د. نهال عبد الله غرايبة «ماذا لو؟» عنوان للمجموعة القصصية كتبها القاص سمير الشريف، صدرت عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2021م، تقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 120 نصًا قصصيًا، تراوحت بين عدة كلمات وعدة أسطر تناولت الواقع الاجتماعي وعيوبه، وكشفت عن الألم السياسي والهم الوطني والقومي والديني. تميزت القصة القصيرة جدًا بمراعاتها لظروف العصر من حيث ضيق الوقت وعامل السرعة، وسعت إلى إيصال المضمون بشكل سريع وعميق وكثيف للمتلقي، يحمل رسالة وفكرًا فلسفيًّا بأقل عدد من الكلمات، وهذا ما كانت عليه المجموعة القصصية «ماذا لو» للقاص سمير. خلال قراءتي للمجموعة لاحظتُ شيئًا من موضوع أطروحتي للدكتوراه (جماليات الفوضى ودلالاتها في الشعر العباسي: (أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي) أنموذجًا) -نُوقِشَت في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في الجامعة الهاشمية، عام 2020م-، وهو ما أسميته بلاغة التشويش -الذي ورد في الفصل الرابع (جماليات بلاغة التشويش ودلالاتها)-،خاصة تقنية المفارقة وتقنية المحو والكتابة. وبلمحة سريعة لتعريف التشويش أو الشواش، فهو أحد خصائص الفوضى غير المرغوبة، أدمجت اللغة العامية عبر التاريخ فكرة الفوضى في فكرة الشواش، ولذلك تم تعريف (الشواش) بأنه: «الاضطراب أو الاهتياج أو اللجة البدائية»، وبعدها أصبحت مصطلحًا علميًا جدليًا ومثيرًا في الفيزياء المعاصرة، و»المشوش: تكون عناصره ممزوجة بلا نظام ويصعب تمييزها أو يستحيل».(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205)، وكمصطلح علمي، فهو يعد: «نظرية في سلوكٍ يبدو عشوائيًا ضمن نسق حتمي، مثل الجو، فعدم قابلية الأنساق المشوشة للتنبؤ لا ترجع إلى عوز في القوانين المتحكمة؛ بل إلى كون النتائج حساسة لتنويعات دقيقة لا يمكن قياسها في الظروف الابتدائية، مثال ذلك (أثر الفراشة: فكرة أن مجرد خفق فراشة لجناحها قد يحدث فرقا بين حدوث إعصار أو عدم حدوثه)»(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205). وبالنسبة لمفهوم التشويش فهو مستعار من الإعلام، فالنص الإعلامي لابد أن تكون ألفاظه واضحة الدلالة وبعيدة عن الغموض، وخالية من التشويش الدلالي؛ وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة لعدم فهم الرسالة من جانب المتلقي حتى لو تم نقل الرسالة بدقة فائقة» (حسين علي إبراهيم الفلاحي، الديمقراطية والإعلام والاتصال. ص:177)، أما في معاجمنا اللغوية فقد تمت إضافة كلمة التشويش بحذر ودون أن يكون لها أصل عربي، فجاء في لسان العرب أن التشويش لا أصل له في اللغة العربية. ويأتي الشواش من خلال التعقيد اللفظي والمعنوي، بالإضافة لبعض الظواهر والتقنيات الفنية التي تمثل خروجًا وانتهاكًا للمألوف، وخرقًا لقوانين اللغة المعيارية، فتخرج عن المألوف والمتوقع إلى غير المألوف والمدهش وغير المتوقع. إن لبعض التقنيات الفنية دورًا جماليًا، فيتم اختراق الأنساق ومخالفة المألوف رغبة في التشويش، والغموض والدلالة على معانٍ غير مرادة؛ لاستثارة المتلقي وإحداث مفاجأة بما لا يتوقعه، وهذا ما عمد إليه القاص في مجموعته (ماذا لو)، من خلال المفارقة، والمحو والكتابة. تقنية المفارقة: تعد المفارقة ذات أهمية بالغة لما لها من قدرة على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، فالمفارقة هي حدوث ما لا يتوقع، وهي كما قالت عنها نبيلة إبراهيم: لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها. في قصص «ماذا لو» حضرت المفارقة التي تقوم على الجمع بين المتناقضات، والممزوجة بالسخرية: « بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرجت زوجة الرئيس على باريس، لإلقاء نظرة على آخر صرعات الموضة»(موضة، ص9)، فالمفارقة الممزوجة بالسخرية واضحة ما بين المؤتمر الوطني، وصرعات الموضة، إنّ معاناة الشعوب مع حكّامها، خاصةَ من يرفعون شعار الوطنيّة والموت في سبيل الوطن في تلك المؤتمرات، وما يحدث بعدها من تعارض وتناقض، والاهتمام