|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
قراءة في قصة ( مستشارة الرئيس ) للكاتبة التونسية خيرة الساكت اعداد بقلم الباحث عبد الرؤوف روافي
عاشقة
الصحراء :
فتنة الحكي و أوجاع المعنى
محاولة في قراءة قصة قصيرة للكاتبة التونسية خيرة الساكت.
مُستشارة الرئيسِ
( أنا مغرمة بك جيمي..)
خطت رسالتها على نصف ورقة بسرعة و دسّتها داخل الملف الذي طلبه الرئيس آملة أن يقرأها...لم تجد سبيلا آخر لتفصح عن حقيقة مشاعرها نحوه...دائما ما يجتمعون في جلسات عمل و لكنه لا يتعدى حدود عمله كرئيس و لا يطلب سوى رأيها في مواضيع تخص سياسة البلد العظمى...إنها صديقة ذات كفاءة مهنية...حتى أيام الجامعة لم ينتبه لوجودها رغم تفوقها العلمي الذي كان سببا في وصولها لمنصب مستشارة...تصرف كامل مرتبها على الزينة و الملابس..تتعطر و تتزين طوال أوقات وجودها في القصر الرئاسي…
أخذت الملف و دخلت مكتبه ليتناقشا حول كيفية الاستيلاء على الثروة النفطية لمستعمرة قديمة...بدت صلبة متماسكة كعادتها...تصفح الملف...رفع بصره إليها " جميع المعطيات متوفرة حول الوضع المتأزم في المستعمرة و لكن أين التقرير الذي طلبت منك كتابته لإبداء رأيك في ما يحدث؟"...
أثناء تصفحه للملف سقطت نصف الورقة و استقرت تحت الطاولة دون أن ينتبه إلى ذلك...ابتسم نصف ابتسامة " طيب لا حاجة لي بالتقرير. أعطني رأيك مباشرة حول سبيل حصولنا على حقنا دون التصادم مع هؤلاء الرعاع الجياع". صمتت المستشارة و رددت في نفسها " حقنا"!
أشفقت عليه فهو مطالب بتطبيق سياسة لا تقر بوجود الآخر و لا بآدميته ...الثروات لا دخل لأبناء البلد فيها..هذا هو شعار سياسة المتغولين... قالت بعد برهة " أظن أن تقديم جزء من الثروة لشعب المستعمرة تصرف سليم لإخماد نيران الاحتجاج ". قطّب الرئيس حاجبيه مستغربا.. نصف ابتسامة كالعادة و إشارة بانتهاء الحوار..
خرجت مُستاءة..لم ينتبه حتى لزينتها و ملابسها الفاخرة...ما الذي يجعله سلبيا لهذه الدرجة..زوجته مسنة و لا تقوم سوى بدور السيدة الأولى في المحافل الدولية…
أفاقت باكرا...احتست قهوتها في شرفة المنزل مع شرود يخيم على ذهنها و أرق يلازمها منذ ولوجها قصر الرئاسة…في الشارع رجل و إمرأة يتحادثان...تشابكت الأيادي بانسجام و قطعا الطريق...أيقنت أنها أضاعت الوقت الكثير و سلكت الدرب الخطأ...لا يحتاج الأمر لكل هذا اللف و الدوران و الأرق...
نهضت من مقعدها متوجهة نحو غرفتها...ملابس بسيطة مع مكياج خفيف و عطر عادي...غادرت منزلها عازمة على حل المشكلة مباشرة...ابتاعت ما لا تستطيع أن تبدأ صباحها بدونها...وردة بيضاء جميلة وضعتها في مزهرية على مكتبها فور وصولها…
حملت بعض الملفات كتعلة و اقتحمت مكتبه بهدوء ...مدّ يده قائلا " أهلا...لا أذكر أني طلبت ملفات" ...مسكت يده " أ لم تقرأ رسالتي ...أم أنك لا تشعر بي..." ؟ أنا، قاطعها بنصف ابتسامة كعادته، " آسف لا تروقني الافريقيات ". تراجعت إلى الوراء...لم تستطع أن تحبس السيل الجارف الذي اعتراها عنوة…
غادرت المكتب بسرعة متوجهة نحو الحمام لمسح دموعها...تأملت وجهها في المرآة...وجه حزين تغمره الدموع و شيء آخر لم تلحظه من قبل...
لأول مرة تكتسف أنها سوداء...
********************************
لا شك أن القصة القصيرة ،على عصرنا ، نجحت في فرض نفسها جنسا أدبيا مخصوصا رغم قصر عمرها و محدودية تراكمها و إهمال النقاد لها. فلم تعد لها حدود تكبل حريتها في التطواح و التشعب و عانقت كل أجناس الكتابة فاستدعت من النظم شعريته و مجازه و من الرواية شخوصها و أفضيتها و من المسرح حواره و تراجيديته و مشهديته و من اللغة عموما بلاغتها و طرائق تصريف الكلام فيها فصارت تتقوى يوما بعد يوم لتنفتح على كل التجارب الأدببة طيعة تتعايش مع جميع الأجناس و كسّرت النظرية الأجناسية دون أن تتخلى عن تحصين نفسها من كل أشكال الإقصاء و التسييج فانتصبت في الإبداع أشبه بنبتة الجذمور لا تعيش منفصلة عن أخوات جنسها و إنما تعيش ضمن شبكة من الترابطات الخفية و النشاطات العَلائقية ذات المعين الواحد و إن بدت لنا متباعدة ظاهريا بفعل التفرد و التميز عن باقي الأجناس الأدبية.
و لعل هذه الخصيصة المميزة للقصة القصيرة جعلتها تجتذب عددا كبيرا من الكتاب الذين وجدوا فيها ضالتهم المنشودة للتعبير عن عوالهم و نشر ذواتهم و كشف قلقهم و قلق العالم الذي يعيشون فيه. و من هؤلاء الكتاب، على سبيل الذكر، القاصة التونسية خيرة الساكت صاحبة المجموعة القصصية ( حبر لا ينضب) اخترنا من مجموعتها قصة قصيرة بعنوان ( مستشارة الرئيس ) كانت لنا معها و بها هذه المحاولة في قراءتها.
