على الأقل تظل أفضل من المرويات والشهادات وحتى الوسائط الإعلامية التي يندر أن تخلو من التحيز أو الميل للتوجيه، ثانيا، يتناول الكتاب مرحلة مهمة في تاريخ الأردن، فهو يرصد الوثائق البريطانية المتعلقة بالأردن منذ 1946، عام الاستقلال وإعلان المملكة الأردنية الهاشمية، وحتى العام 1952 الذي شهد انتقال العرش من الملك طلال إلى الملك الحسين، وبداية تأسيس الأردن الحديث، ثالثا، تنتمي هذه الوثائق للدبلوماسية البريطانية صاحبة التاريخ العريق والخبرة الواسعة، وهي تختلف عن الوثائق الأمريكية التي يغلب عليها الطابع الشخصي والآراء السطحية، فالدبلوماسية البريطانية في النهاية وريثة عصر المستعمرات، ورجالها خدموا لسنوات طويلة بين شعوب متباينة وثقافات مختلفة، وعادة هم حياديون ومتحفظون، ويحاولون دائما البحث عن الكلمات المناسبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمصالح الإمبراطورية، ورابعا، فالكتاب من تأليف سليمان الموسى، المؤرخ المحترف والمثقف المنفتح، بوطنيته وانتمائه البعيد عن شبهة الانسياق وراء الشعارات والمزاودات، بما يجعله في تصديه لهذه المرحلة بمثابة المرجع الذي يتمكن في النهاية من تحقيق التوازن بين المادة التاريخية والرؤى الوطنية، دون أن يقع في اغراء الأيديولوجيا والتأويل المتكلف للتاريخ.
كانت بريطانيا قوة انتداب في الأردن منذ العام 1920، حيث تفككت نهائيا الامبراطورية العثمانية، وكانت في المرحلة الأخيرة من تاريخها مستهدفة من قبل القوى العالمية التي تمكنت من تحقيق انتصار عسكري كبير في الحرب العالمية الأولى، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا النفوذ على الممتلكات العثمانية في منطقة الهلال الخصيب ومنها الأردن، دون أن تمتلك رؤية طويلة المدى لمستقبل المنطقة، إلا أن ظروف أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها والتكاليف الباهظة التي دفعتها أوروبا بما استنزف قدرتها على البقاء في مقدمة القوى العالمية جعلها تتخذ القرارات اللازمة لانهاء وجودها في المنطقة، بطبيعة الحال، كانت المطالب الشعبية التي عبرت عنها الجماهير العربية أساسية للدخول في مرحلة الاستقلال، إلا أن الإقليم الذي وقعت فيه الأردن جعلها تبقى على ارتباط وثيق ببريطانيا لبضعة سنوات تبعت الاستقلال، فمن ناحية كانت الأوضاع في فلسطين تتوجه للانفجار مع اقتراب موعد انتهاء الانتداب البريطاني ورفض مشروع التقسيم، وكانت نذر الحرب تتصاعد في المنطقة ككل، ولم يكن ممكنا للأردن أن تتخذ مواقف حيادية تجاه الوضع الفلسطيني كما أنها بقيت في إطار الاهتمام العالمي لوجودها على خط المواجهة مع اسرائيل.
هذه الوضعية الخاصة جعلت الأردن تتحمل ثمنا سياسيا كبيرا، وكان الإنجليز يهدفون للإبقاء على الجيش الأردني مرتبطا بالإدارة والدعم البريطاني، إلا أن التوجهات التي حملها الملك الحسين وقراءته للطموحات الشعبية بتحقيق استقلال كامل في جميع الوجوه، دفعه لاتخاذ القرار التاريخي بتعريب الجيش، ولكن ذلك لم يكن ليشكل القطيعة مع لندن، وبقيت عمان واحدة من المدن الهامة على خارطة السياسة البريطانية في المنطقة، والكتاب الذي وضعه الموسى يركز على العلاقات الأردنية البريطانية في مرحلة التشكل والتكون، فلا يمكن النظر إلى العلاقات السابقة  على أنها علاقة بين بلدين مستقلين، وإنما بدأت العلاقة الفعلية في التشكل وأخذ صورتها في المرحلة التي يتعرض لها الكتاب، قبل أن تدخل ومنذ العام 1952 في مرحلة من الاضطراب الذي يمكن أن يجعل صورة الأردن في الوثائق البريطانية عرضة للتحامل من قبل الدبلوماسيين البريطانيين، ومع مرحلة الملك الحسين اتسعت الخيارات أمام الأردن وأصبح ممكنا الحديث عن سياسة خارجية فاعلة في الأردن.
الكتاب أيضا يعد مرجعا للتعرف على شخصية الملك المؤسس عبد الله الأول وفكره السياسي وأسلوبه في التعامل مع ملفات العلاقات الأردنية، ومواقفه من القضية الفلسطينية ونمط تعامله السياسي مع القوى الشعبية، ويأتي عرض الموسى متوازنا وواقعيا، بحيث يلقي بالضوء على العديد من المواقف التي من شأنها أن تصحح الأفكار السائدة لدى العديد من القوى السياسية في العالم العربي، والتي طالما اتخذت مواقف سلبية غير قائمة على أساس حقيقي من الأردن، وأسلوب الموسى لا يصدر أحكاما أو يصادر أية آراء، وإنما يعرض الصورة من مختلف الزوايا ويعلق بموضوعية على الحدث السياسي.
يأتي نشر الكتاب ضمن الأعمال الكاملة للموسى وهو المشروع الذي تدعمه وزارة الثقافة، ويعتبر أحد المشروعات المهمة التي تكرم مؤرخا أردنيا أسهم في تشكيل الوعي الوطني وبناء الذاكرة الجمعية للأردنيين، دون أن يسعى في حياته للحصول على المناصب التي كان يستحق العديد منها، وأنما انصرف لمشروعه في كتابة التاريخ الأردني، منكبا على المراجع العلمية ومستحضرا المواقف التي عايشها عن كثب كأحد المشاركين في المسيرة الوطنية، ومستلهما عقلية ورؤية الأب في تعامله مع الأمانة التاريخية مؤديا الحقيقة إلى الأجيال القادمة، دون أن يحتكر تقديم الرأي أو يفرض الوصاية على حق القارئ في تكوين نظرته للأمور، إلا أنه لم يتوانى من الرد بصورة مباشرة وغير مباشرة على المغالين والمغرضين وأًصحاب الهوى، وبذلك فإن مشروع الأعمال الكاملة يعد إضافة مهمة للمكتبة الأردنية، والمطلوب أن يصدر في طبعات شعبية أو من خلال مشروع مكتبة الأسرة ليكون اقتناؤه ممكنا لكل أسرة أردنية.