إبراهيم خليل يعد إدوارد سعيد (1935- 2003) من الأعلام الذين استأثروا باهتمام الدارسين والمترجمين، فقد صدر عن دار صفحات في باريس كتاب بعنوان إدوار سعيد الأنسني (الإنساني) الراديكالي. وهو عنوان طريف لأجل الصيغة الأنسني غير المتداولة، لكن المؤلف أضاف لها عنوانا فرعيا مشيرا لغايته من الكتاب وهو « أصول التفكير ما بعد الكولونيالي « والمعروف أن إدوارد سعيد ولد في القدس في الفاتح من نوفمبر – تشرين الثاني 1935، لكنه قضى معظم سنوات طفولته في القاهرة. وتردد طوال تلك السنين على مدارس تسع. وتأثر في هذه المرحلة المبكرة باثنين هما: عازف البيانو تيجرمان وهو يهودي بولوني هاجر إلى مصر عام 1933 وعلى يديه تعلم إدوارد العزف على البيانو. والثاني منهما هو اليساري فريد حداد الذي عرف منه كيف يتلمس طريقه الصحيح بين المذاهب والتيارات السياسية لاحقا. فهذا الطبيب الملتزم عزز لديه الميل إلى السياسة والتخلص من كل شيء يدعو للإذعان والخضوع للأمر الواقع. يقول المؤلف: إن إدوارد سعيد عانى في صغره من كونه أمريكيا وغير أمريكي، ومسيحيا بروتستانتيا غير كاثوليكي. وعربيا غير مسلم كأغلب العرب. وناطقا بالإنجليزية دون أن يكون إنجليزيا، ولهذا يمكن القول إنه عانى في تلك البواكير من إشكالية الهوية. وعندما غادر إلى الولايات المتحدة (1951)شعر للمرة الأولى بأهمية السؤال: من أنا؟ فكرس الكثير من وقته لاحقا للإجابة عنه. وتعويض الخسارة التي تتمثل في أنه عاش لسنوات طويلة وهو لا يعرف من هو. فرويد وشلومو وابتداءً، وجد إدوارد سعيد إشكالية في الاسم المركب إدوارد – سعيد. فالأول اسم أجنبي غير عربي، والثاني يوحي بأنه عربي قحّ. وهذه هي إحدى المعادلات الصعبة التي اخترعها والداه. وهي تذكره بفرويد الذي كتب عنه لاحقا مقالا مثيرا. فذكر أنه عمد لتغيير اسمه حاذفا منه شلومو الذي ينم على منبته اليهودي، مكتفيا بالاسم الشائع له وهو سيجموند فرويد. وهذا ما كان يبعث الشعور لدى إدوارد بخلو اسمه هو مما يشجعه على الانتماء للعالم العربي. فكلما حاول الوصول إلى إجابة عن السؤال من أنا، وجد في نفسه عددا من الأشياء التي لا توازن بينها، فيحاول جاهدا أن يتعايش مع ذلك كله. تأسيس ثقافي يذكر فريد بوشي في مستهل الحديث عن مسيرة إدوارد سعيد الثقافية شغفه بقراءة الرواية. وهذا شيءٌ تشهد على صحته الأمثلة التي تفوق الحصر في كتابه الثقافة والإميريالية. لكنه شُغف بروايات جوزيف كونراد وهو كاتب إنجليزي من أصل بولوني.فقد وجد إدوارد في روايته قلب الظلام(1) بطلا يشبهه ففيه صورة من ذاته بجل ما فيها من معاناة. ولهذا اختار أن يكتب أطروحته عن هذا الكاتب وأنجزها فعلا ونشرها عام 1966 بعنوان جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية. بيد أن هذا لا يعني أنَّ إدوارد، الذي ألف كتاب الاستشراق، وكتاب الثقافة والإمبريالية، وغيرهما، يكتفي بقراءة الأدب الإنجليزي والأمريكي. فقد أقبل