الموسيقى وحي يعلو على كل الحكم والفلسفات» بيتهوفن. والشعر كذلك وحي يعلو على كل الحكم والفلسفات، ففي زمن وقته مرايا ودهشة تخرج من الحلم، الى الكلمات لتكون امتداداً لامتدادات أخرى كأنها موسيقى يعزفها قوس الكمان على الأوتار الى نهايته، ثم يعود مره أخرى الى بدايته يسحب الموسيقى معه ليطلقها موجات زرقاء تتلألأ وهي تؤرجح ضوء الشمس، هكذا هي الكلمات عندما يكون نبضها الشعر وهي تمر على قوس المعنى مفتونةبإيقاعاتها، تشبه الشاعر تماما وتحمل الكثير من سماته وسمات بيئته التي نشأت على فطرتها. ومنصور الشامسي في ديوان «تحدث ايها الجمال « (والصادر عن معهد الشارقة للتراث) في مطولاته الخمسة: «إنَّها سُفُنُكِ القادِمَةُ»، «مَسافةٌ منْ حُبٍّ وثَرْوة بينَ لَآلئِ النُّفوسِ والبِحارِ»، «ممالك «الدُّرور» والرايةُ عاطفيةٌ»، «لا مَرْئِيَّةٌ قُصورُكِ، مُطِلَّةٌ على العَالَمِ، وتَغْزِلُهُ»، «الجَواهِرُ، (في شُؤونِ الحَياةِ والزّينَةِ والحُبِّ)، تَحَدَّثْ أيُّها الذَّهَبُ» يقدم سفرا شعريا جميلا، هو امتداد لمشروعه الشعري في ديوان (ممالك النخلة) والصادر عام 2017عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وبالتعاون مع مجموعة أبو ظبي للثقافة والفنون، والذي دون فيه تاريخا شعريا لتراث بلده دولة الأمارات العربية المتحدة. و العنوان «تحدث ايها الجمال», افترضه الشاعر وبقصديه تامة ليقدم اقتراحه الجمالي لتكوين ملامح أسطورة هذا الاقتراح يتسع ثم يتحول فتتخذ الكلمات فيه هيئة الممكن وحضور التكوين، ففي الجزء الأول من قصائد الديوان ( إنَّها سُفُنُكِ القادِمَةُ ) هذا العنوان الموحي والذي يشبه الرؤيا، بل هو الرؤيا ذاتها، فنرها موجات وأيضا أشرعة ممتلئة بالريح لسفن قادمة فوق تلك الموجات وبياضها الذي تمر عبره الأفكار وهي مبتهجة بتراثها وتاريخها الذي دارت حوله المعجزات، وأشرق أوان حضورها ؛ هذه السفن المتحررة من أمراسها وأمراس الوقت يقودها الشاعر الى حقيقتها القصوى؛ لتمارس طقوسها وهي تتعقب الأساطير في تأويلها البعيد، فهنا الرؤية لا تكفي، وعلينا أن نشعر بإحساس ما يمكنك التقاطه منها ونتبع الطريق الى حيث تشير بوصلة الإبداع، هذه السفن تحمل دلالاتها وشفرات تأويلها، تحمل ثقافة سواحلها وتحلم بالوصول أبدا؛ فهي بمغامرتها اللغوية محتشده في مسافة الكلمات التي تحتوي الفكرة وتتنفس الشعر مؤيدة بخيال الشاعر الإبداعي، الذي يمتلك القدرة على وضع هذا الخيال على خارطة الواقع، ويجعلنا نشاركه في ركوب هذه السفن يراودنا حلم الوصول أيضا، على اعتباره عالم متحقق وهذه ميزه يمتاز بها الشامسي ويتفرد فيها عن سواه ما يشير إلى حتمية الوصول للفكرة وتحقيقها؛ فسنجد في عتبة البدء إن المشهد سينفتح على الليل وهو يحلم هذا الحلم الذي سيتسع ليصبح موج الليل / موج الأفكار في الانتظار حيث التأمل (السَّفينةُ تَمضِي ) هو معجزة أخرى لأسطورة تتكون وتتناسل في حضورها؛ وهو ما تتعاكس به الكلمات والأفكار كالمرايا