|
عرار: عرار تنفرد بنشر دراسة تحليلية لنجاح ابراهيم لديوان عبد العزيز البابطين"بوح البوادي "و " مسافر في القفار " هل تتسعُ القفار لعشق مُسافرٍ فيها ؟ نجاح إبراهيم- سوريا " دعوا البوادي تحتفي بالعاشق الكبير ،ولا تشيعوا له سرّاً ، فسموّ الحُبّ في تواريه ." ثمّة عاشقٌ يجوبُ الصّحارى ، يحترقُ بهجيرها ،يخترقُ لهابها، دون أن يتأفف أو يملّ ، بل كلما مشى عميقاً فيها ازداد رغبة في التوحّد بها ، والتلظي بأوارها . ترى لماذا اختارها ؟ بدءاً من تسميته لديوانيه بمسمياتها "بوح البوادي "و " مسافر في القفار " إلى حضورها في كلّ قصيدة ، يشيرُ إليها تصريحاً تارة ، وإيحاءً تارة أخرى ، مُستخدماً مفرداتٍ تخصّها ولا تخصّ غيرها . ثمة مبرّر يقدّمه بنفسه فيقولُ : " لأنّ البوادي جزءٌ لصيقٌ وهام داخل نفسي ، وفي حياتي ، فنفسي تنطلقُ في الصّحراء إلى أقصى مداها ، وتتفتح رؤاي فيها إلى أقصى اتساعها ، وأعتبرها المكان الطبيعي لروحي ونفسي ، أستنشقُ هواءها بملء رئتيّ ، وأرنو إلى فضائها ، وأفقها البعيد بمدى اتساع بصري ، فأجد فيها كلّ ما تشتهي نفسي من راحة ...." لماذا كلّ هذا التسويغ ؟ وقارئ " مسافر في القفار" والمُبحر في قصائده لا تخفى عنه الحقيقة ، ولا يمكن لأمداء شاسعة أن تواري عاشقاً كبيراً مثله ، بل تكاد تضيقُ عن عشقه لأنّ " كلّ امرئ يصبح شاعراً إذا مسّه الحبّ ، فكيف إذا كان شاعراً بالأساس ؟!" وما توحّد الشاعر الدكتور عبد العزيز البابطين ، وتماهيه في الصّحراء إلا كثيراً من هذا القبيل، وتخفيفاً من هذا الذي يستعرُ في داخله : كأنّ نار الهوى تغلي بأوردتي والدّمع من طارفي يهمي وينتثرُ ما أعجب الحبّ إذ يكويك لا عجه غاب المحبونَ عن عينيك أو حضروا ففي هذه الأبعاد ، وهذه الخلوة الرّوحية – لنجاري رغبته في مواراة الحبّ –يحاولُ أن يُصغي إلى صوتٍ داخليّ عميق وحميم ، بعيداً عن الضجيج في مدن الإسمنت ، فيُحسّ بالرّاحة لما ينتجُ من تناغم وتجاوب بينه وبين ذاته ، فالطبيعة هي التي تؤمّن هذا الانسجام له ، المتوافق مع إيقاع حسّه الشعريّ ، فيولّد شعراً راصداً نبضات داخله ، وبالتالي ينبعثُ كائن مجلوّ بالحريّة و... بالعشق . إضافة إلى أنّ هذه القفار المترامية الأطراف، تشكلُ رغبة الشاعر في بلوغ المطلق ،أليس الشعر راعفاً أبداً لامتلاك أمداء المطلق ؟ فحين تتلبسه تلك الرّغبة ، رغبة صياغة العالم وتكييفه كما يحبّ ، فإنه يريد مساحة تلائم حجم طموحه ورغائبه ، ومغامراته ، والشاعر مغامر ، ديدنه أن يجوب الآفاق إن كان على المستوى الواقعي أو المجازي ، وحلمه تلك المدينة الفاضلة التي يخلقها حلمه وخياله ، مدينة تجسّد رؤاه الملونة ، واشتياقاته النبيلة ، وصبوته المتأججة ، لهذا كله ارتأى أن يغوص في بيئة يرتاح إليها ،تخفي ما يودّ إخفاءه ، وقد اختار الشاعر عبد العزيز بيئة عربية موجودة في نبض كلّ عربي ، لأنّه ابن لها ، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدلّ على ارتباط الشاعر بجذوره .