على قراءة جورج لوكاش ولا سيما كتابه التاريخ والوعي الطبقي. وقرأ أعمال لوسيان غولدمان. كما قرأ مؤلفات هيدجر وموريس ميرلوبونتي وكلود ليفي شتراوس ورولان بارت وميشيل فوكو. ولم يفته الاطلاع على مؤلفات أنطونيوغرامشي ورايموند وليامز، ولا سيما كتابه المهم الثقافة والمجتمع. وتعمق بصفة لافتة في آثار هؤلاء بعد أن تصدى لتدريس الأدب المقارن في جامعة كولمبيا منذ العام1963. التوجه السياسي وازداد عطاؤه الأدبي، ووضع الكثير من المؤلفات. منها البدايات: القصد والمنهج 1975 ومنها الاستشراق1977. وفي هذه الأثناء جد شيء آخر أثر في مسيرته. وهو التوجه السياسي الذي بدا واضحا بعد العام 1967. فقد وجد نفسه في أثناء الحرب العربية الإسرائيلية منقسما بين الوفاء لشطرهالعربي الفلسطيني، والتظاهر بالانسجام مع الآخرين ممن توحدت مواقفهم من تلك الحرب مع الإسرائيليين. وهذه التجربة بمرارتها دفعت به للاختيار الطبيعي وهو الأول بلا تردد. فأمام هذين الخيارين لا يستطيع إلا أن يكون في الجانب الذي يحتمه انتماؤه لوطنه فلسطين. وهكذا وجد نفسه بعد سنوات عشر من تلك الحرب عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني في المنفى. وهذه العضوية تمثل بالنسبة له ضربا من الارتباط العلني بالنضال الذي يستهدف مقاومة السياسات الإسرائيلية، والتصدي لها بمنح الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير. لكن والدهُ، كوالدته، كانا ينصحانه من حين لآخر بالابتعاد عن السياسة، والانكفاء على عالمه الأدبي. والنأي بنفسه عن الفلسفة. غير أنّ هذا الموقف الذي امتزج فيه الأدب بالتفلسف، والتفلسف بالنشاط السياسي، ومتابعة البحث في مآلات الهوية، ومفارقات المنفى، أوحى له بتأليف كتاب الاستشراق الذي سبق ذكره. وهو كتاب يميط فيه اللثام عن الكثير الجم من التصوير المشوه لثقافة الشرق العربي في الأدب الغربي، ولا سيما في الرواية التي كتبت ونشرت إبان الهيمنة الأوروبية الاستعمارية على الشرق. الاستشراق لقي كتاب الاستشراق الكثير من الاهتمام. وخير دليل على ذلك أنه ترجم لما يربو على 36 لغة. بعض الترجمات تحمل عناوين مثيرة. منها « الشرق اختراع غربي « و « التصورات الغربية عن الشرق « و « اكتشاف الكولونيالية «. بعيد الاستشراق كتب إدوارد سعيد كتابا بعنوان قضية فلسطين. 1979 وآخر بعنوان تغطية الإسلام 1981. في الأول منهما يتضح أن قضية فلسطين هي الشغل الشاغل للمؤلف الناقد، أما كتابه « الثقافة والإمبريالية « ففيه توضيح لما يتصف به الأدب الاستعماري من تخييل إيديولوجي مبهم، وغامض، مانحا نفسه ضربا من التفوق العرقي المتعجرف. ولم يكتف إدوارد سعيد بما ذكره في هذا الكتاب، ولكنه كتب مقالا مثيرا للجدل بعنوان الكولونيالية الجديدة أماط فيه اللثام عن ممارسات الدول الاستعمارية في إدارة الدول التي قيل إنها استقلت. النص والعالم وفي فصل آخر من هذا الكتاب القيّم يقفنا المؤلف فريد بوشي، الذي ألف كتابه بالفرنسية وترجمه للعربية المغربي محمد الجرطي، إزاءَ ما تفصح عنه دراسة إدوارد سعيد الموسومة بعنوان « النص.