التي تحاول أن تثبت وبعمق عرفاني ما تسعى إليه بقوة اليقين الذي بحوزتها، وتؤسس لبلاغة الحضور . بل إنها جدلية الحضور والغياب: «وَحْدَهُ اللَّيْلُ يَحْلُمُ/ عَلَّمَني الانْتِظارْ/ وَحْدَها السَّفينةُ تَمضِي/ لا بَحارْ/ وَحْدَها الأَطْيارُ تَسيرُ/ سَمِعَ أَنينَها الطّينُ/ وَغَدَتِ انْشِطارْ/ خُطُواتُكِ التي بَحَثَتْ عَنّي/ بَحَثْتُ عَنْها/ لا أَثَرَ../ غُبَارْ». المكان يتسع بمدى البحر الذي تمخر به هذه السفن يأخذ شكل الطبيعة المتناهية والزمن مطلق هو كل الأزمنة التي مرة والتي ستمر على هذه الأمواج الطرية التكوين؛ الطبيعة والزمن هي فكرة الشعر وحضوره هو الجمال المحض والغامض الجمال البري المتوحش فهو يروض بالعطاء اللامحدود لذا كانت خارطة هذه السفن التأمل والنجم الذي تسترشد به هو التأويل وما يؤول إليه تأثيره الإيحائي على المتلقي في لحظة التجلي، وهي تمسك في علوها على الاندهاش. مانحته إياه نهاياتها التأملية، فهي كالحب تتلمس قلق وصولها الأبدي لحظة البدء كمتسعات شعرية لها أبعاد رائعة بصورها المتحركة والمدهشة وهي في تصالح تام مع الفكرة وحضورها الخلاق ينسجم مع روح الشاعر التي تأخذنا لتلك المساحة من الشغف بالابتكار والخلق والتكوين التي تزداد اتساعاً، فبدءاً من عِنْدَ نَوافِذِ بَيْتِكِ ومروراً بهَيْفاءُ، خَارجَةٌ مِنْ دَهْشَةٍ، عِنْدَ أَقْدامِها يَكْبُرُ النَّهارْ .. ثم انتهاءاً عند أَفْلاكُكِ تَهْمِسُ لي بالأَسْرارْ؛ هذه الصور وما يتبعها من إيحاء ويحلق بها من تأويل، كوثبات في الخيال تهب اللحظات المنفردة بوعي تام دلالات مدهشة؛ لذا الشاعر وسفنه متساويان في الأبداع والبحث عن الحقيقة المفعم بيقينِ الوصول الى مدنه اللامرئية: «عِنْدَ نَوافِذِ بَيْتِكِ/ تَتَراقَصُ الأوْطانُ/ كُلُّ داخِلٍ إلَيْها/ وكُلُّ خارجٍ مِنْها/ يُشْعِلُ الحُبَّ مِنْ جِهَتِكِ، وتَلْتَقي الأَنْهارْ/ هَيْفاءُ، خَارجَةٌ مِنْ دَهْشَةٍ، عِنْدَ أَقْدامِها يَكْبُرُ النَّهارْ/ أَفْلاكُكِ تَهْمِسُ لي بالأَسْرارْ». فالشاعر الذي حمل «الحَقَّ العاطفيَّ» وهذه العبارة ابتكار يحسب للشاعر وارتضاها (الحبيبة/ الوطن/ الأرض/ السفينة) حلما ورحيلا، تقرأ الحب وترتديه شوقا يعانقه في بحثه المستمر: «حَملتُ «الحَقَّ العاطفيَّ» معي وارْتَضيْتُكِ حُلُماً ورحيلاً، عابرةً كُلَّ سَفْحٍ وسَهْلٍ وقَفْرٍ ومَنفى، وداخلةً أرضَ وعْدي/ تَقْرئينَ الحُبَّ وتَرتدينَه شَوقاً عانَقَني/ ها قَدْ ترجَّلَ الحُبُّ، لا يَتَلَفَّتُ، كالفجرِ مُنَسكِبٌ، خَطَّ اسْمي على صَدْرِهِ، وعلى صَدْرِكِ النَّرْجسِ». دائما في القصيدة هناك لحظة ستشرق فيها الكلمات وسوف يبدو بريقها الآخاذ، وكأنه يشرق للتو في أروحنا. وكأنها على تماست مع الحياة التي تنتظرنا على الجانب الآخر من القصيدة نستشعروجودها، فما ليس موجودا يكون حاضر بقوة حضور ما هو موجود فالكلمات تشعرنا انه كان حاضرا بالفعل، وحيا يتنفس، فالحاضر دائما موجود بين فراغين الماضي