عرار:

لم يلتفت النقاد كثيراً لرواية هاشم غرايبة الأولى « المقامة الرملية « وربما كان مردُّ ذلك مرتبطاً بصعوبة الرواية وصعوبة مناخاتها وتشتُّت وتشظي الزمان والمكان وتداخلهما وانتشارهما المائع على امتدادٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ شاسع يحتلُّ الزمان والمكان العربي برمته أو هو صورة للتاريخ العربي بزمانيته ومكانيته بعد إزالة إحداثيات الزمان والمكان من مواقعهما.
هذه الرواية التي أخذت شكلاً فنياً تراثياً مرتبطاً بالمقامة التراثية عند الحريري والهمذاني والتي وظَّفها هاشم غرايبة بتنويعاتها متنقلاً فيها بين الرمال والأفلاج والخيول والإبل والكواكب والأنواء والغزوات والغزاة الغرباء والذئاب والحكماء والشعراء والصعاليك والفرسان : كلُّ هذه كانت حاضرةً في الرواية وكلُّ هذه أيضاً شكَّلت وعي هذه الصحراء.
تتكوَّن هذه المقامة من خمسةِ أسفار مذكِّرةً ومتماهيةً مع بعضِ أسفار التوراة التأسيسية وهذا مؤشرٌ آخر يؤشِّر إلى أن هاشم غرايبة كان يبحث عن سرديةٍ وهويةٍ يؤصِّل فيها لهذا الجسد المتراخي من المحيط إلى الخليج، وتنقَّل هاشم غرايبة في ملحمته الرملية بين الأسفار التي كانت موزَّعةً على : سفر التكوين وسفر الخروج وسفر التيه وسفر الرجوع وسفر الأفول.
في سفر التكوين يؤشر هاشم غرايبة لأسطورة التكوين الأولى المتوالدة من ثمر الحنظل المر ومن حمض الزاج وأكاسيده – هنا وهكذا ولد الخميس بن الأحوص ورهطه -، يقول هاشم غرايبة ص 13: «أرى خيلاً وفيلةً.. إبلاً وذئاباً.. جذوع الغاف وأزهار السدر..البلح والطلح.. والحنظل أيضاً، ثمر الحنظل يتدحرجُ نحوي ويفقس عن أنماسٍ أعرفهم..
حيات الصحراء تتمرغ بالزاج وتنشق عن أزارجةٍ تكلمتُ معهم.. حيتان البحر تقذف عرائس ذهبيةً عشقتها.. وعشب البحر يزهر أقراطاً فضيةً ذاتَ أجراس.. قطفتها.. ونخل الواحات يتبزل عن خيلٍ ركبتها ومواشٍ رعيتها وأشعة الفجر تطلق طيوراً هاجرتُ معها» ص 13 
هذا هو الفضاء الذي تشكَّل فيه الخميس بن الأحوص في هذه الصحراء.
في سفر الخروج يفكِّك هاشم غرايبة شخصية الخميس بن الأحوص الذي يُقتل أبوه الذي كان صانعاً لقبيلة شامخ الرملي وتُختطف أمه الثريا من الروَّاج وفي هذا إشارةٌ أن حلم التكوين الطبيعي للخميس – الذي سنرى أنه رمزٌ لأسطورة السلطة والدولة وتشكلها في الصحراء والذي يصنع اللاس على هيئة الثريا فيعبدها الناس - لم يكتمل بقتلِ أبيه وخطفِ أمه الثريا وعليه الخروج للثأر من قاتل أبيه واستعادة أمه الثريا ليكتمل تشكُّله وتحوُّلاته.
لكن الخميس يخرج مرتبكاً بحماره فدعوس وسيفه المثلَّم الفرق فيلتقطه سيارةٌ من الصعاليك ويعتنون به فيعشق الثريا بنت ذيب الناجي شيخ الصعاليك الذي يرفض تزويجه حتى يأخذ بثأر أبيه وأمه فيخرج بحثاً عنهما.
ولكنه يجبن عند التقائه الروَّاج ويقبل بالثروة وبقرط الثريا أمه ديةً لأبيه ويعود لقبيلة شامخ الرملي ثرياً ويتزوج الشيماء ابنة الشيخ ويسيطر على السلطة ويبقى يبحث عن شبيب الصعلوك ومحبوبته الثريا التي تزوجها شبيباً، ويبدأ صراع الصحراء والسلطة والغزو والقتل والسلب والتحالفات وتبدأ تحوُّلات الخميس بن الأحوص المأساوية في حركة هذه الصحراء التي امتدت لتأكل الخارطة العربيةَ كلَّها، وكأن الرواية تستعيد بذلك تاريخ قبائل العرب في الصحراء وانتشارهم وحروبهم وغزوهم وشعرهم وحكمائهم ووقائعهم وأحلافهم ونسائهم وعاداتهم.. الخ.