العالم. الناقد « كاشفا عن رؤية سعيد للنص الأدبي وموقفه من المنظور الانعكاسي الواقعي، داعيا لتجاوز النظرية البنيوية لأن قبول النسق النقدي الذي جاءت به دون تحفظ يفضي إلى الاعتراف بوجود تجربة غير نصية للعالم. أي إلى إنكار وجود عالم خارج النص، داعيا – أي سعيد- لضرورة الاهتمام باللغة التي تؤدي دور الوسيط بيننا وبين العالم.أما موقفه من التفكيك فيتضح في استبداله عبارة « لا يوجد شيء خارج السياق « بعبارة ديريدا « لا يوجد شيء خارج النص». فلدى إدوارد سعيد تكمن أهمية النص، وقيمته، في أنه يتضمن تجربتنا التي هي مزيج من ظروف كتابته، ووضعه، بصفته حدثا حسيا، أو تاريخيا، لا ينفصل عن زمنه، وبهذا ينهض بدور جوهري في إيجاد الطرق التي بها نمتلك العالم. وفي مجتمعات ما بعد الكولنيالية تظهر اللغة الكولونيالية غالبًا، وتهيمن على النص، أو الخطاب، وذلك بسبب نفوذ السلطة التي أقحمها الاستعمار الأوروبي في البلدان التي زعموا أنها استقلت. ومن هنا ينشأ التعارض بين النص والقارئ كالتعارض بين المستعْمِر والمُسْتعْمَر. التجنيس ويرفض إدوارد سعيد ما كان قد ذهب إليه القسّ الكندي نورثروب فراي (1912- 1991) في كتابه القيم « تشريح النقد « من ضرورة عزل النص الأدبي عمَّا عداه. وهذا في رأي سعيد يمثل ضربا من التمركز الأوروبي. إذ لا يوجد نص أدبي حقيقي في منأى عن السياق. أما المزاعم التي تقول بأن الأجناس الأدبية من شعر وتراجيديا وقصة ورواية لها أشكال ثابتة ولا تتغير، فمزاعم تقوم على فرضيات لم يعد ثمة من يؤمن بها . وإدوارد سعيد بهذا يذكرنا بآراء فيكو في كتابه (العلم الجديد) الذي يرفض فيه مقولات ديكارت عن الأفكار المتمايزة، الواضحة، الثابتة، التي لا تتصل، ولا ترتبط، بأي سياق. ففيكو يستبدل الفكرة التي تقول بأن الطبيعة البشرية في سيرورة، وصيرورة، مستمرة، بذلك التصور السكوني الأبدي الذي لا تغيير فيه. قراءة متبصرة ولدى إدوارد سعيد لا بد من قراءة النصوص قراءة متبصِّرة، بصفتها نصوصا تنطوي على خفايا وأسرار لا تبوح بها إلا بالتدريج عن طريق القراءة تلو القراءة، مع الانتقال لمعرفة الشروط التاريخية. لأنّ هذه الشروط هي التي تشف عن كيفية الاندغام بين بنيات النص وما فيه من بلاغة،ٍ ومن تيارات شعورية، واستدلالات تاريخية، واجتماعية. وعلى الرغم من أنَّ المؤلف تطرق للإستشراق، إلا أنه اضطُرَّ للعودة ثانية لهذا الكتاب، وذلك لأن سعيدا لم يكتف بما فيه، فقد كتب لاحقا مقالات عن الاستشراق الجديد أو المتجدد ضمنه ردودا على بعض المستشرقين، من أمثال؛ سلفستر دي ساسي، و إرنست رينان، وويليام روبرت سميث، و لويس ماسينيون، كاشفا عن دور هؤلاء المستشرقين في صناعة الرجل الشرقي على مقاسٍ اخترعوه للحطّ من قدره، وإظهاره بمظهر الهمجي المتخلّف. الموقف من