والمستقبل وعلى لحظة من زمن القصيدة يتجسد فيها وعي الشاعر وكلمات القصيدة: «رأيتُكِ في الصَبواتِ إغريقيَّةَ الهَوى، تُقيمُ قُصورَها، عِنْدَ البِحارِ، لعَاشِقٍ زائرٍ، صاعِدٍ فيكِ، تَغَشّى جَوارحَكِ، أَلِفتُ النَّظرَ إليْكِ، واعْتدتُ أنْ أجْعلَكِ نَجمةً سائرَةً وساهِرَةً وزائرَةً، تَمشينَ في الرُّواقِ، ذاكَ، وتَجلسينَ في حُسْنكِ الْمُتَعَدِّدِ، وأُنْصِتُ للشمعدانِ يِحكي عَنْ لُطفِكِ والزَّبَرجَدِ». يمكننا في هذا المقطع سماع الكلمات توفر الإيقاعات لتلك المشاعر البعيدة وهي تنهض في المعاني، أنها خطوات باتجاه ملامح أوبرا حيث الإيقاعات تتدفق كالينابيع والمعاني تزداداتساعاً، وأفقها ينأى بعيداً يلامس الروح وينفتح على المطلق ويبتكر نصا جماليا؛ هنا الزمن مطلق يحمل كينونته ويتحرك عبر الصور في أزمان متداخلة؛و الشاعر يعزف أوبر أو سيمفونية مختصر لتاريخ الجمال والحب حيث تَساقُطُ العُصورِ في وِعاءٍ واحِدٍ: «وأنتِ تَساقُطُ العُصورِ في وِعاءٍ واحِدٍ؛ فَلَأَنْتِ البابليَّةُ الألوانِ، والمُتَعَدِّدَةُ الأجناسِ/ وأنتِ ابْتكارُ الكتابةِ السُّومَرِيَّةِ، أضعُ بها قِصَّةَ الحُبِّ المُجَرَّدِ، تَسيرُ في الأرضِ، ابْتكاراً في كُلِّ مَرَّةٍ/ وأنتِ «الحديثُ العاطفيُّ» المشتَرَكُ بينَ «عَشتارَ» و»إنانا» و»أفروديتَ» و»فينوسَ»؛ تحْمِلُهنَّ سفينةٌ واحدةٌ إليكِ/ وأنتِ الزينةُ الآشوريَّةُ، وهياجُ الروحِ للعُصورِ أجعَلُها ميلاداً/ وأنتِ عيدُ الربيعِ المُتنَقّلُ بينَ الأعيادِ/ وأنتِ رقصةُ الليالي الفِينيقيةُ، بينَ الأحجارِ، عِندَ الماءِ، فَوقَ المِهادِ/ وأنتِ بَلقيسُ،تدخلُ الصَّرحَ المُمَرَّدَ تُعيدُ العهدَ إلى سُليمانَ/ وأنتِ الأغاني الأندلسيّةُ في قُصورِ الخِلافَة، قبلَ نَشيدِ الاسْتسلامِ/ وأنتِ الغَرامُ الأُمَويُّ في أرضِ الجاذبِيَّةِ/ وأنتِ الصِّبا العباسيُّ الفَوّاحُ، حيثُ الألحانُ مَرسومَةٌ على أوتارِ «زريابَ»، يَتلوها الخليفةُ كلَّ حينٍ/ وأنتِ العِقْدُ العَصريُّ الخارجُ منْ أَدراجِ العَاشقاتِ في فَواصلِ العُصورِ/ وأنتِ الرّايةُ التي مازالتْ تَخفِقُ، حيثُ تَمَزَّقَتِ الرّاياتُ، والوطنُ الباقي، حينَ تَجَزّأتِ الأوطانُ، وتَشَظّتْ». هذا المقطع يجعلنا نتسأل هل للزمان عطره الذي يعبر عن الوقت الذي هو فيه، ويرسم براءته وحضوره الأول كهواء نقي وطري لم يتنفسه احد من قبل، حيث يكون الزمن لازمن له، فقط الكلمات هي التي تصيره معنى وتدل على ذاته، بل تصبح هي ذاته والفكرة التي يعبر عنها وتحضر بحضوره، لذا عندما يكتب الشاعر عن الزمن ينظر إليه على اعتباره شعرا وعلى اعتباره فكرة تلائم قصيدته؛ فهو بأمتلاكه للدهشة جعل الزمن يرتدي ثوبه السومري، حيث سومر أول الزمان، أول الكتابة، أول التدوين وشبعاد تجسد أول الجمال وقيثارتها السومرية تعزف أول كلمات دونها الشاعر. وأيضا جعل الأفكار تتحرك عبر الكلمات كموجة من ضوء، فالصور تخرج كحوريات الماء من نهر الزمان بالتماعات أخاذة