في دلالات الأسماء في هذه الرواية مؤشِّرٌ على ما يخفيه الراوي حيناً ويظهره حيناً، فالخميس في اللغة الجيش والسلطة والثريا نجمةً عاليةً عبدها العرب والأحوص هو من في عينهِ خللٌ ومرض.
في سفر التيه يواصل الخميس رحلته نحو السلطة ويواصل بحثه عن أمه الثريا ومحبوبته الثريا، ولكن ملكه يسقطُ ويلجأ إلى فلجِ الصياد ليلم شعث شيخوخته مع زوجته أم البنين وولده الأخنس بينما كانت الصحراء يأكلها الموت والرمل والغرباء والأزارجة المتوحشون ويتقاسم الصحراء البر الآخر والنهر الكبير كناية عن الغزاة والغرباء الذين سيطروا على مقاليد الصحراء. 
تتحرك في هذه الأسفار أحداثٌ تاريخيةٌ من تاريخنا كحلف المطيبين ولعقة الدم الجاهليين وحرب داحس والغبراء مما يدل على أن هذه المكونات مزجتها الرواية كمكوناتٍ ذهنيةٍ عميقةٍ في تكوين شخصية الخميس بن الأحوص الذي يمثل صيرورة السلطة والدولة والكيان العربي بعيداً عن شروط وحركة التاريخ في الزمان والمكان.
أبناء الخميس وتوزعهم بين الكهانة والقضاء والتجارة والصعلكة والفروسية تنويعٌ على حركة السلطة والزعامة العربية – الفاقدة لأفقها العالي – والشاعرة بعقد نقص التكوين والكذب الذي مارسه الخميس – رمزها - لإحكام سيطرته على الصحراء.
في سفر الرجوع ويؤشر لعودة الخميس ملكاً بلا مُلك - بعد قتله بالسم لإبنه القريب من الصعاليك الأخنس – برعاية ابنه صنو اللاس التاجر القريب من السلطة الجديدة التي تتحكم بالصحراء، وكأنه يتحدث عن فترة فقدان العرب لسلطنهم الفعلية وتحكم الفرس والترك السلاجقة والصليبيين بتاريخ ومستقبل العرب.
في سفر الأفول يسقط الخميس بن الأحوص قتيلاً على يد همَّام الضرير وكأن في هذا إشارةً عميقةً لانتهاء السلطة والدولة العربية بشكلها المتناسل منذ بداية التاريخ في الصحراء ووقوف الصحراء على مفترق طرق شائكٍ كأنه بداية التكوين الأولى، وكأن الرواية تقول أن هذا النموذج المتناسل سيذهب ولن يؤسس لدولةٍ عربيةٍ قادرةٍ على الحياة وذلك بسبب الخلل التكويني العميق في تكوين شخصية الخميس بن الأحوص والتي حملت أسماءً عديدةً دلالة على عبورها للزمان والمكان العربيين، فهذه الشخصية هي الخميس بن الأحوص وبشر ثم بشر الحافي ثم بشر الخير.. الخ.
هذه الرواية بلغتها التراثية واقتباساتها الشعرية من الشعر العربي القديم والحديث كشعر زهير بن أبي سلمى وعرار ويوسف بن أبي لوز وطلال حيدر تدلِّل على اختراق مقولاتها للزمان والمكان ومزجها لهذه المكونات الثقافية في محاولة لاستيعاب هذه الصحراء ومحاولة للخروج من مستنقع موتها المتنامي.
وربما كان الحوار الذي يدور في سفر الأفول بين الخميس بن الأحوص وخيال الثريا حواراً رؤيوياً حاملاً للكثير من أنساغ الرواية: «الخميس - يالثريا تعالي إلى مملكتك فامتلكيها.
الثريا – الفج.. الخضر.. الواحات.. الجبل الأحمر.. الجبل الأقرع.. كلُّ دياركَ، كلُّ ذاكرتك يا خميس تحت رحمة ريحٍ مُرملة، ويمكن أن تعيدها لحظةُ غفلةٍ إلى الصحراء من جديد.
يصرخ الخميس بن الأحوص : توقفي.. انتظريني.
لم تلتفت الثريا ولم يعد يُسمعُ صهيل الفرس» ص 150 وبهذا الحوار تنتهي رواية المقامة الرملية المتماسكة البناء الروائي والثرية بشخوصها والمشرقة بلغتها وحواراتها التراثية والحاملة لرؤيةٍ عميقةٍ لمآلات الحياة في هذه الصحراء.