|
التراث اللامادي ودوره في تأريخ الواقع الثوري للفترة الاستعمارية بالبلاد التونسية من خلال نصوص الأغني
عرار:
إعداد الدكتورة الزازية برقوقي: لقد مثل التراث مبحثا مهما للدارسين، ورغم أهميته الوظيفية في تشكيل الماضي وبناء الحاضر والتأسيس للمستقبل، إلا أنه ظل يعاني من المجهولية على المستوى المفاهيمي والوظيفي، وهو ما جعله محل تجاذبات وتساؤلات حول مفهوم التراث وعلاقته بالواقع الثقافي والاجتماعي والبيئي، والتساؤل حول أهميته في ظل التصادمات والتشكيك في مدى فاعليته. وفي تتبع المسار التاريخي للمحطات المهمة التي أولت عناية للتراث كمبحث مستقل، نجد أنه رغم المجهودات المبذولة حول التراث من المنظمات الدولية مثل اليونسكو منذ سنة 1972 وما أقرته في مؤتمرها في دورته 17، من اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، لم يظهر مفهوم الموروث الثقافي غير المادي إلا في حدود سنة 1990، بعد التوصيات التي قدّمت لليونسكو حول حماية الثقافات التقليدية، و في سنة 2001 بدأ الاتجاه نحو تحديد مفهوم التراث اللامادي، اذ تبنت الدول الأعضاء في منظمة اليونسكو سنة 2003 اتفاقية لحماية التراث الثقافي وقعت المصادقة عليها من قبل أكثر من 78 دولة سنة 2007. وفي اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، اتفقت المنظمة الدولية في تعريف التراث اللامادي على أنه "الممارسات والتمثلات والتعابير والمعارف والمهارات وكذا الآلات والأدوات والأشياء الاصطناعية والفضاءات الثقافية المرتبطة بها والتي تعترف بها الجماعات والمجموعات وإذا اقتضى الحال الأفراد باعتبارها جزءا من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي اللامادي ينتقل من جيل الى آخر، ويقع بعثه منجديد من قبل الجماعات والمجموعات طبقا لبيئتهم وتفاعلهم مع الطبيعة ومع تأريخهم، وهو يعطيهم الشعور بالهوية والاستمرارية، بما يسهم في تطوير احترام التنوع الثقافي والإبداع الإنساني1". ولكن يبدو أن هذا التعريف شامل ويفتقر إلى الدقة والوضوح. وعليه يمكننا القول أن التراث عموما، يمثل كل ما تم توارثه من السلف، وهو كل ما أفرزته الأنشطة والمهارات الحسية (المادية) والفكرية، وهو نتاج تفاعل الإنسان مع الطبيعة في محيطه الثقافي والاجتماعي والبيئي، وقد مثل التراث جملة التراكمات التاريخية التي أثثت الحضارات المتعاقبة ونهلت من مشارب مختلفة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية... والتراث يعكس بكل وضوح واقع المجتمعات الحضارية لمختلف الفترات الزمنية المتعاقبة، ويشمل كل ما خلفته الحضارات من إبداع فردي أو جماعي خلال تاريخها الطويل. ويصنف التراث حسب صنفين وهما التراث المادي والتراث اللامادي، ولكن ما نريد التأكيد عليه: هو الترابط والتداخل والتكامل بين الصنفين الذي يجعل من الصعب الفصل بينهما إن لم نقل من المستحيل، فغالبا ما نجد أنفسنا بين التجاذب