كثافة الخطاب الشعري قراءة في ديوان «كتاب الحدوس» لعلي العامري
عرار:
انتصار عباس تنطلق المجموعة الشعرية الموسومة بـ»كتاب الحدوس» -وهي مختارات من ثلاث مجموعات شعرية سابقة للشاعر علي العامري من جوهر الشعر بأعلى قيمة تشكيلية وتعبيرية، وقد صدرت عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمّان 2021، لتحتفي بالمفردة الشعرية والصورة الشعرية والإيقاع الشعري على نحو شديد النقاء والصفاء والتجلّي الشعري الراقي، إذ يأتي شعره مسكوناً بالعشق النوعي الأصيل وهو يناغي الوطن والحياة برؤية شعرية عميقة ونافذة، وقد حفر الحب في روحه الكينونة الأولى فتجلت صوره في مرايا الماء. ثمّة نبض دافق يبدأ مع كلماته الشعرية ليوقظ العشب والمطر وظلال حياة لبست أثوابها فيه، إنّه شاعر ممسوس بحب الوطن الكبير والوطن الصغير متمثلاً بـ(القليعات)، ومشحوناً بحضور الأم في نموذجها الخصب المورق بالحياة داخل لوحة شعرية تجعل من الذات الوجه الثاني للآخر، في خطاب شعري متكامل على مستوى اللغة والصورة والسرد الشعري: «في ظلّها قلبي يرفرف كلما نهضت إلى مرآتها حتى تضيء يد الغمام في ظلّها ظلّي ينام» يتكرر دال «الظلّ» مع دال «المرآة» كي يمنح الخطاب الشعري هذا القدر من الرؤية الكامنة في الصورة المنعكسة للحضور، وهذا «الآخر» الحاضر بقوّة في جوهر الذات يطوف على أرجاء الصورة الشعرية كي يمنحها حياة أخرى إضافية، حياة مشحونة بالدفء والأمان والفرح والبهجة ضمن سيرورة شعرية لافتة وطريفة وجديدة. يؤنسن الشاعر الطبيعة والحيوات وكل ما حوله في دائرة المكان الشعري، حتى الغرفة إلى فتاة عاشقة ومعشوقة، إن غاب عنها جلست تنتظر؛ وإن هاجت فيها الذكريات وسافر بها الشوق تسأل أينه، ومن ثمّ تتحرك الجدران لتحتضن بعضها وتتوجس دفء أنفاس ذاك العاشق في تشكيل شعري متكامل: «الغرفة لا تنسى الغرفة تبكي حين أغادرها وتلملم ما يتطاير من ريش ممسوس تجلس قرب الأوراق تحكّ الوحدة والصلبان وتفتح أنهارا تائهة في الصيف الشاسع تخلع أقماراً وتثير جماح الذكرى»
الفاعل الشعري هنا قميصه كي تؤنسنها روائحه إذ ما غاب، لكنّ المفاجأة الشعرية تحدث وقد توحد القميص والغرفة في كيان تشكيلي واحد، إذ تبلغ حساسية المكان «الغرفة» أعلى درجات أنسنتها لتتحول في مشهد الخطاب إلى فاعل شعري مصيري، داخل صورة شعرية متعددة الأطراف والصيغ والمالآت والأجزاء، فتحتشد مجموعة من اللقطات الصورية الصغيرة لتكوّن الصورة الكبيرة القادرة على الاستجابة لعمق التجربة واكتمال فضاء الخطاب.
تتجسد الأشياء والأدوات والدوال والمفردات بكامل عنفوانها وحركتها في الصور الشعرية المحلّقة في لوحة الخطاب، فتزدحم تجليات الأماني وهي تحاكي الحياة الشعرية وقد ازدانت الرؤية الشعرية بطاقة اللون، حيث تخترق شعرية الألوان فضاء الخطاب وتهيمن على أجزاء الصورة داخل لوحة متكاملة تتحرّك فيها حيوات الشعر: «طفل بقميص أخضر يمشي محتاراً مثل خرافات غير مدونة وصباح يتسلق جسداً أرض عابقة بسنونو ودخان يتصاعد من قوس قزح» إن شخصية الطفل الشعرية هنا ترسم مسارا تشكيليا خاصا من خلال حضور اللون الأخضر «قميص أخضر»، وقد شبهه الشاعر بـ»خرافات غير مدوّنة» تعبيرا عن حضور الصفة الشفاهية المرتهنة بالعفوية والبساطة والمباشرة، إذ تسهم فعالية الدوال الشعرية الأخرى المصاحبة لهذا اللون «صباح-جسداً-أرض-سنونو-دخان-قوس قزح» بتصعيد الحالة الشعري في الخطاب، والاقتراب من تشكيل الرؤية الجمالية الخاصة بين المفردات ومعانيها في صورة شعرية متداخلة تجمع الحسي والمعنوي، والخاص والعام، والمتحرك والساكن، في لوحة واحدة تضفي عليها الألوان المباشرة وغير المباشرة قيمة تشكيلية عالية المستوى. يعدّ «الحب» القيمة الأكثر حضورا وتجليا في قصائد هذا الكتاب على أكثر من مستوى وأكثر من صعيد، حيث يتحول مفهوم الحب هنا إلى