كمطلع قصيدة شعرية يطالعنا عنوان مجموعة (أنزفني مرة أخرى) ليعكس لنا تلك الحالة الشعورية والانفعالية المنطوية بداخلها، إذ يصدِّر لنا الكاتب (عمّار الجنيدي) فكرته بأن كل قصة من تلك القصص ما هي إلى نزف فكري وشعوري لروحه التي انسكبت على الورق وفوق السطور، وبأن هناك إشكالية ما أو مجموعة من الإشكاليات تعالجها تلك المضمومة في نزف جديد سبقه نزف إبداعي آخر؛ فالعنوان الشعري عنوان إشكالي يكون مستلهماً في العادة من معاني المتن ودلالاته، ولقد تخير الكاتب أن يكون عنواناً ذو دلالة ذاتية لينطلق بنصوصه وأطروحاته، ومن خلال التوحد الانفعالي مع القارئ من الخاص إلى العام الذي يمثل في النهاية جمهور القراء المنفعلين بمحمولات المتن وشحناته.
ويأتي الإهداء كعتبة مناصية تالية تؤكد الفكرة الذاتية التي تدور حولها قصص المجموعة حيث يوجهه الكاتب الأردني (عمّار الجنيدي) إلى: « كلّ الذين مَنَعَهُم الكِبُر، فلَمْ يُبايِعوني».
تبدأ قصص المجموعة بحالة شعورية متماهية مع العنوان يجتمع فيها التشكيل البصري واللغة الشاعرية والتخييلية للقصيدة مع الفكرة والأساليب الكتابية السردية مكونين (أقصودة) مائزة، لتكون أول الشواهد على تفعيل معيار (الانفتاح الأجناسي) الشائع في مجموعة (أنزفني مرة أخرى)، ذلك المعيار الذي يعد من أهم خاصيات القصة القصيرة جداً، حيث نجد هذه الكبسولة القصيرة تستوعب مجموعة من الأجناس الأدبية والفنون المجاورة، كتشغيل اللقطة السينيمائية، ولمحة الخاطرة، وسخرية النادرة، ولغز التنكيت، والسرد القصصي والروائي، والصورة التشكيلية، والتوتر الدرامي.
بيد أن أهم انفتاح للقصة القصيرة جداً هو استيعابها لفن الشعر، وتوظيف الشاعرية السردية، أو ما يسمى عند «إيف تادييه Yve Tadi « بالمحكي الشاعري. ويعني هذا أن الكبسولة القصصية تنساق وراء الشاعرية الإبداعية، وذلك بواسطة استخدام القالب الشعري، واللغة الموحية، والصور الشعرية الانزياحية، وهذا ما وعاه (الجنيدي) وفعله في متونه القصصية بشكل جيد.
تميط موضوعات قصص المضمومة اللثام عن ملامح القبح الإنساني، وتكشف العور السياسي، والديني، والفساد الوظيفي، والمجتمعي، من خلال انقسام الشخوص إلى موتيفات (سلطوية، و مثيرة، و مستأسدة)، وأخرى (إنسحابية، و عاجزة، و مستضعفة) كما في قصة (الرهان) حيث منع العجز ذلك البطل عن اللحاق بالفاتنة الشهية لأنه (بلا قدمين)، بينما منع (إدمان أقراص الفاليوم) بطل قصة (صباح الخير أيتها الجارة) عن تجاوز مرحلة التحية.
فالبطل الرئيس غالباً يكتفي بالرصد، والمشاهدة، والتلصص دون التدخل في مُجريات الأمور لا سيما إذا تعلق الأمر بمفردات الخطيئة كالشهوة أو الجشع؛ فلطالما نجده واقفاً خلف باب بيت أو وراء نافذة محتمياً بحائل ما يواري عجزه وقلة حيلته.
