|
عرار:
يتبوّأ الشّعر في نفس ناصر الدّين الأسد مكانة عظيمة؛ ولعلّ ملكة تذوّق الشّعر عنده هي التي أسهمت بشكلٍ كبيرٍ في حبّه له، وقد كانت بداية رحلته الشّعرية وهو في سنّ السّابعة عشرة، وله قصائد كثيرة، من بواكيرها (فكرة حائمة)، وله ديوان مشهور بعنوان (همسٌ وبوح)، «وإنْ سئل عن نشاطه هذا فإنّه يردّ بكل تواضع قائلاً: إنّه كان يتمنّى أنْ يكون شاعراً؛ ولكنّ الشّعر عالم وحده ولا يحبّ الشركة» (ناصر الدّين الأسد جسر بين العصور، ميّ مظفر،ص 85)، وعلى الرّغم من قلة نتاجه الشّعري قياساً بآخرين فإنّ مقوّمات الشّاعريّة عنده رصينة، حيث اللغة الليّنة الدّمثة، والأسلوب الشّائق المغلف بالنّكتة، والرّبط المنطقيّ بين القضايا، والتّحليل القريب والبعيد، والتّناول السّهل، والتّصوير الرّحب، والتّذوّق الرّفيع. وبناءً على الأسس الثّابتة التي يراها الأسد للحداثة؛ فإنّه يستخلص تفسيراً لمعناها، ويرى «أنّها منهجٌ فكريّ ومذهبٌ اجتماعيّ ونظرة في الحياة «(تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 296). وقد جاء موقف الأسد من الشّعر الحديث متدرّجاً في محاورَ متعدّدة، ونابعاً من آراء النّقاد الغربيّين في الحداثة، ومن الأسس التي قامت عليها الحداثة في الأدب، ومن الجهود التي بذلها روّاد النّهضة العربيّة، إضافة إلى التّصوّر الشّامل للشّعر الحديث الذي يراه الأسد. وبعد القراءة والتّمحيص في أقوال النّقاد التي سنلقي الضوء عليها لاحقا،ً حدّد الأسد المعايير التي قامت عليها الحداثة في الأدب، وهي: 1 الخروج عن الشّكل الشّعري أو النّمط المألوف من حيث عدد التّفعيلات أو نظام القافية. 2 غلبة العقلانيّة بحيث تصبح الفكرة هي الأساس في القصيدة. 3 اعتماد لغة الكلام اليوميّ وترك مقاييس البلاغة والفصاحة. 4 استخدام الأسطورة والرّمز والإشارات التراثيّة، وقد سبّب هذا الاستخدام غموضاً للقصيدة يتطلب تأمّلاً في الصّور والأفكار والإشارات.(ينظر: تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 298). ويقسّم الأسد الجهود التي قام بها روّاد النّهضة الأدبيّة أواخر القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى أربعة مراحل (محاولات)، ونذكّر أنّها أسهمت في بلورة موقفه من الشّعر الحديث، حيث تمثّلت بالأسماء الآتية: 1 الرّائد الأكبر محمود سامي الباروديّ الذي قام بتمزيق الأكفان التي كادت أنْ تدفن شعرنا العربيّ، فأخذ يعبّر عن مضامينَ جديدةٍ بديباجة مشرقة، وموسيقا عذبة. 2 أحمد شوقي: انتقل بالشّعر من القصائد المتفرّقة إلى المسرحيّات الشعريّة، واستمر وآخرون معه يعبّرون عن الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة في عصرهم، ومع ذلك ظلّ هؤلاء الشّعراء يدورون في موسيقا شعرهم وألفاظه. 