|
عرار:
نضال برقان بمثابة ملحمة شِعرية بامتياز، حيث ثمّة سرد لبطولة جمعية، وثمّة أصوات ساردين متعددين، منهم من يقف على شرفة الروح، ومنهم من يقف على شرفة الوطن، ومنهم من يقف على شرفة الشهادة والشهداء، وكلهم دائما ينشدون لفلسطين، وعن فلسطين، ومن أجل فلسطين. ذلك هو ديوان «فلسطينياذا»، (الدار الأهلية، 2023)، للشاعر الفذّ علي العامري، وهو وإن صدر قبل عدوان السابع من أكتوبر الصهيوني على غزة بأيام قليلة، غير أنه يحكي الكثير مما مارسه ويمارسه الصهاينة على أرض الواقع من انتهاكات وجرائم ومجازر، بحق البشر والشجر والحجر. في الديوان تفوح روائح فلسطين، بترابها، بنباتاتها، بطيورها، وبأطفالها وألعابهم، وشيوخها وحكاياتهم، والأمهات وزغاريدهن، ودائما بالشهداء وبطولاتهم. لم يؤسطر الشاعر فلسطين فحسب، بل ثمة بعد أسطوري أضفاه على بعض الشخوص المحورية/ الرئيسة في الديوان/ القصيدة، على غرار شخصية (مجنون التلّ)، الذي يحضر في أرجاء مختلفة من الديوان بوصفه معدلا موضوعيا للشاعر ذاته، والذي نراه تارة (ينشّفُ ضوءًا فوق حبال الجيرانِ، ويكتب ما يمليه عليه الظلُّ. يُسيّلُ أغنيةً في وادي زقلابَ، يرافق أشجارَ الليمونِ، يُحدّثها عن حربٍ حرقت أرواحَ الأخضر واليابسْ...)، وأخرى (يكلّمُ ظلًّا مرسونًا عند قناةٍ، ويدسّ غمامًا بين شقوقِ الصّخرِ، ويعقدُ خيطًا حول الغيبِ، ويمشي مثل الضوء المهجورْ...)، وهو الذي (يرافق أشجار الليمون، يُحدّثها عن حربٍ وخنادقَ، عن أطفالٍ ركضوا تحت الموتِ، وعن تاريخِ النارِ، وعن كهفٍ يحلمُ بالطيرانْ...). ويستعيد الشاعر صورة من طفولته، وهي بالضرورة صورة من طفولة (مجنون التلّ)، حيث الانحياز للبريّة والروح الرعويّة وأصوات الطبيعة البكر، وهي صورة يتمسك الشاعر بها كما يتمسك غريق بطوق نجاة، ويستهلها بقوله: (أنا طفلٌ بريٌّ/ أتخذ الريحَ جناحًا/ وأشكّل من ظلاّ الأشجار سريرًا/ لغتي أعجنها بالبرق وطين فلسطين/ أروح إلى جبلٍ/ أصغي لحفيف الزرقة حيت تمرّ قطاةٌ/ أصغي لعواء حجريّ/ وأروح إلى وَجْرِ المعنى)، ليختمها بقوله: (لم أولد بفلسطين/ ولكن/ مسقِطُ روحي/ في كلّ فلسطين...). تلك الطفولة ستظل حاضرة في جل صفحات الديوان، تارة من خلال حكايات الجدّ، وأخرى من خلال حكايات الأمّ، وهي حكايات تتمحور حول صورتين غالبًا: صورة فلسطين/ العروس/ البهيّة، وصورة العدو وهو ترتكب مجازره هنا وهناك، على غرار ما يسرده في المقطع الآتي: (...قالت لي أمّي: دع حدسك في القلب يرى/ هذا العالم أعمى/ يًدْبي/ في زمن أعمى/ نحن ذُبحنا برصاص عصابات اشْتِرْنَ وإرْغونَ وبَلْماخَ وهاغانا، إذ خرجوا من جوف حصان خشبي ضخم من صنع بريطانيا، خرجوا بقلوب مظلمة كالقطران، وعاثوا قتلا فينا...). وبما يتناسب وتنقل زمام السرد والوصف والحكي بين ساردين عديدين من جهة، والانتقال بخفّة بين ملامح الشِعرية من جهة أخرى، جاء الديوان مفعما بإيقاعات متنوعة، وفضاءات موسيقى، أضفت على الديوان مسحة من التجدد والحيوية. الديوان يختتم بمقطع صغير، يشبه نشيدا تردده جوقة من نهاية عرض مسرحي ملحمي، يحمل رؤية جمعية، وينطق بلسان جمعي، ويختزلُ الأمل الجمعي أيضا، يقول: (النارُ في حجرٍ تنامُ/ ونحنُ نوقظُها/ هنا/ في وجه محتلٍّ يَهِدُّ بيوتَنا/ ويقيمُ فوقَ صدورنا/ هذا الجدارّ العنصريَّ/ يقيمُ أوهامًا/ ويعرفُ أنه لنْ يعرفَ النومَ العميقَ/ ولا الخفيفَ/ هُنا.. هُنا في أرضِنا). في الديوان حكايات وسرود وقصص معجونة بفلسطين، بترابها وتراثها ودماء شهدائها، وفيه كذلك شِعرٌ صافٍ، مهموسٌ، ومهجوسٌ بتمائم وحدوس وشموس. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 04-01-2024 08:01 مساء
الزوار: 300 التعليقات: 0
|