لمّا كنا على اقتناع تام أن المنجز الإبداعي قِطَعٌ بلاغية في الإنشاء و طرائق مخصوصة في تصريف الكلم و فخاخ منصوبة للمعاني و مخاتلة مقصودة للدلالات تتطلب ضربا من القراءة على درجة بالغة من اليقظة، فقد استنجدنا، و نحن نقدم على هذه المغامرة، بمقاربات في القراءة متنوعة لم يمنعنا اختلافها من المشاكلة بينها .
فاستدعينا المقاربة الفنية لتبيّن الخصائص الجمالية التي تعنى بالمقومات اللغوية و الأسلوبية و التركيبية، و مقاربة بلاغية غايتها التنبّه إلى مكونات البلاغة في القصة بدراسة الصور المجازية و الأسلوب بين الإخبار و الإنشاء، و مقاربة اجتماعية غايتها تبيّن السياق الواقعي بكل معطياته الاجتماعية و السياسية و الثقافية و الأيديولوجية المساهمة في اجتراح المعاني و القضايا المطروحة لما في البِنْيَات التحتية للمجتمع من أثر جدلي في القصة القصيرة ، و مقاربة بنيوية غايتها الوقوف على القصة القصيرة في شعريتها الداخلية بالانتباه إلى معطيات الإنشائية في الخطاب، و مقاربة تكوينية غايتها تفكيك البنى الذهنية الثاوية في طيات البنى السردية و المنتجة لها عبر قراءة الأسئلة المضمرة من خلال الأسئلة المعلنة و تبين السؤال الاجتماعي و السياسي و الثقافي و الايديولوجي المخفي داخل طيات العلاقات بين شخوص الحكاية، و مقاربة موضوعاتية غايتها استقراء التيمات الأساسية الواعية و اللاواعية لهذه القصة و من ثَم تحديد محاورها المتواترة و استخلاص بنياتها المدارية تفكيكا و تأويلا، و أخيرا مقاربة سيميائية غايتها الاعتناء ،قدر الموجود، بالعلامات التخييلية و الشكلية قصد بناء المعاني و الدلالات. و نحن لا ندعي توظيف كل هذه المقاربات بل استثمار ما تيسر منها خدمة للمقصد و تعبيدا لطريق الفهم.
تهتم قصة (مستشارة الرئيس ) بتصوير مشهدين على طرفي نقيض و لكنهما يتكاملان. مشهد البطلة في مكتب الرئيس تحاوره في السياسة لأنها مستشارته. و مشهد البطلة في مكتب الرئيس تعاتبه عن لامبالاته لأنها مغرمة به. و ما بين الحوار و العتاب رحلة آلام و آمال و محاولات و معاناة و سفر داخل الذات و خارجها و رصد لتوتر و انفعالات عكست هموم المرأة بأبعادها النفسية و الاجتماعية و الفكرية.
إن الحدث الذي تعالجه القصة مألوف على عصرنا، فكثيرات هن اللواتي وقعن في غرام رؤساء العمل ، و مع ذلك فقد برعت القاصة في التغلغل داخل أعماق إنسانيتنا متى حولت المألوف مستهجنا و المشروع ممنوعا حين فاجأتنا لحظة التنوير بنهاية خيبت أفق انتظاراتنا: وقوف البطلة، و من ورائها الإنسان مطلقا، على حقيقة الذات في مرآة الذات، إمرأة إفريقية تفيض شهوة و إغراء و لكنها لا تروق لرجل أبيض...حب من طرف واحد ولد ميتا لأنه اصطدم بواقعية عنصرية تقوّم الإنسان ببشرته لا ببشريته.
ترسم هذه القصة على امتداد سطورها حدثا كاملا تحققت وحدته، كما تتطلب أجناسية القصة، من خلال مشهدين دراميين مركزيين محكومين بالتضاد ظاهرا و الانسجام حد التماهي باطنا. و اتضحت ملامح هذين المشهدين عبر شخصيتين أولاهما شخصية المستشارة، رسمت القاصة صورتها متحولة متنامية بتنامي القص من إمرأة ذات كفاءة مهنية عالية و ذات أناقة و إغراء تفيض شهوة و عاشقة صامتة تحجب مشاعرها الفيّاضة...إلى إمرأة صائتة تبوح بحبها وقد تخلت عن رشاقتها متى عادت إلى جمالها السّليقيّ ككل النساء. و ثانيتهما شخصية الرئيس رسمتها القاصة شخصية مسطحة لا تنامي فيها متى حافظ على لامبالاته من مفتتح القصة إلى منتهاها و ليس له في الحكاية سوى نصف ابتسامة يوزعها على مستشارته كأنصاف المواقف عند الساسة. فبدا في ظاهر القصة رئيسا لكنه في باطنها مرؤوس: انتصب على سطح الحكاية كالملك في رقعة الشطرنج يأمر و يقرر و لكنه في عمق الحكاية مجرد بيدق تحركه أياد خفية من وراء حجاب متى كان مأمورا بتطبيق سياسة تحاك في الغرف المظلمة التي تمتلكها لوبيات المال و المصالح شعارهم "نحن و من بعدنا الطوفان" لا يعترفون بالآخر و لا بحقه في ثروات بلاده و لا ببشريته. رأسمالية متوحشة تستنزف خيرات الشعوب و غول امبريالي يرى ذاته سيدا و الآخر عبدا و لا غاية إلا الربح.
بطلا القصة على طرفي نقيض: عاشقة و سياسي و هل تلتقي العاطفة بالواجب؟ لعب بالعلاقات السردية بين الشخوص تجعل القارئ نفسه على حافة سردية لا يعرف ما سيكون من أمر الأحداث. هو في نظرها حبيبها الذي تخون لأجله حقيقتها متى استعاضت عن جِبلّتها الخِلقية بأنواع المساحيق و الزينة و العطور الأخّاذة و الملابس الفاخرة. و هي في نظره مجرد موظفة في مكتبه، مستشارة فرضتها طبيعة العمل و مستلزمات السياسة و إكراهات الأهداف. وفيٌّ لها أشدّ ما يكون الوفاء متى احتاج رأيها سألها و متى أشكل عليه أمر استأنس بملفاتها.