مفهوم شعري واسع وعميق وأصيل لا تحدّه حدود لأن الشعر في المقام الأول هو تجربة حب داخل ميدان اللغة والصورة والإيقاع، وقد تكشّفت قصائد الشاعر علي العامري في «كتاب الحواس» عن حضور استثنائي للحب في أكثر من رؤية، يتعلق بعضها بالقيمة الرومانسية المعروفة للحب أو القيمة الحسية التي تمنح الحب طاقة شعرية أكبر في اللغة والصورة الشعرية. يمكن معاينة كثير من اللقطات الشعرية التي يحضر فيها الحب بوصفه ثيمة مركزية ذات طبيعة جمالية وتعبيرية في قصائد الشاعر، ففي إحدى لقطاته الشعرية يستثمر تشكيلا استعاريا طريفا ولافتا للتعبير عن قوّة الحب وقدرته على أنسنة الأشياء: «في الحب يطير النوم وتدمع عين الباب» إن جملة «يطير النوم» الاستعارية تحيل على موروث شعبي يدل على فكرة استعصاء النوع على العاشق لفرط تفكيره بمعشوقه، فيطير النوع بعيدا عن عين العاشق ويبقى الحب هو البديل الدائم في هذا المجال، أما صورة «تدمع عين الباب» التشخيصية المؤنسنة فهي صورة شعرية موازية للصورة الأولى وتعبّر عن حرارة الانتظار، التي يكون فيها الباب فاصلا بين حضور الحبيب وعدم حضوره في الصورة الشعرية المتخيّلة. يسهم دال الحب في تغيير نواميس الطبيعة وحركة البشر على نحو فاعل ومؤثر في سياقات طبيعية كثيرة لا يمكن لغير الحب أن ينجح فيها: «في الحب يضيع الليل على الطرقات ويعلو خط السهو قريبا من الماء» للحب قدرات استثنائية كبيرة على دحر النمطية وتغيير نواميس الأشياء في الطبيعة والكون والإنسان معاً، فاللقطة الشعرية المتمثلة بـ»يضيع الليل على الطرقات» تمثل على الصعيد المجازي تغييراً في حركة الأشياء الزمنية والمكانية، فالليل حين يضيع على الطرقات تفقد قوانين الطبيعة مقدرتها على التحكّم بالأشياء، إذ حين يضيع الليل فمعنى هذا أن النهار هو البديل على نحو تختلط فيه الرؤية الزمنية مع الرؤية المكانية وتتلاشى الحدود، وكذلك في اللقطة الموازية لها «يعلو خط السهو قريبا من الماء» فإن الاختلاط الذي يحصل في قوانين الطبيعة تجعل كل شيء مباحاً، بما يجعل فعل الحب فعلا أسطوريا لا يلتزم بقواعد الحياة وتقاليدها ومواضعاتها المعروفة، لتكون شبة الجملة «في الحب» هي لازمة شعرية متكررة على رؤوس اللقطات الشعرية مصدراً جديدا من مصادر تشكيل الحياة. يكاد الشاعر يختصر قدرة الحب على خلق أشياء جديدة في لقطة شعرية تحول الحب إلى شكل من أشكال الزمن الجديد القادر على صوغ رؤية جديدة: «في الحب صباح يتدلى مثل الخيط المسحور» إذ إن داخل فضاء الحب زمن خاص ومكان خاص ورؤية خاصة تتشكل من وعي الذات العاشقة وكيفيتها في التدليل والتصوير، ومن هذه المفردات الأساسية الزمنية للحب هي مفردة «صباح» التي تدل عادة على بدايات الأشياء وانطلاقاتها، فيظهر الحب هنا على أنه سقف الحياة ومنه «صباح يتدلى» كي يشرف على العالم والأشياء، ولا شك في أن تدلّي الصباح من سقف الحب يوحي بالحضور والهيمنة المطلقة والتأثير الكبير، غير أن الصورة التشبيهية للصباح المتدلّي «مثل الخيط المسحور» يحوّل هذا الصباح إلى طاقة تأثير لاشعورية، فالصفة «المسحور» تشتغل شعريا هنا بوصفها تحمل خزينا هائلا من المعاني والدلالات على الصعيد الفردي والشعبي، على ما يحمله الخيط المسحور في الذاكرة التخييلية الشعبية من حكايات ذات طابع أسطوري وخرافي يلتقي مع فكرة الحب في خرافيتها وأسطوريتها. الشاعر علي العامري شاعر كبير في قدرته على تطويع اللغة وبناء صورة شعرية فريدة، والتصرف بالفضاء الإيقاعي داخل حساسية التفعيلة الشعرية العروضية، إذ يفيد من الترخصات العروضية بطريقة تتلاءم جماليا وروحيا مع التجربة والمحتوى والمضمون، مما يجعله شاعرا نوعيا نسيج وحده لا يشبهه شاعر آخر ولا هو يشبه شاعرا غيره
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 12-08-2022 09:38 مساء
الزوار: 896 التعليقات: 0