المفاهيمي للمادي واللامادي، اذا ما علمنا أن كل المنجزات التراثية المحسوسة قد سبقتها تصورات وأفكار لا مادية على مستوى العقل البشري، وقد وقع تجسيدها على ارض الواقع لتتمظهر بهذا الشكل أو ذاك. ولكن لابد من تناول المسألة دون تعقيد، وكإجراء منهجي فقط سنعتمد التصنيف الأكثر اتفاقا بين الباحثين وهو: أن التراث المادي يحتوي على كل ما يخلفه الأجداد من: آثارثابتة: كالمباني والمنشات والمعالم التاريخية والمواقع الأثرية وغيرها. والآثار المنقولة: وهي تجمع كل ما هي منقولات من مخطوطات، وكل المكتسبات من منجزات وأدوات ومهارات ذات الصبغة الثقافيّة والتاريخيّة والفنيّة وغيرها. والآثار الطبيعية: والمتمثلة في التشكيلات الجيولوجية والمواقع الطبيعية... أما التراث اللامادي محور حديثنا، فيشمل الإبداع الفكري والروحي والموروث الشفوي، من العادات والتقاليد وأشكال التعبير الحيّة الموروثة، وكل ما خزن في الذاكرة الجماعيّة من موروث شفوي تداولته الأجيال المتعاقبة شفويا، كالأقوال والأمثال والحكايا والقصص والأساطير والأنماط الغنائية المختلفة وغيرها، .وقد عكست هذه التعابير التراثية في مجملها واقع المجتمعات في جميع مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية والعقائدية والسياسية وغيرها. وعلى حد عبارة عبده قاسم فقد «سجلت الشعوب رؤيتها لتاريخها في فنونها الشعبيّة بأشكالها المختلفة، وحملت الموروثات الشعبيّة كل التفسيرات والرؤى والقيم والمثل والأماني والتطلّعات التي كانت تحرك الجماعات الإنسانية خلال رحلتها الطويلة عبر الزمان2». يمثل المأثور الشّفوي عامّة إرثا جماعيّا فائق الأهميّة، كما يعتبر كنزا ثمينا للباحث كأن يعتمده مثلا في الكشف عن الأطوار التّاريخيّة التي مرّت بها البلاد التونسيّة ومنها فترة الاحتلال الفرنسي. لقد عبّر الموروث الشّفوي عن موقف التّونسيين من الاحتلال، وكان للشّعر والأغنية البدويّة دورا مهما في قراءة الواقع التّاريخي صراحة كما عاشه وعبّر عنه السكان، لا كما جاء في الوثائق والمدونات المعادية والتي كانت أهدافها الحقيقية القضاء على الهوية الجماعية وتشويه صورة الثوار والمقاومين وكل المعارضين للاحتلال الفرنسي. ويعتبر الموروث الغنائي البدوي إحدى الأدوات المعرفية المعتمدة، للوقوف على بعض الخصائص الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات التي تتبناها، فالأغنية البدوية اقتربت وعاينت مختلف الجوانب الحياتيّة للشّعوب والمجتمعات، بل ساهمت بصورة أو بأخرى في تدوين الأحداث وقراءة واقع المجتمعات عبر مراحله التّاريخيّة. ويمثل الواقع السّياسي احدى المواضيع المتناولة في نصوص الأغنية البدويّة، وهي بدورها لعبت دورا اعلاميّا تواصليّا وتوثيقيا مهما داخل المجتمعات ومثلت مرجعا تاريخيّا هاما. لذلك تعد الأغنية البدويّة إحدى الوسائل والآليات التّوثيقيّة الهامة، التي قد نستند لها