هو يراها تربة صالحة للعمل و تحقيق المصالح تشهد عليها كفاءتها، و هي تراه ،من خلال لامبالاته و برود عواطفه تجاهها ، لا يصلح للحب و المشاعر. هي تحبه حبا عميقا( أنا مغرمة بك جيمي/ أم أنك لا تشعر بي ) و هو يمارس معها العنف الناعم ( نصف ابتسامة ) . يا له من صراع تراجيدي بين مأساة و ملهاة، بين واقع حالم و واقع صادم.
ترصد القاصة في قصتها عوالم عديدة و متنوعة يعزّ حصرها لكن أكثرها جلاء عوالم المرأة في دنيا الحياة. فصورت لنا أحابيلها للإيقاع برئيسها في العمل متى توسلت بفتنة جسدها و تسلحت بمحاسن أنوثتها و مواطن الإغراء فيها (تصرف كامل مرتبها على الزينة و الملابس...تتعطر و تتزين طوال أوقات وجودها في القصر الرئاسي ) ظنّا منها أن رئيسها رجل ككل الرجال و حسبت أنها بسحر جمالها و فيض أنوثتها قادرة على ترويضه و شدّه إلى جنتها لكنها اصطدمت برجل- آلة، مسكون بتحقيق رغبات الآخرين و لا وقت لديه لرغباته . ظنت أنه ظمآن فأرادت أن ترويه و حسبته جائعا فسعت إلى إشباعه لمّا رأت من أمر زوجته ما رأت( عجوز مسنة....) . تفكير أنثوي مغلوط بل ساذج أرادت القاصة، عن قصد أو غير قصد، أن تثبت خواءه. فليس كل رجل شارفت زوجته على الكبر أو لم تعد تكتسب ما به تفتخر الإناث من صور الإغراء و فتنة الجسد و فيض الشبق...يكون في حاجة إلى أخرى كاعب مصقولة الترائب تشبعه. فهل الزوجة وليمة فراش فقط؟ هل الأنثى متاع إلى حين؟ نظرة دونية للمرأة تختزل وجودها في الإشباع و الرّواء و تناست جندريا أنها نوع اجتماعي فاعل ومنفعل ، قائم بذاته و بغيره، قيمتها في النجاع لا في الجماع.
اختارت القاصة لقصتها القصيرة عنوانا هو ( مستشارة الرئيس ) عتبة نصية لا تخلو من إيحاء و قصدية. ورد العنوان مركبا إضافيا جاء فيه المضاف صرفيا اسم مفعول لكنه في الدلالة المعجمية يخون معناه ليكون أقرب إلى الفاعلية متى كان يوحي، في العلاقة بين الطرفين، بالقدرة و التمكن لأن صاحبته مثّلت مرجعا يعود إليه المضاف إليه للاستئناس برأيه. كما رتبت القاصة هذا العنوان ترتيبا تركيبيا مخصوصا فجعلت المستشارة في الصدارة و الرئيس في آخره لأن "الصدارة في ترتيب الكلام كالصدارة في آداب الجلوس دليل فضل". و هذا من شأنه بيان قيمة المستشارة و علو كعبها في العمل. غير أن علاقة الإضافة بين مكوني العنوان توحي بخلاف ذلك إذ حقق المضاف إليه للمضاف الحضور و الفاعلية و نقله من التنكير مفردا إلى التعريف إلحاقا فلا قيمة للمستشارة إلا بالرئيس مضافا إليها و هو ما يعود بالمضاف إلى حقيقته الصرفية اسم مفعول و يجعل العنوان يكتسب دلالة أخرى هي تلك التبعية التي يعانيها المضاف في النحو للمضاف إليه لترسم العلاقة بين المستشارة و الرئيس وفق منطق الاستعمال و الاستخدام تابعة له و لا تحقق وجودها إلا بوجوده و لا يمكنها إثبات انتمائها إلا في حيزه. مما يجعل الرئيس في المعنى السردي للحكاية أرقى من المستشارة و أفضل. فهو الرأس و المركز و هي الأطراف و الهامش ، وإن كانت القصة أوهمت بغير ذلك متى اُعتبرت المستشارة بطلا من درجة أولى و الرئيس بطلا من درجة ثانية. لذلك سعت المستشارة إلى تغيير المواقع و قلب المعادلة لتوزيع الأدوار حين أرادت إبدال العلاقة بينهما من " عرف" و " موظفة" في العمل إلى عاشق و معشوق في الحياة تجاوزا لتراتبية الأعمال نحو انسجام الأحلام.
تصرفت البطلة على طريقة المراهقات فدسّت للرئيس نصف ورقة حبّرتها بأتم كلمات الحب.، فجاءت جملة العشق المخطوطة متراوحة بين البوح و الكتمان. بوح يبدو جليا من خلال هذا الإعلان الواضح للحب ( مغرمة ) و كتمان جسّده هذا التخفي وراء الضمائر( أنا / ك) غايته العروج بالحب من علاقة وجدانية خاصة بين المستشارة و الرئيس في القص إلى علاقة وجدانية عامة بين كل عاشق و معشوق في كل نص لتنقلب الحكاية بينهما تجربة جماعية تطلب التعاود و الانتشار في كل مكان و في كل زمان يجد فيها القارئ صورة منه ترتد إليه لأن الحب، و إن كان في القصة مخصوصا، قيمةٌ إنسانية تأبى النمذجة و تندّ عن الحصر.
كما أن جملة العشق المعلنة قد احتشدت فيها أخص مكونات الحكي من شخوص( البطلة و رئيسها) و طبيعة العلاقة بينهما( الحب) بما هو الحدث المركزي الذي يدفعنا إلى الاستنجاد بالمتن الحكائي لتلمّس القصد. فجاءت جملة عشق خازنة للمعنى سيتكفل المتن بفتح مغالقه عبر جمل قصصية مرتبطة بالحركة و التوتر. أما الحركة فتجسدت في مجموع الأفعال التي قامت بها البطلة( كتابة الرسالة/ العطر و التزين/ الدخول إلى المكتب/ الخروج منه/ العودة إلى البيت/ الرجوع إلى المكتب/ مسك يد الرئيس/ مغادرة المكتب) و مجموع الأفعال التي قام بها الرئيس على قلتها( تصفح الملف/ قطب حاجبيه) و أما التوتر فتجسّد في مجموع الأحوال التي ارتسمت على ملامح الشخصيتين فالمستشارة مرتبكة جرّاء العشق بكّاءة جرّاء الصدمة حزينة جرّاء القهر. أما الرئيس فجَادٌّ في عمله صارم في تطبيق سياسة بلده مستغرب من بلاهة مستشارته و ليس له سوى نصف ابتسامة يوزعها كل مرة وفاء لدبلوماسية العلاقات. إنه الصراع بين نصف ورقة تختزل الوصل من أجل البقاء و نصف ابتسامة تختزل الفصل من أجل الجفاء ...صراع مأساوي أشبه بتراجيديا الإغريق.