تتغير فضاءات المجموعة المكانية وتتقلب بين مغلق ومفتوح، داخلي وخارجي، ذاتي وعام كما تتغير الديكورات على (الركح/خشبة المسرح) وأعتقد أن الكاتب قد أفاد من مهاراته في الكتابة المسرحية حيث خلق عرضاً متكاملاً للمجتمع بطوائفه وموضوعاته وموتيفاته، فجعل القصص عبارة عن مشاهد تتغير فوق خشبة المسرح التي تمثل الحياة برمتها، وتكون شخوص المجموعة شخوصاً متشاركة في عرض واحد ومجمل هو عرض الحياة، حيث يجلس القارئ كمشاهد له وتتحقق مقولة (شكسبير): «وما الدنيا إلا مسرح كبير»، ويدعم هذا التأويل انتهاء المجموعة نهاية درامية، وبشكل كرنفالي لا يخلو من المفارقة في قصة (الحفلة).
تنبني القصة القصيرة جداً على أنسنة الأشياء والجماد والحيوانات، تشخيصاً واستعارة ومفارقة وامتساخاً. 
فكلما زاد قبح المضمون وعظمت سلطة وفساد الموتيفات الشخوصية زادت الحاجة إلى استخدام العناصر التقنية الثانوية التي تحضر وتغيب (كالتشخيص، والأنسنة، والتناص، والترميز، والعنونة، والتصوير البلاغي، والالتفات، والتشخيص الدلالي، واستخدام المنظور السردي)؛ فتتحول مثلاً الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جداً إلى أقنعة بشرية رمزية، تحمل دلالات إنسانية معبرة، تكون بمثابة عوامل سيميائية فاعلة في مسار القصة، وذلك بأبعادها الإحالية والمرجعية والرمزية كما هو الحال في قصص (النورس، و جرذون، و خوف، و المنقذون) حيث استخدم (عمّار الجنيدي) الترميز المتمثل في الامتساخ الحيواني لتلك الموتيفات، كما استخدم (الأنسنة، والتشخيص) في قصص أخرى مثل قصة (انتظار).
تننبي قصص مجموعة (أنزفني مرة أخرى) على مجموعة العناصر الدرامية الأساسية للقصة القصيرة جداً (كالمفارقة، والحالة، والخاتمة)، فعناصر(كالمفارقة، والخاتمة) يلجأ إليهما الكاتب عادة لإظهار نقيض ما يعنيه، فيظهر المديح بما يشابه الذم، ويظهر الذم بما يشابه المديح، وتحل الخاتمة المدهشة في النهاية لتبعث الإثارة والحماس في نفس القارئ، بينما تمثل الخاتمة الأهداف أو الغاية التي سعى الكاتب إلى إيصالها للقارئ خلال صياغته القصة.
استخدم الكاتب مجموعة من الأساليب (البوليفونية) كتعدد الأصوات من خلال تعدد الضمائر بين (متكلم، وغائب، ومخاطب)، تعدد الفضاءات المكانية والزمنية، وتعدد الأطروحات، فضاء العتبة أو فضاء الأزمات، الأجناس الأدبية المتجاورة والمتراسلة والمتداخلة كما ذكرنا آنفاً، تعدد أساليب الخطاب السردي (حوار، و مونولوج، و سرد مشهدي).
كما فعّل وبإمتياز تقنية (تراسل الحواس) سواء كان ذلك في النص أو الهوامش والعتبات فنجده يقول:
(قلقٌ مشروخ، زمهريريُ الغضب، دمك طرياً... الخ) مما أكمل المحسوس بخصائص الملموس في ذهن المتلقي.
وبصفة عامة فقد اجتهد المبدع الأردني (عمّار الجنيدي) وأظنه أيضاً قد نجح في تقديم مجموعة من التقنيات الفنية التى كانت بمثابة أطر أنيقة لأفكاره و أطروحاته، كما أنها قد أضفت جمالاً ومتعة قرائية مائزة في مجموعته (أنزفني مرة أخرى)، تلك المجموعة الناضجة النضرة والمفعمة بالإشكاليات الإنسانية والنفسية والظواهر المجتمعية بشكل حداثي والتي تم صياغتها وتقديمها في قالب إبداعي لجنس أدبي لائق بهذا العصر.