|
عرار:
لرواية خناجر الظّل للكاتب الأردني الشاب مهند الرفوع بصمة خاصة، ليس فقط هي بصمة الرفوع في مشوار كتابته الروائية بحكم أنها الرواية الأولى له وإنما أيضا بصمة تختزل تقاسيم الواقع المعيش بتعرجاته الكثيرة وانقساماته المؤلمة التي يتحول فيها الحق إلى حلم وليس بالغريب إلى سراب، فيكفي أن تستذكر تفاصيل البصمة لتعرف كُنه المجتمع وهويته. ولئن حاك الرفوع تفاصيل روايته ضمن الإطار المكاني الأردني بشخصيات لسانها أردني بمختلف لهجاته إلاّ أنّ ما تطرق إليه عربي شامل بامتياز. يُصدِّر الرفوع روايته بإهداء إلى الجاني والضحية في الوقت ذاته فيزيد من تأهب قارئه وتحمسه لمعرفة من هو الجاني ومَن هي الضحية، وفي خطوة ثانية يفصح لقارئه بمعلومة أخرى بقوله بأنّ( هذه الرواية كُتبت في الزمن الذي قلت فيه: هنيئا للمزارع الذي ينشغل بتنصيب الفزاعة، فالطيور أكبر أعدائه) وكأنّ الرفوع يقدم لقارئه مفاتيح فك شفرات اللغز لمعرفة ملامح نصه، القريب جدًّا من القارئ أينما كان ما دام يقرأ الحرف العربي. تبدأ الرواية مع خيوط الفجر الأولى لتنفتح على عالم آخر يبدأ شيئا فشيئا في الاتساع والاكتظاظ، من بصيرا تلك القرية الساكنة البائسة وصولا إلى العاصمة عمان الناعمة الحالمة ، غير أنّ الرفوع لا يفصح عن اسم هذا البطل الذي رسم له كل الملامح فبان واضحا لقارئه وكأنه يراه أو يرافقه في خروجه من البيت فجرا إلى مشواره بحثا عن فرصة عمل بل وكأنه يسمع صوته وهواجسه ومخاوفه. فكيف يمكن لشخص أن يرافق آخر دون أن يعرف اسمه؟ الأكيد أنّ ذلك ليس من باب الصدفة، إذ نرى أنّ الكاتب تعمد التكتم عن اسم بطله في بداية الرواية، ليزيد من تعلق القارئ بهذه الشخصية ويقترب منها أكثر،حتى يعرف أنه ليس أمام شخصية منفردة بل رمزية تجمع كل الذين خاب ظنهم في مجتمع غير عادل ودولة لا تقل إهمالاً عنه. وكأنّ بالرفوع يقول لقارئه ليس مهما أن تعرف اسمه فهو ليس فردا هو كل هؤلاء الشباب المعطلين عن الأمل أمام تعنت الحياة وقساوة الظروف المحيطة بهم وظلم المجتمع البيروقراطي الذي يجعل خريجا جامعيا متفوقا يتنازل عن كل أحلامه ليرضى بالنزر القليل إن استطاع لذلك سبيلا.. تتنقل الرواية بشكل عام بين إطارين مكانيين متناقضين: القرية بكل ما تحمله من رموز الحاجة والفقر إضافة إلى ما تتصف به من هدوء والعاصمة عمان الصاخبة بالحياة والضوضاء والناس وكأنّ بصاحب خناجر الظّل يود الإشارة من خلال نصه إلى ما تعيشه مجتمعاتنا من خلل في التنمية بين مدنها وقراها. فلو استمعنا إلى أي مواطن عربي في أي مجتمع لوجدناه يشكو من مركزية الخدمات في المدن الكبرى وكأن ساكن القرية مستثنى منها رغم أنه لم يقترف أي ذنب سوى ارتباط مولده بجغرافية القرية. وبنَفس كاريكاتوري مؤلم يصف الرفوع هذا البون الشاسع بداية من الطريق المتعرجة التي لا تملك إلا أن تتمهد انبساطا أمام هيبة عمان (كان يدرك أنّه الان يقترب من البوابة الجنوبية لعمان، فاهتزازات الباص قلّت، والسير على الطريق أصبح أكثر نعومة). ليكون الطريق هنا ترجمة لاختلاف الحياة بين المكانين. ويوغل الرفوع في دعم حضور الراوي العليم الذي ينير للقارئ دروب الخارطة ليفهم المكان وما ارتبط به من خلفيات ثقافية وإجتماعية وإقتصادية فيقول (فكل ما في الأردن قرى باستثناء عمان التي يتنفس فيها كل شيء، فحتى البيوت القديمة لها رونق في عمان. العاصمة تختزل الدولة: الاردن هي عمان،وسكان عمان هم وحدهم مدنيون، لكنها قاسية على أبنائها الاخرين الذين يهبطون عليها اضطراريا، فكأنها لا تعترف بهم أو تتكبر عليهم..) ومن الأطر المكانية المهمة داخل خناجر الظل برزت المستشفى فقد احتلت المساحة الكبرى في الرواية ليسلط الكاتب الضوء من خلالها على واقع آخر بكل ما يرتبط به من وجوه الحياة المختلفة كشراسة الطبقية وقوة المال في أكثر المجالات إنسانية بالاضافة الى واقع الأطباء ومهنة التمريض ومرارة الحاجة والإحساس بالعجز، ورغم ذلك لا يشعر القارئ بالملل بقدر ما يزداد تعلقا بأمير ورغبة في معرفة إلى أين ستؤول الأحداث. تتميز الرواية بنفس واقعي جذاب رغم قساوته إذ لا يمكن للقارئ إلاّ أن يجد بعضا منه بين معاناة أمير وشخصية نضال كما لا يستطيع إلا أن يتماهى مع الأم ويتعاطف مع الخال أحمد ويُعجّب بإيمان ،،إلى ذلك الحد الذي يتخيل فيه ملامح كل منهم ويستمع إلى أصواتهم ويراهم وهم يمشون ويغادرون ويأتون ويتحدثون.. ورغم قساوة الأحداث وتأزمها إلا أن الرفوع اختار أن ينهي روايته بانفتاح على أكثر من قراءة فلا نعرف هل هو التفاؤل الذي قد يتخيله القارئ مع عودة البصر تدريجيا لأمير، ليرمز لفئة الشباب وماتعيشه من تهميش بحثا عن نور يضئ لها الطريق ولو من بعيد، أم هو الغموض الذي يلف ما حولنا ويجعلنا عاجزين عن التكهن بالآتي ولو تخيلا. وفي رده عن سؤال حول ما مدى اقتراب الرواية من تجربته الخاصة، قال مهند الرفوع: الرواية لا تعنيني مطلقا، وإن كان الكاتب لا يستطيع التملص من محيطه. أما بالنسبة لامكانية أن يُتبعها بجزء ثان فأوضح: لم أفكر فيه لغاية الآن لأنني أرى أن الفكرة وصلت تماما للقارئ الجيد. والنهاية جاءت مفتوحة لأنني كنت مرغما عليها وحدث الرواية لا يمكن أن ينتهي بشكل جازم. ومع ذلك نرى أن الرفوع يحث قارئه على الإيجابية وعدم الاستسلام دافعا إياه إلى التغيير والتحلي بالأمل والمسؤولية، بقوله (إن وجع الآخرين سيلحق بنا إن بقينا نراقبه من بعيد، فعلينا ألا نكتفي بالطيران فوق نهر يجف من تحتنا). جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 23-06-2017 12:36 صباحا
الزوار: 1008 التعليقات: 0
|