لقد كان الأمل يرتكن في بإحدى زوايا نفسها، منه تتدفق حياتها و تتفجر طموحاتها فيّاضة فأعادها الرئيس إلى حقيقتها( لا تروقني الافريقيات ) و أجبرها على النظر في المرآة لتعيد تشكيل تضاريس روحها و تعرف ديدنها في فكر الآخرين ، رأت نفسها في مرآة شفافة تعكس لها صورة حقيقية منها فبدت كما هي على جِلدتها : إفريقية سوداء من فصيلة الزنج تروم بلوغ الأقاصي و تود الالتحاق بنادي البيض الكبار.
لعبة ألوان و صراع أذهان و قضايا إنسان. أما لعبة الألوان فتبدو من خلال هذا التوق الأسود لكسر ذاك الطوق الأبيض، منشودا لا يتحقق إلا في الموجود تلامسه في المتاح من الورد كل صباح . و أما صراع الأذهان فيبدو من خلال التضاد الصارخ بين رأسمالية متوحشة لا هَمّ لها سوى الربح و المصلحة على حساب الفقراء و المعدومين، تستنزف ثروات الشعوب و تفقّرهم لتنعم بخيراتهم لأنهم لم يصلوا بعد محطة الإنسانية و تخلفوا عن ركوب قطار الحضارة و لبثوا في توحّش و بربرية لأنهم ( رعاع جياع)، لفظتان تولدان بالسجع في البديع و التجاور في التركيب سمفونية العولمة يقابلها صوت نشاز تعزفه المستشارة داخل الذات ( في نفسها) على إيقاع التعجب( حقنا!) . صوت يؤمن بالتوزيع العادل للثروة و بقاء الحق لأصحابه( ...تقديم جزء من الثروة لشعب المستعمرة تصرف سليم...) . أما قضايا الإنسان فقد جسّدت قيما عليا و مُثُلا فضلى تروم البطلة أن تخرجها من حكاية القصة إلى ممكنات الحياة كالحب و قدرته على تجسير العلاقة بين البشر، و الدعوة إلى حرية الشعوب و رفع الوصاية عنهم، التنبيه إلى حقوق الإنسان في عالم المصالح و ألاعيب الساسة، الميز العنصري...و غيرها من شواغل إنسان هذا العصر.
قدمت القاصة قصتها في تسلسل حكائي خطي عبر الزمن. فجاءت الأحداث مرتبة ترتيبا كرونولوجيا في خُطاطة سردية موضوعية كشفت أن المتواليات السردية تعاقبية ضمن القالب" الموباساني" تبدأ بوضع انطلاق في اليوم الأول جسّد حركة البطلة في علاقتها برئيسها على صورتين واحدة أشبه بالنقص يحكمها الاحتجاب و السرية هي العشق الصامت مكتوبا على نصف ورقة لأنها( لم تجد سبيلا آخر لتفصح عن حقيقة مشاعرها نحوه ) لكثرة انشغالاته بالسياسة و صورة أخرى أشبه بسَدّ النقص يحكمها الانكشاف و العلن هي المشورة مجسدة في الملفات و إبداء الرأي فيها. ثم سياق تحول أو اختلال في التوازن في اليوم الثاني جسّد حركة البطلة في علاقتها بالرئيس على صورة واحدة هي البوح بالحب و الجهر بالعشق و إخراج له من عالم المطبوعات إلى عالم الملفوظات لعلها محاولة لتنزيل العلاقة بينهما منزلة الممكن، منزلة الحياة. و أخيرا وضع ختام جسّد علاقة البطلة بذاتها واقفة أمام المرآة ترى نفسها بعيون الآخرين فاكتشفت لأول مرة كُنهها و معدنها: إمرأة سوداء لو خرجت من جِلدها ما أحبها و استفاقت من وهم القيم المنشودة لتعود إلى سليقتها الموجودة أنثى غير شهية لأنها زنجية إفريقية.
غير أن هذا التسلسل الحكائي الذي يوهم بالخطّية الكلاسيكية في القص قد خرقت القاصة تتابعه و لَوَت عنق تتاليه بالرجع و السبق حينا و بالوقف حينا آخر لتنتصب إلاها قصصيا يحرك خيوط الحبكة أنىّ شاء.
أمّا الرجع فقد بدا من خلال استدعاء الماضي الذي كان زمنا معرقلا للوصال متى كان حائلا دون البوح بالحب و لم يسعف البطلة بلحظة اختلاء برئيسها لأنهما( دائما ما يجتمعون في جلسات عمل ) بل تعود القاصة إلى ماض سحيق هو زمن الدراسة أيام الجامعة لمّا كانا طالبين لتكشف أن حب المستسارة للرئيس في حاضر القص غائر في الزمن داخل ماضي الحكاية . و أما السبق فقد جسّدته القاصة في مشهد الرجل و المرأة في الشارع ( يتحادثان...تشابكت الأيادي بانسجام...) فترى البطلة في حاضرها، كالعرّافات في التراجيديا القديمة، ما سيكون في حكايتها مع رئيسها في مستقبل الايام لأنها ما كانت ، رغم شرود ذهنها، لتنتبّه لهذا المشهد لو لم تكن تبحث عنه منشودا في وجوه الآخرين. ثم أخيرا الاعتماد على الوقف بما هو سخاء في الوصف و تعطيل لمسار القص و إيقاف مؤقت لحركة الأفعال و الأقوال و استبعاد لنشاط السرد كي تفسح من ورائه القاصة للبطلة فسحة التأمل، كاستراحة المقاتل، في آمالها( لم تجد سبيلا لتفصح عن حقيقة مشاعرها نحوه...) أو في آلامها ( شرود يخيم على ذهنها و أرق يلازمها منذ ولوجها قصر الرئاسة ) أو بشارة عهد جديد منشود( في الشارع رجل و إمرأة يتحادثان...) . يا لها من حبكة قصصية طريفة تأخذ القارئ جيئة و ذهابا في رحلة حكي لها في الزمن مسير و في الأحداث مصير.
