار:
ذيب ماجد غنما قبل أكثر من سبعة عقود قال عالم الفيزياء الشهير آينشتاين: «لقد بات واضحاً وبشكل مرعب أنّ تطور التكنولوجيا قد فاق تطور إنسانيتنا»، ولا أدري إن كان آينشتاين في مقولته هذه ينتصر للإنسانية أم ينتصر لتغول التكنولوجيا، أو أنه كان بذلك معاتباً للإنسان الذي طور بنفسه هذه التكنولوجيا؛ فأصبح عاجزاً عن مجاراتها واساء استخدامها. ولو قدر له أن يعيش معنا اليوم ويشهد ما فعلته بنا التكنولوجيا؛ فماذا عساه أن يقول! لقد غيرت التكنولوجيا، من خلال تطورها المذهل ودخولها كافة تفاصيل حياتنا في العقود الماضية، الكثير من أساليب الحياة وأشكال العيش وطرق التعامل بين البشر؛ وأصبحت مدارس الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع الرقمي تركض، في سباق ماراثوني محموم، لتفسير ما يحدث من تغيرات في القوالب الإقتصادية والأنماط الإجتماعية والسلوك البشري بشكل عام. ولعل أهم ما يسترعي اهتمام العاملين في الصحافة والاعلام هذا التحول الكبير والممارسات الجديدة التي صنعتها التكنولولوجيا الرقمية في أشكال التواصل والتفاعل البشري. نقف اليوم أمام هذا الفضاء الرقمي والمعلوماتي، الذي يعمل على صياغة علاقات إنسانية جديدة، ونحن شبه عاجزين عن التوافق والتآلف مع هذا المشهد غير المنضبط من أشكال التواصل الرقمي بين ملايين من البشروهم يتمترسون خلف شاشاتهم الرقمية، مستمعين أو مشاهدين أو قراء، متلقين غير متدبرين، لما يصلهم من مواد رقمية مختلفة. هولاء وإن أحسنوا استخدام التقنيات وتمرسوا على مهارات الوصول الى المعلومة؛ الا أنهم ما زالوا ينقلون موروثهم الفكري بما فيه من سلبيات وعصبيات دينية وعرقية وطائفية؛ بل وينشرون بعضاً مما خالط تربيتهم من مفاسد وأفكار؛ متخلين عن أبسط مفاهيم الأخلاق وآداب التواصل وروح الإنسانية؛ وهم بذلك يقدمون أنموذجا مشوهاً للدورالحيوي والإنساني الذي كان من المفترض أن يلعبوه كمثقفين ونخب تستخدم التكنولوجيا الحديثة. يقول الدكتور نديم المنصوري صاحب كتاب «العصبية في المجتمع الرقمي»: إن هذه العصبية أبت الا أن تظهروتتمدد في وسائط التواصل الاجتماعي النصية منها والمرئية والمحكية خالقةً تبادلاً لخطاب العصبيات والكراهية والتسلط والقدح والذم والتشهير. ويرى المنصوري « أن مفهوم العصبية ليس مفهوماً عابراً في الشخصية الذاتية للأفراد، بل يشكل محركاً ذهنياً يقود الأفراد الى الممارسات الرقمية العصبوية تحت ميررات الدفاع عن الذات أو المعتقد أو أهل العصبة أو حتى البقاء. لذلك يأتي النص الرقمي مفعماً بالكراهية وبالعبارات الجارحة، لأن إلغاء الآخر أصبح غاية بحد ذاته». ويضيف المنصوري أنه على الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية توحي بالمساواة والديمقراطية وحرية التعبير، إلا انها تعزز وتعكس التحيزات والافتراضات الأيديولوجية نفسها التي نجدها في الوسائل الإعلامية القديمة. جاء كتاب الدكتور نديم المنصوري والصادرفي العام 2022 عن منتدى المعارف للنشر في بيروت، في 143 صفحة من القطع المتوسط. وهو يتناول مفهوم مركزي في الثقافة العربية،ألا وهو العصبية، حيث يرتبط هذا المفهوم بالبنية الإجتماعية التي تواجه السلوكيات والممارسات، بشكل مستتر خلف ستارة الموروث لتنتقل لاحقا، برأي المؤلف، الى شاشات الراهن الرقمي. لقد قدم الدكتور منصوري في مؤلفه هذا ومن خلال فصول الكتاب الأربعة دراسة تحليلية لمفهوم العصبية وركائزها في المجتمع الرقمي وأشكال خطاب هذه العصبية، وبسط لنا مفهوم «الهوية الرقمية وتجاذباتها العصبية» كما وضح المؤلف طرق مواجهة العصبية الرقمية من خلال تعزيز الأطر القانونية الرادعة والتربية على المواطنة والمواطنة الرقمية وتطوير