لفهم واقع المجتمعات في فترات تاريخيّة معينة، مادامت نصوصها قد نقلت بكل جرأة المعارك والصّراعات، ومجّدت القادة والأبطال وعبّرت عن موقف المجتمع من السّاسة ومن الخونة. لقد ساهمت الأغنية البدويّة إلى حد كبير، في تأريخ الوقائع والأحداث الحاصلة في المجتمع التونسي في الفترة الاستعمارية، فنقلت مشاغل وهموم المجتمع إبان حكم البايات، كما عكست الواقع الثّوري للسكان في فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد وألمّت بكل جوانب الكفاح المسلّح، عسكريّا واجتماعيّا وسياسيّا، كما عملت الأغنية البدويّة على تخليد أسماء الأبطال والزعماء ونشرها بين الأوساط الاجتماعيّة. ولئن ركّزت بعض الأغاني البدويّة على البطولات الفرديّة في المقاومة فإن ذلك لم يكن إلا تمجيدا للفعل الجماعي الذي يستند عليه هذا البطل أو ذاك، فلقد سجلت لنا الذاّكرة الجماعيّة وحمل لنا الموروث الشّفوي بطولات المقاومة وأشاد بزعماء وأبطال الثّورة التونسيّة ضدّ الاحتلال الفرنسي، ونقشت أسماؤهم بأحرف أدبيّة وفنيّة شاءت إلا أن تخلّد ذكراهم، مثل ما ورد في المثال التالي3 والذي يروي قصة البطل الدغباجي4: جو خمسة يقصوا في الجرة*** وملك الموت يراجي صُبْعَه والقرَّاص يلمَّه*** يعجل ما يتناطى واللي ينُوشَه يا ويل أمَّه*** فاح قتار اشياطه يجي مرمي مصبوغ بدمَّه*** سِمْ منحَّس لاطه معاها يتكلم بالرَّمْشَة*** ويحكم بالكِفاجي جو خمسة يقصوا في الجرة*** وملك الموت يراجي و لحقوا مولى العركة المرة*** المشهور الدغباجي يجي مرمي مصبوغ بدمَّه*** سِمْ منحَّس لاطه كما هو ملاحظ في هذا النص المطول الذي يروي قصة ملاحقة البطل الدغباجي الشهيرة ورفاقه المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي. وقد سجلت النصوص الشفوية ونشرت مثل هذه القصص التاريخية. فقد كان الدغباجي يحمل بداخله الروح النضالية والثورية شأنه شأن الكثيرين من أبناء الوطن، الذين قاموا ضد الظلم والاستبداد المسلط من المستعمر، فثاروا وتمردوا. والرواية التاريخية عن الدغباجي تقول انه كون مجموعة من المجاهدين عادت خلسة عبر التراب الليبي. وعند وصول أخباره إلى الفرنسيين، عزموا على مطاردته، والمطالبة برأسه، خاصة بعد حادثة "الزلوزة" في غرّة جانفي 1920، التي قتل فيها عدد من أعضاء الديوانة الفرنسيين. ويروى أن المستعمرين قد اعتمدوا أسلوب الانتقام والتنكيل بأهالي الدغباجي، حيث عمدوا إلى ردم الآبار والمواجل لقطع الماء عن المقاومين، ونقلوا الأهالي مع حيواناتهم إلى الحامة. وأجبر السكان على حمل السلاح لمطاردة المقاومين، وتشجيع الخونة والعملاء مثل المسمى "عماربن عبد الله بن سعيد"، الذي وعدته السلطات الاستعمارية بمنصب خليفة الحامة. ومما جاء في هذا النص الغنائي، والذي يتوافق مع الرواية التاريخية إلى حد ما، أن هذا الأخير حاول إستدراج الدغباجي، ولكن الدغباجي تفطن للمكيدة ويروى أنه: بعث له رسالة بتاريخ 16 فيفري 1920, يقول فيها "أنتم تطلبون منا الرجوع إلى ديارنا لكن ألسنا في دريارنا؟ إنه لم يطردنا منها أحد، فحركتنا تمتد من فاس إلى مصراتة، وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا... ونقسم على أننا لو لم نكن ننتظر ساعة الخلاص لأحرقنا كل شيء، والسلام من كل جنود الجهاد"5. ولعل هذا المثال الغنائي قد كشف لنا عن أطوار الملاحقة وأحداث المعركة الدامية بين الدغباجي ورفاقه والملاحقون لهم. كما عّبر عن الحس الثوري والروح النضالية التي كانت تدفع المقاومين للتحدي لقوة الاستعمار وبطشه، وقد تحلّوا بذلك حتى في لحظات إعدامهم. والأمثلة العربية لهؤلاء الأبطال كثيرة. وفي نفس موضوع قصص المقاومين، والخونة تسجل لنا الذاكرة الشّعبية والأغنية البدوية أيضا، قصّة مقتل البطل الثائر بشير بن سديرة على يد الخائن "بلقاسم الفرطاس6، الذي حرّضته سلطة الاحتلال على تتبعه واغتياله، واعتمد هذا الخائن على الحيلة وتمكّن من الاقتراب من بشير بن سديرة وتظاهر بإتباعه حتى أمنه، ولكن ما لبث أن غدر به واغتاله بالرصّاص وهو نائم. وكان لخبر موت البطل بشير بن سديرة الأثر الكبير على الأهالي الذين بكوه بلوعة وحرقة وتداولت في شأنه عديد الأمثلة المعبّرة عن بطولاته ومكانته لدى قبيلته مثل: المِنْيَة رَاكِبْ فُوڨْ حْصَانْ فــــَرْخْ بْلاَ جْنَاحِيـــنْ يطِـــــــيرْ مِتْغَشِّشْ ڤَلْبِي مَلْيَانْ أَيَــا فُرْسَانْ نَعْطُو نْهَارْ عْلَى بَشِيرْ كما سجّلت لنا الذّاكرة أغنية حزينة جاءت لرثاء بشير بن سديرة والدعوة للأخذ بثأره ويقال فيها: نُوحِي يَا زِينْ التَّخْلِيلَة عْلَى خُوكْ العَاتِي ڤِتْلُوهْ تْشَفُّوا فِيهْ كْلاَبْ الغِيلَة ولاَخَلَّى رْجَالْ لْيَفْدُوهْ يَانِسْوَة لَو فُكُّوا الخِلَّة عْلَى العَاتِي ڤَالُوڤِتْلُوهْ وقد تضمنت هذه المرثية خطابا كان موجها إلى أخت بشير بن سديرة ودعوتها لإقامة مندبة في شأن أخيها، كما وردت دعوة صريحة وتحريض مباشر لأهله من الرجال على الأخذ بثأره وهو ما حصل فعلا، فيروى أن عائلة بشير بن سديرة عملت على ملاحقة بلقاسم الفرطاس إلى أن علمت ذات يوم بوجوده بإحدى مقاهي مدينة قفصة، فذهبت إليه وثأرت لابنها بقتله. وقد كتبت في هذا الشأن قصيدة شعرية7 شعبية، تروي كل تفاصيل الحادثة نسوق بعضا منها وهي: لهدو بالوجهين كبار محمد سمع الوجه وثار درز قبلة مغنتر مختار يحسابهم القومية جوه منين دعس بعد مشوار ثم رد الفكر لخوه... وفي قراءتنا لحمولة الأمثلة الغنائية الشّفوية، يجعلنا نتأكد أنها تعد إحدى الروافد الهامة في معرفة الوقائع والأحداث التي نفتقد إلى وثائقها المكتوبة، كما قد تنقل لنا بعض القصص بجزئياتها وتفاصيلها الدّقيقة مثلما لاحظنا ذلك. والدارس للأغنية البدويّة، يجدها قد ساهمت بشكل كبير في بلورة الفكر الثوري، كما عبرت عن المواقف النضالية للمجاهدين وأهاليهم، اذ نقلت لنا معارك المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي وواكبت مختلف الأحداث التاريخيّة، حيث صورت رحى المعارك أحسن تصوير ووصفت حياة المجاهدين والمعارك التي كانوا يخوضونها ضد قوات العدو الفرنسي، ومثّلت بذلك مصدرا ومرجعا شفويّا هامّا يساهم في استكمال الصورة التّاريخيّة لأطوار الماضي. ومن خلال دراساتنا السابقة لهذا الموضوع وقراءتنا لمحتوى الأغاني المتداولة سنحاول الإتيان على بعض المعارك التي خاضها المجاهدين و دارت رحاها في بعض مناطق البلاد التّونسية مثل: . معركة سيدي عيش8 بقفصة1954. وهي معركة شهيرة، تداولت أطوارها وانتشرت بين الناس، وردّدت حولها أمثلة شعرية وغنائية متعددة مثل: نـْـهــَـــيِّــــرْ سـِـــيـــعـِـــيــــشْ القُوَّة الْــتِمْشِي مَــا تْوَلِّــيشْ لَزْهَـر9 وسَـاسِـــي10 مْـغاَشِـــيشْ حَصّـــــَادَة ورَاهِـمْ لَقَّـــاطْ طَــلْعـُـو ذْرَارِي لِــفْــرَاشِـيــشْ لَـزْهـَـرْ فـِي الكَــفْرَة بَڨَّـاطْ شـُــوفْ لَــزْهَــرْ ولَّـى دُولـَـــة عِـنْــــدُو كَــانْ المَـانِـيَــاتْ لـَـــزْهـِـرْ كـِـــي تْـــــــهـَــيَّـــــأ واعْرَضْ الوَاجْــهَة لُولـِيَّـة فـِـي ايــــــدُو ثْــمُــونِـــــيَّــــــة وطَاحْ لِيهُمْ بِالضَّرْبْ الحَارْ لـــَــــجْــــــنَـــــــادْ قـْــــوِيَّــــة ومَا صْـفَـنْهَا كَــانْ الطَّرَّارْ الله يُنْـِصــــــرْ حِـزْبْ الثُـــوَّارْ المُجَـــاهِـدْ لـِيلْ مْعَ نْهَــــارْ ويروى أنها كانت معركة كبيرة، جمّعت أكثر من فصيل مقاومة وحشدت عددا ضخما من المجاهدين تحت قيادة مجموعة من القادة نذكر منهم: لزهر الشرايطي والعكرمي الحاجي وعلي بن سليمان الفرشيشي... وفي تحليل هذا المثال، نجد الأهالي يتغنّون بمعركة سيدي عيش ويستعرضون الأحداث ويصفون المواقف البطوليّة النضاليّة للقادة والمجاهدين، في التصدّي لجيش الاحتلال، وقد نجحت الأغنية في نقل الحالة النفسيّة التي بدا عليها قادة معركة سيدي عيش، وخاصّة كل من لزهر الشرايطي وساسي لسود... معركة "قبرار"1-2 أكتوبر1954 وهي المعركة الشّهيرة التي لازالت ذاكرة الأهالي تسجل أحداثها التاريخية، وقد دارت في جبل قبرار بمنطقة الرّقاب من ولاية سيدي بوزيد وكانت بقيادة محمد بشلولة11 وبمشاركة 67 مقاوما، وقد استشهد فيها القائد وخمسة من رفاقه. ومن منطلق سعينا للوقوف على دور الأغنية في نقل أحداث الماضي وقراءة الواقع التاريخي لفترات معينة. فقد مثّلت الأغنية البدويّة في معركة " قبرار" سندا تاريخيّا مهما كشفت عن أحداث المعركة بجزئياتها وتفاصيلها الدّقيقة التي رأينا أنها تتوافق تماما مع ما دون في بعض المراجع التاريخيّة12 وهو ما قرأناه في المثال التاّلي: نْهَيِّرْ بَشْلُولَة و مِتْيَصِّلْ مِنْ سَـــــاسْ فحُــــولَــهْ بَشْــــلُـــولَــــة حَــــــارْ بَشْـلُولَة بُـوعْصَابَة حَـــارَ نْــهَـــــارِيــنْ13 