لقد استدعت القاصة اللغة و الشخوص و الحدث و المكان و الزمان كما تفرضه القصة القصيرة باعتبارها منجزا سرديا غير أنها خانت وظائفها المرجعية المألوفة متى طوّعت كل تلك الخصائص للقصد فأخرجتها من المباشرة المفصّلة على مَقاس المعنى إلى الإيحاء المتلحّف بالترميز فأنقلب القهرُ الناعم الذي مارسه رئيسُها عليها نعومةً قاهرة تمارسها عليه. مشهدية قصصية تَعْبُرُ معها البطلةُ من تعبير السرد عن العالم القصصي إلى تعبير العالم القصصي عن العالم الحقيقي لترسم، و لو للحظات قصيرة جدا، لوحة عشق منشودة تخلو فيها إلى نفسها و مشاعرها الدفينة . و تَعْبُرُ معها ،تبعا لذلك، القاصةُ من الصورة الجزئية الخاصة بالبطلة و رئيسها إلى الصورة الكلية المُحيلة على كل إنسان في الوجود متى انتصبت حكاية الرجل و المرأة في القصة حكايةً رمزا لكل العشّاق في الوجود لأن حبَّ القصّ لا يخلق قصاصين لكن قَصَصَ الحبِّ يخلق عشاقا. فكشفت عن قدرة بلاغية هي بلاغة التواطؤ و استجابة السياق الذهني للاستعارة الذهنية. و تلك خصيصة القصة القصيرة متى كانت وظيفتها كما قالت الناقدة زهور كرام في دراسة لها بعنوان نحو الوعي العربي بتحولات السرد الروائي العربي "" أن تدربنا، لحظة قراءتها و تحليل خطابها، على ثقافة الإحساس بالحياة و الأشياء و تمنحنا إمكانيات متعددة لإدراك سلوكنا الاجتماعي و طريقة تفكيرنا. لأن القصة تتحول عبر الإيحاء و الترميز و المشهدية السردية من مجرد حكاية في سطور إلى أداة للتفكير"".
على قصر هذا النص في حجمه، فإنه يفاجئنا بهذا الازدحام من الصور البلاغية التي جاءت خادمة للمعنى فاستعدت بعض التشبيهات ( نصف ابتسامة كالعادة..) و الاستعارات ( إخماد نيران الاحتجاج/ لم تستطع أن تحبس السيل الجارف/ وجه تغمره الدموع...) و بعض الكنايات ( هؤلاء الرعاع الجياع/ سياسة المتغولين...) انقلبت معها القصة من حكاية واقعية قائمة على التسجيل إلى حادثة شعرية باعثة على التخييل . كما استدعت القاصة مظاهر التحبيك السردي من خلال تراكب الجمل الفعلية و تعاقبها عبر الروابط الزمنية و المكانية( خطت رسالتها...أثناء تصفحه الملف ...قالت بعد برهة...نهضت متوجهة نحو غرفتها...) رغبة منها في التخلّص من الفواصل و منعا للحواجز التي تكبح اللغة و تعثّر المعاني. كما انتخبت شخوصا رمزية جسّدت صراعا دراميا بين مستشارة عنوانها المأساة تطلب القمة فتأباها لأنها من سلالة الزنج و رئيس عنوانه الملهاة يطلبه القاع فيأباه لأنه من سلالة البيض، سيزيفية جديدة على جبل الحب سعي للبقاء و ارتداد نحو الشقاء. كما تصيدت القاصة أفضية مكانية و زمانية مقصودة خرجت بها من دلالة التأطير إلى دلالة التعبير. فالأمكنة متراوحة بين الواقعية( المكتب و البيت ) و الرومانسية( الشارع الذي يحتضن المرأة و الرجل ) و التأملية(شرفة المنزل بما هي لحظة تأمل كاستراحة المقاتل يقيّم فيها ماضيه و يستشرف فيها مستقبله ) و المأساوية(الحمّام الذي أعاد بمرآته للمستسارة حقيقتها لتعيش مأساتها ) . أما الأزمنة فجاءت على ثلاثة ضروب أولها الماضي المسترجع ( أيام الجامعة ) و ثانيها الحاضر المعيش ( أوقات العمل) و ثالثها المستقبل المنشود( في مشهد المرأة و الرجل ) لكن القاصة تختزل هذا الزمن في لحظتين حاسمتين أولاهما لحظة الحب مكاتبة في اليوم الاول و لحظة الحب مشافهة في الغد. فكشفت من خلالهما مسير الأحلام و مصير الأوهام.
و رغم سيطرة السرد و انتشاره على كامل مساحة الحكي ، لم تهمل القاصة كذلك المكون الوصفي و المكون الحواري. وصف تشكل عبر مجموعة النعوت و الأحوال التي جاءت مبثوثة هنا و هناك على جسد النص فرصدت من خلالها أحوال البطلة و كيفيات حضورها في المشاهد ( بسرعة/ صلبة متماسكة/ مستاءة/ بهدوء...) متراوحة بين اللهفة في علاقتها بمشاعرها و التظاهر بالثقة في النفس في علاقتها برئيسها و الخيبة في علاقتها بالحقيقة . و كشفت بها أحوال الرئيس( مستغربا..،) أمارة من أمارات الاستهجان و الاستهزاء من حب في زمن المصالح . فجاءت أوصافا مكثفة و موجزة في الآن ذاته وفاء للإيجاز و التكثيف في القصة القصيرة. و حوار حضر بنوعيه، واحد ثنائي خارجي مباشر بين الشخصيتين تارة لم تصدره القاصة بأفعال القول بل جاء منسابا في ثنايا الحكي ملتحما به كأنه جزء منه( رفع بصره اليها" جميع المعطيات متوفرة حول الوضع المتأزم في المستعمرة "../ نصف ابتسامة كعادته" آسف لا تروقني الافريقيات" ) و طورا صدّرته بأفعال القول لازمةً نصية تعلن عبرها التحول في نمط الخطاب من السرد إلى الحوار ( قالت بعد برهة " أظن أن تقديم جزء من الثروة لشعب المستعمرة تصرف سليم/ مد يده قائلا " أهلا..) رسما بهذا التنويع في الحوار لتنويع في العلاقة بين الشخوص من الاتصال إلى الانفصال و من وهم اللقاء إلى حقيقة الجفاء. أما النوع الثاني فكان حوارا باطنيا بين البطلة و ذاتها( رددت في نفسها " حقنا") يرسم لحظة من لحظات الوعي العميق بالاستغلال الرأسمالي لخيرات الشعوب و صورة من صور الحنق و النقمة على سياسات امبريالية متوحشة لا تقدر على الجهر بها من موقع الضعف فتحتفظ بها ثورة سرية في أغوار الذات.