ومتمردة تضاهي فكرة الجمال ذاته، والشاعر بفكره الحر وخياله المطلق يتعامل مع النص على اعتباره الحياة؛ فالجمال يعيد ابتكار ذاته ويؤكد ديمومته فهو كما يقول (وأنتِ ابْتكارُ الكتابةِ السُّومَرِيَّةِ، أضعُ بها قِصَّةَ الحُبِّ المُجَرَّدِ، تَسيرُ في الأرضِ، ابْتكاراً في كُلِّ مَرَّةٍ). دون الشامسي نصهكأسطورة كانت وستكون عن سلالة الجمال في دورة الحياة، فهو شاعر صميمي، طوع الكلمات وجعلها تشبه الروح وتوحد معها في المعنى البعيد، فجمع العصور في وعاء القصيدة وأستحضر رموز الجمال فيها، كأنما سفنه القادمة تحمل كل هذا الجمال الى وطنه الذي يبتكر الحياة. الشاعر يساهم في خلق حياة جديدة تحدث هنا في القصيدة مع (السفن حياة هائلة) كما يقول في مقدمته، فهو يجعلنا نستمع الى صوت الموجات وهي تسري فوق صفحة القصيدة وهي تحمل أسطورة البحر وزرقته المتناهية والمنسجمة مع افقها وترسل شفرات تأويلها المرتجفة والطويلة على الأمواج في هذا السفر هناك حيث تضج الحياة . سنجد أنفسنا في إلياذة شعرية عربية حيث تتحرر الكلمات من اعتيادها المعتاد: «ثَمِلاً بكِ، بالبَحرِ الجديدِ/ أبْصَرْتُكِ عندَ كواكبي العائدَةِ/ غَرْساً يحْفِرُ القلبَ/ مُسدلةٌ خُصُلاتُ شَعْركِ مثلَ ضَبابٍ بَلُّورِيٍّ على نوافذِ مدائنِ البحرِ الأبيضِ المتوسّطِ، على ضِفَّتيهِ، الوادِعَتيْنِ، الضّارعَتيْن/ تَنسابُ
الضِّفَّتانِ إلى أكنافِكِ/ شاغَلَتْني إغْواءاتُكِ والمَدائنُ، أَلْمَسُ تلكَ وأمُرُّ مَعَكِ بهذهِ، وينْثالُ عِطْرُنا المُشْتَرَكُ،دَلّ على عاشِقَيْنِ مُتَشرِّدَيْنِ، مِنَ الشرقِ الأدْنى». هذه السفن المقبلة دائما من الحلم الى الأسطورة من التاريخ الى حاضر القصيدة هي ثيمة الشاعر الرئيسة والتي يحاول أن يتبعها بكلماته لاهثا خلف موجها يحاول أن يمسك بحقيقتها البعيد الهاربة في اللامرئي: «تَرَكتُ السَّفَائِنَ، والبِحارَ، والاسْتِعْراضاتِ/ مَقلوبةٌ هي وانْكِساراتٌ/ تاهتْ بُوصِلاتُها/ ظلامٌ/ يجتاحُها شكٌّ في قِطافِ «الثُّنائيَّةِ الغَراميَّةِ» والشِّعْرِ/ واحْتَشَدْتُ لكِ/ للضَّرورةِ العاطِفيَّةِ».لغة الشاعر لغة خلاقة وملهمة متصالحة مع حركة الزمن ومتفاوضة معها، وهذا يكفي لفهم معنى حضور الشعر في اللحظة حيث يصبح كماله مرتبطا بكمال الحياة في القصيدة نفسها، فجمال اللحظة الشعرية بكمال حضورها فهي ليست مجرد فكرة احتوتها الكلمات، أو ضمتها الصور من الزمن، بل هو حضور شعري ساطع الحضور. إن الشاعر الشامسي نجح في استدراجنا لمفاهيمه الفكرية، والجمالية، ورؤاه، وفلسفته، ودفع بتجربته الشعرية لحالة من الابتكار والتجديد. بشكل يوازي صميمية فكرة الشعر ذاتها، وفتح لنفسه مجالاً جديداً للتجريب والإبداع، وتحويل تجربته الشعرية برمّتها إلى حالة صوفيّة تتجاوز الواقع الدنيوي، وبثها في مجال روحاني متجاوز الخاص والعام فكلاهما لديه واحد.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 12-07-2019 09:13 مساء
الزوار: 962 التعليقات: 0