مْعـَـاهِـمْ والثَّالِثْ بِالــحَبْ شْــوَاهِمْ كــَـــــافِـرْ عَــــڨْـــــــدَاهْ ضَرْبُو بِالمُـــوزِرْ تَـكَّــــاهْ وِلْـــدْ أُخْـتُـــــه حْــــــذَاهْ خَرْخَطْ لُعْصَـابَة غَضْبَــانْ و نَوِّضْ فِي عْـڨَابُو لُعْمَـــارْ وقد أشادت هذه الأغنية بشجاعة وإقدام القائد محمد، فقد مثل مفخرة لأهله وعشيرته، كما سردت لنا قصّة استشهاده، في المعركة التي استمرت لمدّة يومين في جبل قبرار، يقاتل فيهما جيش الاحتلال الفرنسي، حيث يروى أن القائد تمركز مع مجموعة المقاومين في موقع واحد وظلّ صامدا في نفس المكان إلى أن استشهد، وبدت الحركة التي قام بها ابن أخته في إطلاق الرصّاص اثر استشهاد القائد بشلولة، حركة رمزيّة ذات دلالة معنويّة توحي بمواصلة النّضال والحرب ضد العدو مهما كانت الخسائر. وهذه الحركة تعيدنا أيضا إلى مشهد إعدام الدغباجي، وإطلاق زوجة أبيه لتلك الزغردة المدوية والتي تحمل رمزية دلالية لا تخلو من الرفعة والتحدي. ومن خلال مجمل الأغاني التي تناولناها بالدّرس في هذا المجال، فقد كرّست الأغنية البدويّة عديد الأفكار والقيم ونشرتها بين الأوساط الاجتماعيّة، وقد اكتسبت مشروعيتها التاريخية، بما سجلته من أحداث أتت على ذكر أطرها الزمانية وفضاءاتها الجغرافية، ومثلت نصوص الأغاني رسائل إعلاميّة هامّة نقلت لنا أخبار المعارك التي دارت بين المجاهدين وجيش الاحتلال الفرنسي، وعّرفت بالقادة والمجاهدين فوثّقت أسمائهم ونشرتها بين عامّة النّاس، وإلى جانب دورها الإعلامي قامت الأغنية أيضا بدور تحسيسي للسكّان، باعتبار الموقف المناهض للاستعمار الفرنسي على أنه غزوا للدين الإسلامي، وكان ذلك عاملا إضافيّا لنشر الوعي الجماعي، وإيقاظ الشعور فيهم وتقوية اللحمة بين أفراد الشعب الواحد، ففي مثل هذه المجتمعات لا ينفصل مفهوم الدّين عن الوطن ولا المقاومة عن الجهاد، فذلك الكل يشكّل الهويّة الوطنيّة التي تستوجب الاستماتة في الدّفاع عنها. و في النهاية لا يسعنا الا القول بأن المجال لا يسمح بعرض: القائمة الطويلة من الأغاني الإضافية التي وثقت مجمل الأحداث والمعارك التونسية ضد المستعمر الفرنسي، كما نشير أننا قد تطرقنا إلى بعضها في أطروحة الدكتوراه في العلوم الثقافية، التي تحمل عنوان: " "الغُنَّايَة"بريف سيدي بوزيد بين الواقع الاجتماعي والسّياسي والثّقافي دراسة انتروبوموسيقيّة. المراجع والإحالات 1 اجتماعات اليونسكو عام 2001 - مفهوم اليونسكو للتراث غير المادي ، موقع اليونسكو . * نص إتفاقية حماية او صون التراث الثقافي غير المادي ، على الرابط : http://unesdoc.unesco.org/images/0013/001325/132540f.pdf 2عبده قاسم (قاسم)، بين التاريخ والفلكلور، المربوطية، الهرم، منشورات عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط 2, 2001، ص.10. 3 المرزوقي(محمد)، "محمد الدغباجي, " دار المنار, 1979. 