قُدت هذه القصة من لغة سهلة لكنها متمنعة عمّدتها القاصة بجمالية الصقل و التهذيب و روعة الاتساق و الانسجام من خلال هذا الترصيف اللغوي القائم على الإيحاء متى خانت المفردة معناها في المعجم لتدل على معنى ترميزي مخبوء في مضانّها . و لنا في الأمثلة التالية شواهد على صحة ما ذهبنا إليه من خيانة المفردة لمعناها:
* حقنا تصبح رمزا للاغتصاب
* الرعاع الجياع رمز للحيوانية
*السيدة الأولى في المحافل الدولية..رمز للمرأة الديكور
*وردة بيضاء رمز لأحلام منشودة
*سوداء رمز للوضاعة و الاحتقار...
و هي نماذج، على قلتها، قائمة على التكثيف و الإيجاز سعت القاصة،عن اقتدار جلي، إلى تجويع اللفظ لإشباع المعنى و تنحيل العبارة لتسمين الإشارة. و يُحسب للقاصة كذلك في قصتها هذا التنويع في أساليب الكتابة و تلوينها مرة بالخبر( خطت رسالتها / دستها داخل الملف/ رفع بصره اليها/ ابتسم نصف ابتسامة/ تشابكت الأيادي...) و مرة بالإنشاء( أين التقرير/ أ لم تقرأ رسالتي/ أعطني رأيك مباشرة...) مما جعل الحكاية تتراوح بين الفعل و الانفعال ترجمانا صادقا عن طبيعة العلاقات بين الشخوص متحولة من وهم الاتصال إلى حقيقة الانفصال.
و رغم انتماء النص إلى أجناسية القصة فإن صاحبته قد انفتحت به على الكتابة الدرامية ذات الطابع المشهدي الممسرح فاستعدت تقنيات عديدة أهمها التشخيص الحواري . فالمستشارة في نهاية المطاف ليست سوى صوت كل إمرأة تراوغ عقلها كي تفتح لعاطفتها كوة تطل منها على الوجود وفاء منها لصورتها المألوفة في كل الذهنبات إنسان عاطفي و كائن وجداني شفّاف و كتلة من المشاعر الفيّاضة . كذلك الرئيس في النهاية ليس إلا صوت كل سياسي ملتزم بأوامر حكومات الظل يراوغ عاطفته كي يفتح لعقله كوة يطل منها على مصلحة أسياده و بلده وفاء منه لصورته المألوفة في كل الأدبيات السياسية آلة عمل و جهاز تدبّر و وسيلة ربح . كما أن مشهد المرأة و الرجل في الشارع ليس إلا تشخيصا ممسرحا لبداية الخلق لأن التنكير و الإطلاقية فيهما ( رجل و إمرأة) يرتقيان بهما من ضيق التخصيص بالمعاينة إلى فضاء التعميم بالتخيّل فينتصبان في الفكر أشبه بآدم و حواء في بدء الخليقة يقطعان طريق الوجود لبذر الحياة في الأرض اليباب. كما أن مشهد البطلة في آخر القصة واقفة أمام المرآة يصدمها كابوس سواد بشرتها ليس إلا قفلة درامية على شاكلة التراجيديا عند الإغريق متى أصبح سواد لونها أمارة سواد مصيرها و علامة من علامات موتها. لا موتا حقيقيا في المكان بل موتا وجوديا في الأذهان .
ألقت القاصة من خلال هذا المشاهد الممسرحة الضوء على عفن الواقع و عرّت تناقضاته السياسية و الاجتماعية و الوجدانية و القيمية و الأيديولوجية لترسم عبرها هشاشة الوجود الإنساني و رغبة الإنسان أن يملأ منه ما أمكن قبل فوات الأوان. فالمستشارة تروم أن تملأ منه الحب و الرئيس يروم أن يملأ منه خيرات الشعوب. لكنه ، في المقابل، وجود بلا معنى متى كانت طرائق العَبِّ منه قميئة . فالمستشارة سلكت فيه طريقا سالبة لأنها خاضت غماره في صورة كائن مطاطي أو عارضة جسد (mannequin ) معتقدة أنها بالجسد و فتنته قادرة على ترويض الرجل و جرّه إلى جنتها. أما الرئيس فسلك فيه طريقا رذيلة في ضوء الرؤية الامتساخية العدائية التي جهر بها في توصيف الآخرين فتحوّل إلى آلة محنطة بلا روح عكست صورة مجتمع رأسمالي بدلالة اسمه الإفرنجي ( جيمي). مجتمع شرير ماتت فيه كل القيم الإنسانية في عصر الحياة الربحية المحنطة بالتشيؤ . فكانت صورته مرآة عاكسة لصورة مجتمع مقنع بالزيف يتشدق بالقيم و التحضر و لكنه في الأصل نظام سياسي جائر أقام حياته على فناء الآخرين و عبّد طريق حريته بجماجم الجياع و حقق معاشه بتجويع الشعوب .