المهارات النقدية للمستخدمين/ات للمواقع الرقمية بأشكالها المختلفة. والدكتور منصوري يعمل منذ أكثر من عقدين في مجال التربية والتعليم والتدريب والتطوير، وهو أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وعضو معهد العلوم الاجتماعية فيها؛ ويعد باحثاً مختصاً في قضايا الإعلام والإعلام الرقمي. قام بتدريس عدة مواد ذات صلة، منها: منهجية البحث وسوسيولوجيا الاتصال والتغير الثقافي ووسائل الاتصال الحديث والتوظيف السياسي للإعلام. هذا الكتاب يطرح عنواناً حديثاً في غاية الأهمية، خاصة ونحن نعيش موجة عاتية من خطاب للكراهية تعصف بمجتمعاتنا وتهدد سلمنا المجتمعي وتزعزع الثقة بالوطن وبمفاهيم المساواة والمحبة والانسانية، من خلال زراعة البغضاء والكراهية في كل مكان. يقدم مؤلفنا في هذا الكتاب، مقترحات وطروحات تصلح لتكون دليلاً ارشادياً وموجهاً تربوياً لكافة الجهات المسؤولة خاصة التربوية منها وكذلك للمشرعين وصناع القرار في مختلف مواقعهم الرسمية والشعبية، لخلق فهم أفضل لما نريده من عالمنا الرقمي ولنرتقي بخطابنا الرقمي لما فيه مصلحة الوطن والأجيال. يذكرنا الدكتور منصوري، في أكثر من محطة من محطات كتابه، بضرورة الالتفات للمباديء الدولية ومفاهيم حقوق الانسان حول حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات؛ كما وردت في مباديء كامدن والرباط لنضمن حرية مسؤولة؛ مع ضبط للعالم الرقمي ضمن مجتمع ديمقراطي يسمح بالانتقاد وابداء الرأي، خاصة في الشأن العام وبحرية كاملة لا قيد عليها، بإستثناء مساهمته في خلق خطاباً للكراهية. وبالرغم من عدم وجود تعريف واضح لهذا المصطلح «خطاب الكراهية» الا أن ما يترتب على هذا الخطاب من آثار سلبية على السلم المجتمعي، تجعله خطاباً مرفوضاً يجب تقييده والحد من آثاره. ولنا في الأردن تجربة رائدة في المساهمة بمعالجة الآثار السلبية المترافقة مع انتشار هذه العصبية الرقمية والحد من تأثيرها ومن انتشار الشائعات والأكاذيب والتضليل الإعلامي وغيرها؛ سواء من خلال برامج توعوية تقودها مؤسسات إعلامية وصحفية مختلفة أو نشاطات التربية الاعلامية والمعلوماتية التي تقوم بها جهات أكاديمية متعددة وعلى رأسها معهد الإعلام الأردني، وذلك من خلال الدورات التدريبية وبالأخص بين طلبة المدارس ومؤسسات التعليم العالي؛ كونهم الفئة الأكثر تعاملاً مع الوسائط الرقمية ومواقع التواصل الإجتاعي، أو من خلال المواد التعليمية التفاعلية المدمجة بالمنهاج، أو دورات تدريبية للعاملين/ات في الصحافة والإعلام. وقد يكون لنا في قادم الأيام، حديث مفصل في التربية الإعلامية والمعلوماتية والرقمية. مع العلم أن معالجة آثار هذه العصبية الرقمية، تحتاج الى عمل متكامل تتكاتف فيه جهود تربوية وإجتماعية وثقافية وتشريعية تعزز احترام الرأي والرأي الآخر وتحد من خطاب الكراهية وتجنبنا تحدياته؛ دون التأثير على مساحة الحرية المتاحة! أخيراً، تجدر الإشارة الى أن للدكتور منصوري، مؤلف كتاب بحثنا هذا «العصبية في المجتمع الرقمي» عدة مؤلفات منها: «موضوعات في علم اجتماع الانترنت والتواصل الرقمي»، منتدى المعارف، بيروت،2019 . - «الاستحمار الالكتروني»، منتدى المعارف، بيروت، 2016. - «سوسيولوجيا الإنترنت»، منتدى المعارف، بيروت، 2014. - «الثورات العربية بين المطامح والمطامع» قراءة تحليلية، منتدى المعارف، بيروت، 2012. - «قاموس الدردشية» (لغة الدردشة الالكترونية على الانترنت)، إنكليزي – عربي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2010. (وهو أول قاموس في العالم العربي والسابع في العالم). - «سوسيولوجيا التنجيم»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2007