3 ثمّة محاولة جديدة تمثلت في إطلاق أواخر الأدبيات من قيود القافية، وسمّي هذا الشّعر بالمرسل، ومن روّاده توفيق البكريّ، والزّهاويّ، وعبد الرّحمن شكري، وأحمد زكي أبو شادي، وعلي با كثير. ولم يُكتب لهذه المحاولة الانتشار والذيوع، حيث نَبَتِ الأذن عن هذا النّوع؛ لأنّه كان تقليداً محضاً لما يسمّى بالإنجليزيّة بلانك فيرس. 4 محاولة الجيل الثالث من روّاد النّهضة الذين اطلعوا على الحركات الشّعريّة التّجديديّة في الغرب، ولا سيّما ما قام به عزرة باوند 1885 1972 وتوماس ستيرنز إليوت. إذ أدرك هذا الجيل أنّ هذه المحاولات حافظت على الشّكل العموديّ للقصيدة؛ فعدّوا هذا النّظام مقيِّدَاً لحريتهم في الانطلاق نحو التّجديد؛ لذا جعلوا التفعيلة أساساً لشعرهم؛ لتكون بديلاً عن الشّطرة. كما لم يثبت عدد التفعيلات في السّطر الشّعري الواحد، فأخذ يقصر ويطول. (ينظر: مقدّمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 292 293). وقد بدا تأثر عدد من الرّوّاد العرب بمحاكاة الأنماط الأدبيّة الجديدة في الغرب عندما» أوغل بعض هؤلاء الرّوّاد في تقليد الاتّجاهات الأدبيّة الغربيّة الحديثة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا». (تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 294}. ويستمرّ الأسد في تجلية موقفه من الشّعر بسرد بعض مواقف النّقاد الغربيّين الذين دعَوا إلى تبنّي الحداثة في الأدب، ومن هؤلاء: وليام بيتر الذي يقول « لقد كنّا نريد التخلص لا من مقاييس البلاغة وحدها فحسب؛ بل من العبارة الشعريّة أيضاً، لذلك حاولنا أنْ نخلع كلّ ما يتسم بالتكلف، وأنْ نختار أسلوباً أقرب الى الكلام، بسيطاً كأبسط أنواع النثر ...». (مقدمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة ؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 294). وولت ويتمان: غيّب الوزن والقافية بالمعنى المألوف، وهذا الأمر أثار ضجّة في الأوسط الأدبيّة والثقافيّة. (ينظر: مقدمة لدراسة الحداثة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 295). ريتشارد: يرى أنّ ما يسمّى بـ (موسيقا الأفكار) تعوّض عن غياب الوزن التّقليدي والقافية المعتادة. (ينظر: مقدّمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 295). أما إليوت فقد أوضح رأيه في التّطور والتّجديد في الأدب بقوله «من حينٍ إلى حين تحدث ثورة، أو تحوّل مفاجئ في شكل الأدب ومضمونه. حينئذ يرى عدد غير قليل من النّاس أنّ بعض الكتابات التي شاعت على مدى جيل أو أجيال، أصبحت بالية ولم تعد تستجيب لأساليب التّفكير والشّعور والكلام المعاصر. ويبرز نوع جديد من الكتابة يقابَل في أوّل الأمر بالإنكار والسّخرية. ونسمع أنّ التّقاليد قد حُقِّرت، وأنّ الفوضى قد عمَّت. وبعد حين تُظهر الطريقة الجديدة أنّها ليست عامل هدم أو تخريب؛ إنّما هي إعادة بناء وتكوين. إنّ الأمر ليس أنّنا أنكرنا الماضي، كما يحلو للخصوم المعاندين لكل حركة جديدة وكذلك للمؤيّدين الأغبياء أنْ يعتقدوا، ولكنّنا وسَّعنا تصوّرنا للماضي، ورأينا الماضي في ضوء ما هو جديد في صورة جديدة «. (مقدّمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 296). ورأى الأسد أنّ الحداثة في الشّعر لم تنلْ حظها الكافي لتبلغ مداها، وتحقق ذاتها، وتتطوّر مع المراحل والأجيال المتعاقبة، حيث وقف الأسد عند روّاد هذه الحركة، ورأى أنّ ما من أحد من تلامذتهم، أخذ يفعل ويؤصّل