إنها الصورة المخبوءة في قاع الحكاية تروم القاصة أن تجد من ينفض عنها غبار النسيان و ينصت إلى لحنها الحزين ليسمع صوت نقراتها السوداوية و أنين أوجاعها و يكشف كل تيمة من تيماتها المختلفة كالحب و انكساراته، فالسياسة و وحشيتها، فالحرية و آلامها، فالجسد و هزائمه، فالأيديولوجيا و إكراهاتها، فالإنسان و كينونته،...و غيرها من تيمات الوجود.
كما أن هذا النص، على ما أبداه من أشكال الوفاء لأجانسية القصة القصيرة من حيث الإيجازُ في شخوصها و أمكنتها و أزمنتها و وحدة الحدث و تخييب أفق انتظار المتلقي و التكثيف، فإنه نص يخون أجناسيته خيانة محمودة متى قدّم نفسه نظاما لغويا في المقام الأول .كوّن به معالمه الجمالية من خلال ما أنتجه من أشكال فنية و صيغ أدبية. فارتاد الشعر عبر نتاج أدبي قُدّ من لغة و بلاغة و تقنيات كتابة كزوايا النظر و علاقة الراوي بما يروي و تعدد الأصوات داخل القصة متراوحة بين صوت البطل حينا و صوت الراوي أحيانا و التنبّه إلى العلامات السيميولوجية و المتواليات السردية و غيرها . و هي ميزات لم تعد حكرا على الشعر بل انفتحت على القص حتى بات الحديث عن الشعرية في القص ممكنا من ممكنات القراءة و التأويل.
و بالعودة إلى قصة مستسارة الرئيس لفت انتباهنا هذا التنوع في الرؤى السردية إذ نجد الرؤية من الخلف التي يبدو فيها الراوي عليما بالمعارف السردية عارفا بطريقة تقديمها . فالقاصة تعلم ماضي الشخصيتين أيام الجامعة و تعلم طريقة البطلة في تجهيز نفسها بالمساحيق و تعلم ما نص الرسالة التي خُطَت في نصف ورقة و تعلم من أمر زوجة الرئيس ما تعلم. و هي كذلك علمية بالعلاقات بين الشخصيتين تعرف حب المستشارة للرئيس و لامبالاة الرئيس بالمستشارة بل إنها تتوغل داخل ذات البطلة فتعرف ما جال بخاطرها من إشفاق على رئيسها مرة و السخرية منه تارة أخرى عندما رددت في نفسها( حقنا!) . كما نعثر في القصة أيضا على الرؤية مع التي يبدو فيها الراوي مساويا للشخصية فلا يقول إلا ما تعرفه الشخصية ( أظن أن تقديم جزء من الثروة لشعب المستعمرة تصرف سليم لإخماد نيران الاحتجاج/ أ لم تقرأ رسالتي أم أنك لا تشعر بي) و غاية القاصة من زاوية النظر هذه أن يلتقي القارئ شخصيات القصة مباشرة في العراء بلا حاجب و بلا وسيط إيهاما بالواقعية. كما نعثر أيضا على تنويعات دقيقة في السرد تارة بصيغة المتكلم على لسان الشخصية( قالت بعد برهة " أظن أن تقديم جزء من الثروة لشعب../ رفع بصره إليها "جميع المعطيات متوفرة حول الوضع...) و طورا بصيغة الغائب على لسان الراوي( خطت رسالتها.../ إنها صديقة ذات كفاءة.../قطّب الرئيس حاجبيه...) فأدى النوع الأول من الرؤية وظيفة الحكاية ذات التبئير الصغير و اضطلع النوع الثاني من الرؤية مهمة الحكاية ذات التبئير الداخلي. و هي ، في اعتقادنا ،بؤر سردية جعلت الحدث القصصي جليا أمام القارئ يُقَدَّمُ له على نوعين. حدث مُحَلّلٌ من الداخل فيه تحكي البطلة قصتها و القاصة تحكي قصة بطلتها. و حدث مُلاحَظٌ من الخارج متى كانت فيه البطلة شاهدة على قصتها ( مشهد الرجل و المرأة في الطريق) و كانت فيه القاصة حكّاءة لقصة بطلتها من الخارج( خطت رسالتها/ لم تجد سبيلا لتفصح عن حقيقة مشاعرها نحوه/ بدت صلبة متماسكة كعادتها/ خرجت مستاءة/ نهضت من مقعدها متوجهة../ غادرت منزلها/ ابتاعت وردة بيضاء/ تأملت وجهها...) و هو ما يمكّننا من القول إن تقنية الراوي في تنوع زوايا نظره و تنوع أصوات القص و تبادل الشخوص و الراوي للبؤر السردية بينهم قد خلق تعددا في الأصوات على امتداد السرد رغم وحدة الحدث و أحادية الموضوع.
جاءت هذه القصة القصيرة منسجمة مع سرعة الواقع الموضوعي و تناقضاته الجدلية المعقدة التي تستوجب كتابة إبداعية مفارقة و سريعة و خاطفة. لكنها كتابة متماسكة بالتكثيف و التخييل السردي و ذات نهاية مربكة صادمة حققت الإدهاش في المتلقي و خيّبت أفق انتظاراته. فحتى العنوان الذي اختارته القاصة عتبة نصية لقصتها لم يكن مجرد رصف أو تجاور بين مفردتين و إنما " إنشاء نحويا" للوجود متى تعمدت القاصة وضع المرأة في صدارته. و هو ، في اعتقادنا، ليس مجرد انحياز سطحي للمرأة فرضته طبيعة التركيب في اللغة بل كان اختيارا قصديا عميقا للتعبير عن ذهنية المجتمع الذي تعالج القصة قضاياه. لِمَ لَمْ تختر القاصة عنوان قصتها( الرئيس و مستشارته ) مثلا؟ فلا ضيم في التركيب و لا خيانة للمعنى. لعلها بذاك الاختيار عبرت عن مجتمع ذكوري قاس يقهر المرأة و يسحق وجدانها و يستهتر بمشاعرها. يوهما بالصدارة و التقديم و المساواة لغة و يستهجنها و يحتقرها و يزدريها معنى حين انتصت في العرف النحوي اسم مفعول و وعاء للفعل تحضر تابعا لغيرها لا سيدة قائمة بذاتها. كما أن جملة العشق المحبّرة تجعل الحب مشاكلا للإطار الذي احتواه، نصف ورقة أمارة من أمارت عدم الاكتمال و صورة من صور الدّونية و أنصاف الوجود. و لا أدل على ذلك، سيميائيا، أن القاصة وضعت جملة العشق بين قوسين علامة من علامات الحصار و التسييج و السجن الذي يحياه الحب في زمن الربح...في زمن اللامبالاة . حب مطوق مقيد محاصر يروم الانطلاق و لا يقدر. يا له من اقتدار فني جمالي استثمرته القاصة لتنويع الأصوات داخل القصة برهانا سرديا على شعرية القصة القصيرة.