وقد اختارها ليطلق في مداها عشقه كيلا يقبض عليه أحدٌ متلبساً به ، إضافة إلى حرصه على المرأة التي يعشق ،فودّ أن يهيم في البراري لأنّ ثمة امرأة أشعلت حبر القصيدة في قلمه ، امرأة اختصرت كلّ النساء فيها ، وجمع هو أزمانه (أمسه ، وحاضره ، وغده ،) فيها ،ثمّ مضى في الآفاق ، يمعنُ في خطوه ، حاملاً هواها بين خفاياه ، بينما حنينٌ يضجّ به ، ويهيج الشوق بالحشا ، وليس له سوى أن يهبط عميقاً في الصّحراء ، وحيداً إلا من عشقٍ يواريه عن الأعين ، ومخيلة تستذكرها وتخفف من حدّة شوقه إليها : نساءُ الكون جُمعت بليلى فليلى كلّ غادات الوجود ولكن الذي احتاط منه الشاعر ، وظلّ زماناً يُخفيه ، قد شاع بين الآخرين ، فعشقٌ بحجم الشمس كيف يُوارى ؟ إن نَكتُم الحبّ لم تُكتمْ دلائله فنحنُ أسراهُ في سرّ وفي علنِ فمهما بلغت مهارته في إخفاء أمارات العشق ،لا بدّ وأن تفضحه ، سواء حركاته التي تصدر عنه مفاجئة ومختلفة ،أو لونه الذي يصطبغ به ، أو غياباته الطويلة واختفاءاته المتكرّرة ،وهذا ما عبّر عنه قائلٌ ذات زمن مضى : " علامة من كان الهوى في فؤاده إذا ما رأى الأحباب أن يتحيّرا ويصفرّ لونُ الوجه بعد احمراره وإن حرّكوه للكلام تشوّرا وهذا ما حصل مع الشاعر ، فقد قبض الشاعر سليمان الجار الله على شيء من هذا ، وأدرك سرّ العاشق المتيم ، فانبرى ليخبر صديقاً آخر هو الشيخ عبد الرحمن الملا ، عبر قصيدة عنونت ب " رجل الفيافي " يقولُ فيها : صباحُ الخير يا رجل الفيافي ويا من لا يقرّ له قرارُ إلى قيس الذي قد بان حقاً وقبلاً كان يُخفيه ستارُ وقد استغرب المتسائل عن شعر العاشق كيف يجيءُ غزيراً ، لا يشقّ له غبار ،و لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا وقفت خلف السّطور امرأة : إلى من لا يقول الشعرَ إلا إذا شبّ الجوى وبدا أوارُ يذكرنا هذا القول بالشاعر "بابلو نيرودا " الذي كرّس حياته لحبّ الغيد بغية كتابة الشعر ، يعترفُ في إحدى كتاباته : " إنّ جميع النساء اللواتي أحببتُ ، كنّ يعتقدن أنني أكتبُ الشعر لأجلهنّ ، أمّا أنا فلقد كنتُ أحبّ لكي أكتبَ الشعر ." يكملُ الشاعر سليمان فيقول متعمقاً في فضحه إذ لا حدّ لسعادته بعد هذا الاكتشاف : له في الغيد أبيات تحاكي نسيباً قاله قبل الكبارُ بنات الفكر تأتيه سراعاً مطيعاتٍ له ، ولها انكسارُ لعلنا نتساءلُ : ماذا يريدُ الشاعر سوى أن يكون عاشقاً ، مُلهَماً ، تتوالد الأفكار في رأسه المتوقد ، ويدقّ قلبه ، ومع ذلك تأخذه سحائب التأمل والرّغبة في الوحدة ، فيُحسّ أنّ خصالاً جديدة تضافُ إلى قميصه ، ألم يقل العباس بن الأحنف : وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ولا خير فيمن لا يحبّ ويعشقُ ونعود إلى قصة تفشي وانتشار حبّ الشاعر ، فحين تصلُ القصيدة إلى يد الشيخ عبد الرحمن ، وهو صديق حميم ، وكذلك يقرض الشعر ، فما أن يقرأها حتى يكتب قصيدة خاصة للشاعر يسأله فيها : يقول الجارُ : إنك أنت قيسٌ وقبلاً كان يخفيك استتارُ وأنك لا تقولُ الشعرَ إلا إذا شبّ الهوى وبدا أوارُ فيا عبد العزيز أجب بصدقٍ فهل لك في فؤادِ الغيدِ ثارُ؟ وبعد هذا السؤال المباشر ،يخففُ عنه ، ويطلبُ منه أن يعترف ، وينطق علناً ، لأنّ الحبّ قد مسّه هو أيضاً ولا ضير من البوح : فلا تُخفِ الجوى والوجدَ إنّا كوتنا من ضرام الحُبّ نارُ فغنّ للجمال وعاشقيه ولا يثنيك عن شدوٍ وقارُ ثمّ يؤكد له أنّ أيّ رجل ، مهما كان ، سيصبح عاشقاً إذا ما سقط الخمارُ عن وجه فاتنة ، فالحبّ هبة من الله وعلى المرء أن يتقبلها بسعادة لا تحدّ ، وهذه فلسفة العظام ، يقول ج . كونارد ،في هذا الأمر: " ابكِ على رجل لم يتعلم قلبه في شبابه أن يأمل، وأن يعيش ، وأن يحبّ ." وحين يطمئنُ قلبُ العاشق ، يردّ على قصيدة الشيخ، فيبدؤها بمدح مكانته وفضله ، ويعرّج على شعره إذ يعتبره كبير أرباب القوافي ، ثمّ يستحلفه ألا يثير ذكريات قديمة بعد ما تغيّرت معالم الدّرب ، وألا ينكأ جراحاً في قلبٍ سكنه الأحبّة ثمّ غادروا ، ويؤكد على حجم حبّه لهم، فقد عشقتهم روحه طويلاً كما عشق الهزارُ الأغصان الطريّة ، وسيبقى حبّه أزلياً ، يقول : وحبّي راسخٌ في عمق ذاتي فما ليلٌ طواه ولا نهارُ ثمّ يطلبُ منه أن يسأل " قيس " الذي ردّدت هواه جميع القبائل العربية، وصار مضرب المثل في العشق أكان حبّه يشبه حبّ الشاعر العاشق ؟ وتلك المرأة التي تدعى ليلى إن علمت بحبه لليلاه أتراها تغار منها ؟ ثمّ يبيّن خشيته من إنشاد شعره على الملأ، كيلا يقلدّه الهزار ، لأنّه يغني ملء وجدانه ، ويخاف أن يستعير طيرُ الحبّ ألحانه ، لهذا فقد صبر على الجوى ، وألم الجوى زمناً طويلاً ، وحاول قدر المستطاع أن يُبقي سرّه دفيناً لا يدري به أحد: أداريه وأكتمه ليخفى فيفضحهُ على وجهي اصفرار ويزيد من فضحه الشاعر سليمان جار الله بقصيدة يتناقلها كلّ من في الشرق والغرب ، ثمّ يتمنّى على الشيخ أن يغضّ الطرف عن هذا الحبّ حتى يُنسى ولا يذع سراً ، فأمله به كبير لأنّه صديق حميم، وفوق ذلك هو جار، والجار له حقّ على الجار . إلا أن هذا التجسّس السافر على الشاعر العاشق، لم يثنه عن ممارسة طقوسه التي اعتادها ،فيستمرّ في ترحاله ، هو المسافر أبداً، والقفار وجهته ، والرّاغب دائماً لرفع شراع العشق فيها إذ ينأى عن البوح باسم المرأة التي يعشق، فيدعوها ليلى أو نوار ، أسماء نساء عربيات شهيرات بالعشق ،ويطلق أشعاره فيها بعد أن يُحلّ عُرى شوقه أمام المدى الواسع الأغبر ، يطفئ بذلك لواعج لا تنتهي ، ويستحضر الحبيبة ، فهو لا يصرّ على اللقاء بها ، مُحاذراً، وإنما يكتفي كأيّ عاشق حقيقيّ بالذكرى التي تبعثُ على الاحتراق، وعلى تدفقِ الشعر : أنا لا أصرّ على اللقاء لأنني يكفي بأنا بيننا التذكار فحين يُمسي وحيداً في صحرائه ، ويستحضرُ من يُحبّ ، فإنّ هذه القفار المجدبة تستحيلُ جنة تميدُ بالأشجار، وتترف بالأزهار ،وتمتلئ اخضراراً، وهذا ما يبتغيه ، بينما قارئ قصائد "مسافر في القفار "يُدهشه الحبّ النقي ، والمشاعر الخالصة ، والوصف الرّاقي ، فينداحُ في عالم مُترع بالرؤى ، ينساقُ بإيمانٍ كبير إلى قدسية القسم الأيسر من الصّدر ، وتحديداً إلى تلك القبضة النابضة بحجم الكفّ ،فتحرّك فيه الرّغبة ليسمو مع إيقاعاتها . الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 12-05-2017 11:19 مساء
الزوار: 2636 التعليقات: 0
|