لهذه الحركة بقصد الحداثة، كما لم ترد في قصائد الجيل الثالث من هذه الحركة النّماذج التي تتجاوب مع الذّوق العربيّ المعاصر، بحيث تستسيغها الأذن، وتسكن إليها النّفس . كما يرى أنّ تحرّر أبناء هذه المدرسة من قيود القافية، ومن التّمرّس بأساليب الشّعر العربيّ الأصيل، ومن رياضة النّفس على الغوص في أسرار العربيّة ... كل ذلك جعل التّلاميذ من الجيل الثاني ومن بعدهم يستسهلون اقتحام محراب الشّعر، فأتوا بكلام لا يمتّ إلى الشّعر بأدنى نسب ولا إلى الكتابة الأدبيّة بأوهى صلة. (ينظر: مقدّمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 299). لقد هيّأ هذا الجوّ لأن ينكرَ الآباء أبناءهم ويتبرّأ الأساتذة من تلاميذهم، وأخذوا يقولون فيهم ما كان يقال فيهم من قبل، إذ تعدّ نازك الملائكة أوّل من انقلب على هذه الاتّجاهات، وتبعها صلاح عبد الصّبور الذي وضّح قبل مماته أنّ خطيئته عظيمة؛ لأنّه قد يكون مهّد لهذا النّوع من الشّعر السّائد الآن، فكيف به لو عاش في هذا العصر ورأى المحطة الأخيرة التي وصل إليها الشّعر الحديث؟(ينظر: تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 299 300}. وتبعهما جبرا إبراهيم جبرا، الذي قال « بعد ثلاثين سنة من بدايتنا في عمليّة التّحديث الشّعريّ تحقق الكثير؛ لكنّه في تحققه انفلت. كان للشّعر العربيّ نوعٌ من القدسيّة، الآن فقد الشّعر العربيّ هذه القدسيّة. لقد حضّرنا ثلاثين سنة حتّى أصبح مثل هذه القصائد الحديثة ممكناً؛ ولكن يخيّل لي أحياناً أنّنا أخطأنا بذلك التّحضير؛ لأنّنا مهّدنا لهذا النّوع من الشّعر». (مجلة الحوادث 9/7/1982، ص 51 - 54؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص300) . ويبدو أنّ هؤلاء الرّوّاد لم يتنبّهوا إلى الأساس الذي انبثقت عنه قصيدة النّثر، وينوّه أحمد عبد المعطي حجازي إلى هذا الأمر بقوله «إذا كنّا نريد أنْ نأخذ قصيدة النّثر مأخذ الجدّ، وأنْ نميز فيها بين الجيّد والرّديء وأنْ نتوقع لها مصيراً نطمئن إليه بعض الاطمئنان، فعلينا أنْ نفهم الأساس الذي قامت عليه، وأنْ نختبر ما يقال حولها من كلام، وما يستخدم في هذا الكلام من معلومات واصطلاحات، ولنبدأ بالاسم الذي يبدو لنا من أوّل وهلة أنّه يجمع بين طرفين متناقضين، فالقصيدة من حيث هي شعر لا بدّ أنْ تكون موزونة، فإنْ خلتْ من الوزن فهي ليست شعراً وليست قصيدة ... لكنّ قصيدة النّثر لم تظهر من التّراث العربيّ، ولم تأخذ اسمها من اللغة العربيّة؛ وإنّما ظهرت في الشّعر الفرنسيّ وأخذت اسمها من اللغة الفرنسيّة، بويم إن بروسو وقد ترجمنا هذا الاسم إلى اللغة العربيّة فكان قصيدة النثر. معنى هذا أنّنا نحاول أن نلقّح الشّعر العربيّ». (جريدة الأهرام 26/2/1992، ص 16؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 300 - 301). ويفهم من الكلام السّابق أنّ قصيدة النّثر قد تشبه مولوداً جديداً جاء بسبب تلقيح الشّعر العربيّ بأصولٍ تنحدر من الشّعر الفرنسيّ وتعتمد « اعتماداً جوهريّاً على الخصائص الصوتيّة للغة الفرنسيّة، وهذا ما ينفي التناقض الذي وجدناه في الاسم