لقد حاولت القاصة أن تسمعنا صوت المستشارة، إمرأة من لحم و دم و عواطف، لكنها عجزت ، أمام سطوة المصالح، فلم تفلح. لا تقصيرا منها و لكنه واقع لا مفر منه ينزّل الوجود بتراتبية جديدة أولها المصلحة و آخرها الربح و لا حضور لقيمة الحب في سلّمها لأنها لا تدرّ نفعا في زمن صار فيه الإنسان شيئا.
حاولت القاصة أن تجعل المرأة في قصتها تتكلم لكنها تكلمت عنها فقط. فذكّرتنا بما قاله الفيلسوف نيتشه في كتابه( هكذا تكلم زرادشت): " بينما كنت أسير اليوم منفردا في طريقي عند الغروب التقيت بعجوز ناجتني قائلة: لقد كلمنا زرادشت مرارا نحن النساء، و لكن لم يتكلم عنا مرة واحدة."و لعمري إن هذه القصة القصيرة صدى لصوت تلك العجوز تودّ أن نتكلم عن المرأة لا أن نكلمها.
و لعل أكثر مواطن الطرافة في هذه القصة القصيرة ، في بنائها السردي، قيامها على المفارقة بما هي أحد أسسها الجمالية. إذ للمفارقة قدرة على تحفيز دلالات النص عن طريق خلق تناقض ظاهري يوهم المتلقي أنه يواجه موقفا غير متسق مما يدعوه إلى إمعان النظر فيه لسبر أغواره حتى ينكشف له عالم من الغرابة و الدهشة. و هي الصورة التي صادفتنا ،نحن القرّاء ، عند نهاية القصة متى تفاجئنا أن سبب لامبالاة الرئيس بالمستشارة يعود الى لونها الأسود و عرقها الإفريقي. و هو أمر مطلوب في كل القصص القصيرة و لا فضل للقاصة فيه . بيد أن فضلها بل مزيتها في هذه القصة أنها تجاوزت المألوف إلى التجريب و التقليد إلى الإبداع لأنها لم تكتف بالمفارقة المعهودة في علاقة القارئ بالموقف المدهش لحظة التنوير بل تجاوزتها نحو المفارقة و الدهشة في علاقة الشخصية بالحدث القصصي ( لأول مرة تكتشف أنها سوداء) مما جعل أفق التوقع و لحظة التنوير مضاعفة. يجد القارئ نفسه أمام كسر أفقين للتوقع : واحد يقع خارج النص بين القارئ و الحكاية ، و آخر يقع داخل النص بين الشخصية القصصية و الحدث القصصي.
لقد حاولنا، على امتداد هذه القراءة، أن نتمكن من روح النص و النفاذ إلى أغواره و الإنصات إلى صوته و تصيّد معانيه و استنطاق مبانيه و تأويل علاماته. و هي قراءة، في اعتقادنا، ساذجة لأنها استسلمت إلى ذلك الفعل السحري للقصة و انقادت وراء التعليق لإمساك الحقائق التي جالت بخاطر القاصة. لذلك نراها قراءة مبتورة متى خضعت للنماذج المنهجية المكرورة و القوالب الذهنية الجاهزة فأماتت القصة من حيث أرادت إحياءها . لذا فإن هذه القراءة تدعو أخواتها من القراءات الأخرى الممكنة. قراءة تتهم القصة الماثلة أمامها بإخفاء القصة الحقيقية التي تسترت عنها القاصة و إجبارها على الحضور أمام القارئ قصة عارية أمام نفسها لحظة الخلق الأول كي تتمرد بها و معها على أسوار النقد و قيود النقاد التي كبّلت الإبداع لتلين تلك النصوص لعريكتهم.
و حاولنا ،قدر جهدنا، محاورة النص و مقاربة مساحاته المعتمة و لم تكن غايتنا فض مغالق القصة و الوصول الى ضوالها أو الوقوع على معانيها قدر سعينا إلى تلمس همومها و مداعبة بُناها و دغدغة تصاريف القول فيها فعثرنا على خير كثير و تعثرنا ففاتنا خير كثير أيضا.
لكنها ، مع ذلك، ككل النصوص قصة مفتوحة تتأبّى عن المحاصرة و مدعاة لقراءات مغايرة تجعل منها نصا حيّا لا نصا مواتا لأن أي قراءة تتدعي محاصرة النص و الوقوع على معانيه إنما هي قراءة على الهامش تعنف النص و تنطقه بما ليس فيه لتلبي حاجتها لا حاجات النص و حاجات القراء في كل مكان و في أي زمان. هي دعوة إلى التطهر للقراءة قبل الإقبال على النص و معاشرته للوقوع على فتنته و بؤر الاستفزاز فيه و السباحة في عمقه المخبوء .
بقلم الباحث
عبد الرؤوف روافي
تالة. الجمهورية التونسية
الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الجمعة 22-05-2020 11:36 مساء الزوار: 1187
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
ميزان النقد في رأي المجتهد بقلم نجم ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في كتاب «معاصر السمسم بين الماضي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 22-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
«شذرات نقدية».. إصدار جديد للكاتبة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 09-04-2024 |
«زهوة تلتقي طيفا» للكاتبة ميسون عوني | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 09-03-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
أدب المقاومة الفلسطينيّة عند سناء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
«العبور على طائرة من ورق»... رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
قراءة في ديوان «المشكال» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 22-12-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |
لمحة عن كتاب «سحابا ثقالا» للكاتبة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 04-06-2023 |
قراءة في كتاب «للأشياء أسماء أخرى» لروند ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 28-05-2023 |
قراءة في رواية «ثلج أحمر» لأمل أبو سل | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 26-05-2023 |