4 محمد الدغباجي أو محمد بن صالح الزغباني الخريجي وكنيته الدغباجي (1885-1924) مناضل تونسي،. مثل بين 1918 و1924 أسطورة حية في البلاد التونسية بعد عمليات عسكرية ناجحة ضد المستعمرين. نودي الدغباجي للتجنيد، سنة 1907 ثم تطوع سنة 1913. في الجيش الفرنسي بحكم الحاجة وأرسل إلى حامة قابس. لحماية الحدود الليبية التونسية اثر ثورة ليبيا آنذاك, وبعد حصول اشتباك بين ثوار تطاوين وجيش الاحتلال, فر الدغباجي من المعسكر الفرنسي والتحق بصفوف الثوار مع خمسة من رفاقه, ثم هاجر إلى ليبيا مع بعض رفاقه وشارك في بداية نشاطه في مهاجمة الحصون الفرنسية بالحدود. وفي مايو 1922 قبض عليه في ليبيا من طرف الجيش الإيطالي وسلم إلى القوات المحتلة الفرنسية وحكم عليه بالاعدام في 27 أفريل 1921. وتم تنفيذ الحكم في 1 مارس1924 في الحامة أمام أعين أهله. - السجل القومي لشهداء الوطن ، دار العمل للنشر والتوزيع ، القصبة ، تونس ، 1978 . 5 المرزوقي(محمد)، "محمد الدغباجي،" دار المنار، 1979. https://ar.wikipedia.org/wiki 6 شخص انتدبته سلطة الاحتلال للتخلص من بشير بن سديرة، وحاز في المقابل على ميدالية وجراية شهرية تقدر ب ثلاثين ألف فرنك آنذاك. 7 انظر النص كاملا في، المرزوقي(محمد)، دماء على الحدود، الدار العربية للكتاب، تونس، 1975، ص 164-167 8 يذكر أن سيدي عيش قد شهد معركتين داميتين الأولى كانت بتاريخ 9/9/1954 وأما المعركة الثانية فكانت مساء 20/11/1954. 9 المقاوم لزهر الشرايطي، وهوأحد المقاومين التونسيين الذين شاركوا في حرب فلسطين سنة 1948 وقاد المعارك بالبلاد التونسية إلى الاستقلال، ولكنه أعدم في ستينات القرن الماضي أثناء حكم الرئيس بورقيبة، (وهوأصيل منطقة عمرة بقفصة). 10 المقاوم ساسي لسود اليزيدي، شارك أيضا في حرب فلسطين سنة 1948 أين تعرّف على لزهر الشرايطي، وهو من أبرز قادة الثوار بتونس( أصيل الجنوب التونسي، من قبيلة بني زيد ) 11هو القائد محمد بن بلقاسم بن بشلولة اليوسفي، قاد العديد من المعارك ومنها أيضا معركة جبل " قولاب الشهيرة" والتي يذكر أن القوات الفرنسيّة استعملت فيها الأسلحة الثقيلة وطائرات استكشاف وطوابير من المشاة ذوي الدربة المتينة والمتمرسين على حرب العصابات العائدين من الفتنام، وقد أسفرت هذه المعركة على استشهاد 26 مقاوما. انظر الشرايطي(عبيد منصور) وزيدي (بشير نصر) " ثورة ثوار وأنصار" تاريخ الحركة الوطنية المسلحة التونسية 1952- 1954، ط السفير الفني،2006. 12 نذكر منها: الهاني (التوهامي)، "قمودة تاريخهاو أعلامها"، تونس ، ص132. - الشرايطي(عبيد منصور) وزيدي ( بشير نصر) " المرجع السابق". - والسجل القومي لشهداء الوطن، دار العمل للنشر والتوزيع والصحافة، ديسمبر 1978، القصبة تونس. 13 المقصود به يومي المعركة:1-2 أكتوبر 1954. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الأربعاء 16-01-2019 06:01 مساء
الزوار: 3642 التعليقات: 0
|