بآخر ما توصلت له الموضة. فالحدث يبدو واقعي، إلا أنه يحيلنا إلى رمزية الفاسد، وهنا فالقاص لجأ إلى هذه التقنية ليدين فيها الاستغلالية والفساد السياسي والانحلال الاجتماعي. في قصة (مضمضة): «عاد من مركز إيواء المسنين، مطمئناً على والده، خلع الكمامة والنظارة السوداء، اتصل بدار الإفتاء:-هل يُفطر من دخل جوفه الماء وهو يتمضمض للصلاة»(ص: 65)، تظهر المفارقة في ذلك النفاق الديني الظاهر، الذي لا علاقة له بسلوك الإنسان وما يمارسه في حياته اليومية، فالقاص يثير وعي القارئ للتأمل ويشوش تفكيره فكيف يسأل في أمر ديني وبسيط، وهو من وضع والده في دار المسنين، ربما أراد من هذه المفارقة أن يثير عاطفة المتلقي، والانقلاب على الجانب الأخلاقي والسلوكي للإنسان في التعامل بالدين. كذلك حضرت المفارقة في قصة (دعاء): «اغتسل، تعطّر، ولبس أجمل ما لديه قبل أن يغرف من صندوق التبرعات مردداً: -اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك».(ص: 96)، المفارقة هنا ممزوجة بالسخرية وكذلك تدل على نفاق ديني، فالسخرية تعد أحد أنماط المفارقة التي يلجأ لها الكتّاب على اعتبار أنها قولًا ضد المراد لغرض الاستهزاء، فالقاص هنا يسخر من فعل هذا الرجل الذي يمثل الأغلبية في طريقة التعايش والتعامل بالدين، والدليل التناقض الظاهر بين (يغرف من صندوق التبرعات) و(اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك)، فالتضاد واضح بين الفعل والقول. تقنية ثنائية المحو والكتابة: قد يمحو الكاتب كل ما يشد النص إلى أصل محدد فيجعله دونما انتماء، وبهذا يعمل على إجراء بعض التغييرات على النصوص فيبتعد عن السياق الأصلي ويعيد إنتاجها من جديد. حضرت هذه الثنائية في قصص المجموعة، فمثلًا في قصة (سنتياغو): «تساءل همنجواي وهو يضع اللمسات الأخيرة على روايته: -هل كان سنتياغو منتصراً، وهو يرى مغامرته تنتهي بهيكل عظميّ؟»(ص113)، إن اسم سنتياغو يستحضر في فكر وذهن المتلقي رواية الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي، فالبطل هو سنتياغو الذي قضى عمرًا وهو يناضل ويحاول بناء الآمال التي هاجمتها قروش البحر، وانتهت مغامرته بهيكل عظمي.لجأ القاص لهذه التقنية لإثارة المتلقي وفتح الدلالات على نصوص أخرى وذلك لتوضيح فكرته، سنتياغو كان رمزًا للشعب الكوبي الذي يقاوم ويصارع ظروف معيشته الصعبة، فقد أراد القاص إيصال خيبات أمله وتبخر أحلامه في إصلاح حال الناس في وقتنا الحالي. وفي قصة (فسادستان): «العبيد في مزارع فسادستان يلهجون بصوت واحد: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}»(ص123)، في هذه القصة يخاطب القاص المتلقي بحسه الفكري متأملًا في التخلص من الظلم والفساد المنتشر، وهنا استحضر القاص الآية الكريمة من سورة النساء(75): {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، فالأية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والسعي في إنقاذ المستضعفين في مكة المكرمة، وفي القصة دعاء أولئك العبيد لربهم للخلاص من الفاسدين واضطهادهم للمزارعين، دعاء ممزوج بنوع من التعب بعد رحلة طويلة من القهر والقمع، والقاص يريد نقل ما يعانيه الناس في مجتمعاتنا من ظلم واضطهاد. حملت قصص مجموعة «ماذا لو» في طياتها رسائل مضمرة، وجاءت في سياقات مكثفة للغة والسرد، فالقاص عندما يريد تحريك ذهن المتلقي نحو النص يسعى لإثارته وكسر التوقع لديه عن طريق الغموض، والمفارقة تدعو للبحث عن المعنى الآخر الذي يتضمنه النص، وفي ثنائية المحو والكتابة يلجأ الكاتب إلى تحوير وتغيير السياقات لبث رسائل مضمرة في ثنايا النص، ليثير فكر المتلقي والبحث عن المعنى المخبوء. وأخيرَا يعد القاص سمير الشريف مبدع ورائد من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا، وإنَّ مجموعة (ماذا لو) تحمل الكثير في ثناياها، وتستحق الدراسة بشكل أعمق لما تحمله من تقنيات فنية جاء بها القاص، فهي مادة وفيرة للقراءة والأبحاث
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-06-2022 10:49 مساء
الزوار: 1160 التعليقات: 0