من ناحية؛ لكنّه من ناحيةٍ أخرى يحددّ المشكلة الأولى التي تواجهنا في كتابة قصيدة نثرٍ باللغة العربيّة، وتتمثل هذه المشكلة فيما بين لغتنا واللغات الأوروبيّة من اختلافٍ جوهريّ في الطبيعة الصوتيّة نشأ عنه اختلافٌ جوهريّ بين عَروض الشّعر العربيّ، وعَروض الشّعر الأوروبيّ، وهو اختلافٌ يسمح للشّاعر الأوروبيّ بأنْ ينشئ قصيدةً غير موزونةٍ. يبدو أنّ اللغة العربيّة لا تسمح بها للشّاعر العربيّ». (جريدة الأهرام 26/2/1992، ص 16؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 301). وسمعنا من الأسد أنّه لا يستسيغ قصيدة النثر، ولا يعدّها شعراً، وكان يتساءل لماذا لانسمّيها نثراً فنيّاً؟ ولماذا نشوّه المصطلح؟ ومع ذلك كان يعدّ بعض الشّعر العموديّ نظماً لا قيمة له. ثم يأتي بعد ذلك ليتصدّر المشهد محمود درويش الذي يقول « إنّ ما نقرأه منذ سنين منذ تدفقه الكمّيّ المنهور ( ؟ ) ليس شعراً. ليس شعراً إلى حدّ يجعل واحداً مثلي متورّطاً في الشّعر منذ ربع قرن مضطرّاً لإعلان ضيقه بالشّعر. وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه ولا يفهمه. إذ كيف تسنّى لهذا اللّعب العدميّ أنْ يوصل إلى إعادة النّظر والتّشكيك بكامل حركة الشّعر العربيّ الحديث، ويغرّبها عن وجدان النّاس إلى درجةٍ تحوّلت فيها إلى سخرية؟ لقد اتّسعت تجريبيّة هذا الشّعر بشكلٍ فضفاض حتى سادت ظاهرة ما ليس شعراً على الشّعر، واستولت الطفيليّات على الجوهر؛ لتعطي الظاهرة الشّعريّة الحديثة سمات اللعب والرّكاكة، والغموض وقتل الأحلام والتّشابه الذي يشوّش رؤية الفارق بين ما هو شعر وما ليس شعراً «. (مجلة الكرمل، العدد السّادس، ربيع 1982، ص 6؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 301). ولم يكتفِ محمود درويش بما سلف، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ ليصل إلى قناعةٍ تامّة تعدّ الشّعر الحديث شعراً تجريبيّاً، واتّضح ذلك في قوله « إنّ الشّعر العربيّ الحديث كحركةٍ جديدةٍ هو شعرٌ تجريبيّ حتّى الآن، وبالتّالي فإنّه قد شطح شطحاتٍ بعيدةً جعلت الاغتراب عن النّاس إحدى السّمات البارزة في العلاقة بين الشّعر والنّاس ... فأنا أرى أنّ الشّعر العربيّ الحديث ليست له ضوابط، وليس هناك نقدٌ حقيقيّ يواكب هذه الحركة فالحركة سائبة بدون أيّ ضوابط، وأصبح عمرها الآن حوالي نصف قرن وقد آن الأوان؛ لكي تنتج ناقدها وضوابطها. نأخذ مثالاً على ذلك اندلاع ظاهرة قصيدة النّثر، وكأنّ قصيدة النّثر هي الشّعر الوحيد الحقيقيّ وكأنّ الوزن وإتقان الأدوات اللغويّة هما نوعٌ من السّلفيّة والرّجعيّة، أنا لا أعتقد ذلك إذا كانت أدوات الشّاعر هي اللغة، فعليه أنْ يتقن لغته».