السلطة يتناول فريد بوشي فيما تبقى من فصول الكتاب موقف إدوارد سعيد من السلطة. وعلاقة كل من السلطة، والمثقف، أحدهما بالآخر. وفي هذا السياق يندرج موقف إدوارد سعيد في إطار المقاومة على مستوى الفكر، والإبداع، أولا، والنشاط السياسي والتصدي للتصورات المنحازة لدى الغربيين إلى جانب الإسرائيليين. وهو في جلِّ ما كتب يؤكد بؤس الفكر الصهيوني، والدعاية الإسرائيلية القائمة على الأباطيل، والخرافات، التي لم يعد أحدٌ في عصرنا هذا يؤمن، أو يهتم بها، إذ ينظر إليها الجميع بصفتها خزعبلات تدعي الصهيونية أنها حقائق بقراءتها الانتقائية، والزائفة، للتاريخ، والكتب المقدسة. وقد يطول بنا الأمر إذا نحن استوفينا ما في هذا الكتاب القيّم من ملاحظ على مسارات الفكر ما بعد الكولونيالي لدى إدوارد سعيد. ولكن ثمة ملاحظة لا نريد أن نختتم هذا المقال دون الإشارة إليها، والتنبيه عليها . فالمقدمة التي مهد بها إدريس الخضراوي للترجمة مقدمة ركيكة، ومليئة بالأخطاء التي لا تليق بكتاب كهذا الكتاب، موضوعه إدوارد سعيد. يقول الكاتب في فقرة تنم على ركاكة التعبير « فكتبه التي بنيت علىالجرأة والصدق والموهبة المتقدة تعد أساسية وراهنية لدرجة أنه يستحيل على المرء فهم تعقيدات الرهانات الثقافية والسياسية للإمبريالية « فالشطر الثاني الذي يبدأ بكلمة يستحيل على المرء لا علاقة له بما سبق. إذ يلاحظ تخبط الخضراوي بانتقاله من راهنية كتب إدوارد إلى رهانات السياسة الإمبريالية. وهذا تداخل يؤدي إلى إبهام، لا
إلى وضوح، مع أنه ينوي توضيح قيمة تلك الكتب. وفي موضع آخر يقول الخضراوي: « لأن الثقافاتمن طبيعتها الهُجْنة. وتأبى الصراعات « وإذا غضضنا الطرف عن هذه الفكرة، فإن كلمة الهُجْنة لا تنم على ما يريده، وهو تواشج الثقافات، وتداخلها، وأخذها بعضها من بعض. عدا عن أن الهجنة في العربية مذمومة، وتعد من المثالب، لا من المناقب، يقولون استهجن عكس استحسن. ويقول في موضع آخر عن مؤلفات سعيد « تلتقي في تفكيك التمثيلات والرؤى والصور النمطية التي رسختها الثقافة الغربية حول الشعوب والثقافات الأخرى « وهذا قد يكون مفهوما لو أنه لم يستعمل كلمة التفكيك، فهي مصطلح من معانيه التأويل، والقراءة المنجزة، غير الانطباعية، ولا البرّانية. علاوة على أن كلمة تمثيلات استعمال غير فصيح، لأن التمثيل بلا علامة جمع يدل على الجمع، وقد شاع استعمال هذه الكلمة شيوع كلمة سلوكات، يريدون بها جمع سلوك. ونظن أن من يستعملون مثل هذه الصيغة في منأى على العربية الفصحى، وعن الذوق السليم، وهم في هذه الحال أعاجم، لا عرب. ومهما يكن الأمر، فإن هذه القراءة لكتاب فريد بوشي، لا تفيه حقه، ولا تفي المترجم محمد الجرطي حقه، فلهما كليهما منا أجزل الشكر، وأوفاه. _____ 1.ترجمها نوح حزين وصدرت في بيروت عن دار ابن رشد 1979
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 07-10-2022 09:15 مساء
الزوار: 711 التعليقات: 0