{جريدة الشّرق الأوسط 26/2/1984،من مقابلةٍ معه؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 302). وأخيراً يَسِمُ محمود درويش الشّعر الحديث بالرّكاكة بعد انتشار هذه الظاهرة وتفشيها فيه « ومصدرها فعلاً هو سهولة النّشر، وعدم وجود ضوابط واختلاط الحابل بالنّابل في ذهن القارئ العربيّ الذي لا يستطيع في أحايين كثيرة أنْ يميز بين الغثّ والسّمين من الشّعر الآن ... إنّك تستطيع أنْ تجد لغة مشتركة ومتشابهة عند غالبيّة الشّعراء، وكأنّ القصيدة العربيّة الحديثة بمئات تجلياتها هي قصيدة كتبها شاعر واحد». {جريدة الشّرق الأوسط 26/2/1984، من مقابلةٍ معه؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 302). وبهذا يمكن تحديد رأي الأسد في الشّعر الحديث الذي يُشرك فيه القارئ العربيّ ويترك له هامشاً؛ ليسهم في إرساء قواعد وأصولٍ جديدةٍ لهذا الشّعر تتصل بتراث الأدب العربيّ، وهُوية الأمّة. ويظهر ذلك عندما تساءل» فهل آن الأوان بعد نصف قرنٍ من محاولات التّجديد والتجريب، ومن الشّعر المرسل والشعر الحرّ (شعر التفعيلة) ثم من قصيدة النّثر، ومن شعر الحداثة وشعر ما بعد الحديث أنْ تستقرّ صورة الشّعر الجديد أو الحديث أو الحَداثيّ !! على أسس فنيّة مستساغة؟ ما أظنّ ذلك بمستطاع، فلا بدّ أنْ تتجاور في كلّ عصر صور ومستويات مختلفة من الإبداع والإنتاج. ونرى ذلك في عصورنا الأدبيّة السّابقة، مثلما نراه في أوروبا وأميركا في هذا العصر، إذ لا يمثل نتاج الحداثة أو تيارها جزءاً من النّتاج الأدبي هناك. فهل نقبل أنْ نوسّع الحيّز الشّعري بحيث تتعايش الأنواع الشّعرية المختلفة، ونترك للقرّاء والنّقاد (الحقيقيّين) أنْ يجولوا في هذه الأنواع كما يحلو لهم وكما تسيغه أذواقهم، على أنْ لا يلبسوا الحقّ بالباطل ويكتموا الحقّ وهم يعلمون (هل حقّاً يعلمون؟ ).{مقدّمة لدراسة الحداثة الشّعريّة العربيّة؛ تحقيقات في اللغة والأدب، ناصر الدّين الأسد، ص 302 303). وتقدّم ميّ مظفَّر في كتابها (جسر بين العصور) وصفاً دقيقاً لبنية القصيدة وسماتها وألفاظها عند ناصر الدّين الأسد، ولأسلوبه الأدبيّ والنّقديّ، إذ يمكن الوصول من خلال هذا الوصف إلى إشارات تعزز رأيه السّابق في الشّعر الحديث، فهي ترى « أنّه على الرّغم مما تعرّضت له القصيدة العربيّة المعاصرة من تغييرات في بنائها الخارجيّ والدّاخليّ نتيجة لتغير ظروف العصر، وتغير المفاهيم والمدركات تبعاً لذلك، وعلى الرّغم من مواكبة ناصر الدّين الأسد لكل هذه المتغيرات من كثب، فقد نأى بشعره بعيداً عن أيٍّ منها، وظلَّ محافظاً على نمط كلاسيكيّ في بناء قصيدته. وهذا ممّا ينسجم مع ما استقر عليه كلّ من أسلوبه ومزاجه في الحياة والأدب على السّواء. وقصيدة ناصر الدّين التي اتّسمت بالاندفاع والتّمرّد في بداياتها، والتي كانت تسعى لصياغة مفردات الحياة اليوميّة شعراً، تحوّلت مع الزّمن، ومع نضج التّجربة الفنيّة والإنسانيّة معاً، إلى صوت انتقائيّ عميق، هادئ النّبرة، يخفي وراء فكره المتأمّل الرّصين مشاعره التي تحول لهيبها إلى جمْر كامن في الأعماق». (ناصر الدّين الأسد جسر بين العصور، ميّ مظفر، ص 101). وسُئل في مقابلة معه أجراها مازن حجازي عن رأيه في الشّعر الذي ينتشر في أيامنا هذه، فأجاب بقوله «أمّا هذا الشّعر المنتشر هذه الأيّام فما أكثر الشّعراء، وما أقلّ الشّعر!». موقع شيخ العربيّة: ناصر الدّين الأسد. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-03-2017 10:15 مساء
الزوار: 1453 التعليقات: 0
|